الحفاظ على التوازن النفسي والاجتماعي أثناء أزمة كورونا وما بعدها (5) – د. رضي حسن المبيوق*

اللقاح سيعالج الجانب الصحي للبدن ولكن الآثار النفسية (قليلها أو كثيرها) قد تكون طويلة الإستمرار والبقاء وخاصة إذا تركت وشأنها. لابد أن ينال الجانب النفسي درجة كبيرة من الإهتمام، ومفردة “الجانب النفسي” عامة وأتمنى من خلال أسئلتكم أن نسلط الضوء على جوانب نفسية معينة. أتطلع بإهتمام إلى أسئلتكم ومداخلاتكم.

 

السؤال السادس

لا يخفى عليكم برفسور أن هناك عدة نظريات لأنماط الشخصية ومنها تصنيف مايرز-برقز الذي اعتمد نظرية كارل يونغ في الشخصية. والسؤال: كيف يكون التأثير النفسي للحجر المنزلي على هذه الأنواع المختلفة؟ وما ردود أفعالهم من جهة الإنضباط والإلتزام بالقوانين التي تضعها الجهات المختصة لتفادي إنتشار الوباء؟

***

الجواب: هذا السؤال مركب من عدة طبقات: تصنيف مايرز-برقز، نظرية كارل يونغ، تأثير الحجر المنزلي على الأنواع المختلفة للشخصية، مدى الإنضباط والإلتزام لكل نمط.

يرقى هذا السؤال الى سؤال بحث لرسالة ماجستير او حتى دكتوراه. وسأجيب عليه بإعطاء نبذة قصيرة عن كارل يونغ ونظريته ومن ثم نتطرق لتصنيف مايرز-برقز وإعطاء نقد له، ومن ثم سأتطرق الى التأثير النفسي للحجر على نوعين من ال ١٦ نمط وأخيرا نتحدث عن درجة الانضباط والإلتزام بقوانين الحضر الرسمية. نبدأ بإعطاء نبذة عن صاحب النظرية ونظريته.

نظرية كارل يونغ

معرفة شيئ عن صاحب النظرية يعطينا فكرة عن العوامل التي صاغت فكره وتوجهه العلمي.  كارل ينغ عالم نفس سويسري وكان قارئ نهم وقرأ كثيرا لنيتشه وكان عنده اهتمام بدراسة الحضارات والآثار. كان في بداية مشواره العملي والعلمي متوجها لدراسة الطب ولكنه غير مساره لدراسة علم النفس وكان يدير معهدا للبحوث في العته المبكر (مرض الفصام) والذي كتب عنه كتاب يحمل نفس العنوان. بدأ كارل يونغ مشواره في مدرسة علم النفس التحليلي لسجموند فرويد وكان من المقربين جدا لفرويد وكان من المفترض أن يكون هو حامل شعلة التحليل النفسي من بعد فرويد الا ان كارل يونغ أعلن استقلاله الفكري وجنح عن مدرسة التحليل لتركيزها الكبير على الدوافع الجنسية للسلوك الإنساني والذي يفسر ويشخص الاضطراب النفسي على أساسه. وبدأ يؤسس أفكاره التي انتقت من فرويد بعض الجوانب.

نظرية كارل يونغ في أنماط الشخصية

أنماط الشخصية التي صنفتها الآنسة مايرز وابنتها برقز تعتمد على نظرية كارل يونغ التي تتلخص في ثنائية الإنبساط والإنطواء. الإنبساط يعني الشخص المنفتح والإجتماعي والذي ليس له تردد او رهاب اجتماعي ويستمد سعادته من علاقاته مع الآخرين. والعكس من ذلك هو الإنطواء بما يشمل الهدوء والحذر من الآخرين وعدم الميول للتقرب من الآخرين وحب الإنزواء. كارل يونغ يركز على مبدأ الثنائية ويزعم بأنه “ليس هناك  إنسان منبسط كامل (من مصطلح الإنبساط) وليس هناك إنسان منطوي كامل، لأن كائن كهذا لا يوجد إلا في مستشفى المجانين”. وشخصية الإنسان هي مزيج من الإثنين بل هي نتيجة صراع مستمر لهاتين القوتين النفسية.

تصنيف مايرز وبرقز (Myers-Briggs)

الآنسة مايرز ومنذ سن مبكرة كانت تركز على الفروقات الفردية وكانت تبحث عن أسباب هذه الفروقات وعن تداعياتها وتأثيرها خاصة على توجه الإنسان في الحياة وخاصة الوظيفي منها. وكانت تقارن شخصيتها مع شخصية زوجها وابنائها. وإطلاعها قادها وابنتها برقز الى نظرية كارل يونغ وببراعة وابداع اخذوا مفهومي الإنقباض والإنبساط ووسعوه وقدموا أربعة تصنيفات كل منها يعتمد مبدأ الثنائية او التضاد (dichotomy). والتصنيفات الأربعة هي:

1- الإنبساط والإنقباض (Introvert (I و (extrovert (E

2- (Intuitive (I و (Sensory (S حدسي او تلقائي ضد حسي او شعوري

3- تفكيري او تأملي ضد إحساسي او مشاعري (Thinking (T و (Feeling (F

4- حكمي و إدراكي (Judging (J و (Perceiving (P

وانبثق من هذه التصنيفات ١٦ صنف من أنماط الشخصية وكل حرف من الصفات الثمانية استخدمت في مزيج معين للإشارة الى نمط شخصي. فمثلا النمط الذي يتركب من مزيج من أربعة مكونات من الثمان الرئيسية: ISTP يشير الى الشخصية المنقبضة الحسية والإدراكية والتفكيريه، ونمط آخر يتركب من ISF يرمز الى الشخصية المنطوية الحسية والإحساسية وهكذا.

نقد لتصنيف مايرز وبرقز

الآنسة مايرز لم تحظى بفرصة الدراسة والتخصص في علم النفس او العلم او الطب النفساني ولا حتى في علم القياسات ( التي تستخدم لقياس الشخصية كمثل) وهذا يثار من قبل الناقدين على تصنيفات مايرز وبرقز الذي أسس الى تجارة قياس الشخصية التي تقدر ببليوني دولار سنويا وأكثر قياس شهرة واستعمالا هو قياس مايرز وبرقز. معظم المدارس الثانوية تستخدم هذا القياس لتحديد المساق المهني او الوظيفي للطلبة والطالبات اي أنه يعمل توأمة بين مؤشرات لنمط من أنماط الشخصية مع تخصص أكاديمي او مسار مهني.

جوهر النقد ينصب على أن التصانيف (categories) التي جاءت بها الآنسة مايرز وابنتها برقز واعتمدوا عليها في استخراج الستة عشرة نمط للشخصية لا تستند الى قواعد علمية جيدة والتصانيف تفتقد الثبات او الاعتمادية (reliability) والصحة (validity) والاستقلالية (Independence) والشمولية (comprehensiveness)، وبناءا على ذلك يجب أن لا تأخذ التصانيف التي تؤسس الى أنماط الشخصية مأخذ الجد.

الباحث التركي الدكتور مروة إمرا (Dr. Merve Emre) كتب كتابا بعنون “سماسرة الشخصية: تاريخ قياس مايرز-برقز وولادة قياس الشخصية “انتقد فيه قياس مايرز وابنتها بأدلة علمية”. ويحذر هذا الكاتب بأن مستهلكي قياسات أنماط الشخصية غالبا ما يعتقدون بحتمية نتيجة القياس، أي انه اذا كانت نتيجة القياس تشير بثقل وكثرة سمات او مهارات شخصية معينة فذلك يعكس مايلزم على الطالب أن يدرس أو يختار كمسار وظيفي، أو أن يستنتج شخص ما ان نمط شخصيته ينسجم مع بعض الأنماط وليس مع غيرها وفريق العمل لابد أن يتكون من هذا الخليط من أنماط الشخصية وليس تلك. الباحث لا يقول بأنه لا يعتقد بمبدأ الإنسجام والتنافر وعوامل الجذب وعكسه بين الناس ولكنه يركز على حتمية نتيجة القياس التي قد لا تترجم وتفسر بمرونة وبتعقل. ويعتقد الكاتب بأن شخصية الإنسان معقدة وعميقة ومن الصعب حصرها في سلوكيات تتماشى مع نمط شخصي معين. ومن الضروري استخدام نتائج القياس لمبادئ ومفاهيم تستند الى أسس علمية رصينة بمرونة فما بالك بالقياسات التي تفتقد مقومات علمية!

تأثير الحجر الصحي على أنماط الشخصية

نأتي الآن الى بيت القصيد: تأثير الحجر الصحي على أنماط الشخصية المختلفة ومدى درجة تقيدها بأنظمة الحجر الصحي ،

ليعذرني سائل السؤال بأن المجال لا يسع للتحدث عن تأثير الحجر الصحي ومدى الإلتزام بقوانين الحجر على كل ال ١٦ نمط في نموذج مايرز-برقز وسأكتفي بالحديث عن صنفين في الإجابة. النمط الأول هو المشار إليه بأحرف ISTP)Intuitive/Sensory/Thinking/Perceiving)

توصيف مايرز وبرقز لهذا النمط هو أن الشخص يتمتع بالتحمل والمرونة والملاحظة الهادئة لما حولهم وبمجرد أن يواجهو مشكلة ينبرو لإيجاد حل او حلول لها. لهذه الشخصية قدرة على تشخيص المشكلة والتركيز في التفكيرعلى الأثر والمؤثر وانتهاج طرق منطقية في ترتيب الحقائق. بناء على هذا الوصف بالإمكان توقع هذه الشخصية أن تتعامل مع ظروف الحجر على أنها مشكلة قابلة للحل فأي الحلول هي أنجع للتعامل معها. وأقول كل هذا من باب الإحتمال لأن النمط الشخصي عامل واحد من العوامل الكثيرة التي لها علاقة بتحمل تبعات الحجر الصحي والتقيد بالأنظمة التي تحد من حرية التنقل خلال الأزمة. ومن تلك العوامل العمر، الجنس (ذكر ام أنثى)، الإلتزام بعمل ام لا، متزوج ام لا وإذا متزوج هل هناك أطفال وماهي اعمارهم وعددهم وايضا الوضع المعيشي اضافة الى وجود او غياب دعم ومساندة عاطفية للشخص فكل ذلك يؤثر في مقدرة هذا الشخص على التأقلم والتماشي المعقول مع ظروف الحظر المقيدة لحرية التجوال والهادمة للروتين المعتاد.

والنموذج الثاني من الشخصية الذي ارغب في الحديث عنه هو المركب من الحروف ISF والتي ترمز الى Intuitive/Sensory/Feeling. الشخص الذي تنطبق عليه توصيف الحدسية او التلقائية والحسية والشعورية او العاطفية ويتحلى بالهدوء والأخلاق والمسؤلية وبأداء الواجبات على أتم وجه، يميل هذا النمط للحفاظ على محيط او جو منظم ومنسجم سواء في البيت او العمل. وبناء على القسم الأخير من الأوصاف (بيئة منظمة ومنسجمة في العمل او البيت) يشجعني على التنبئ بأن الشخص الذي تنطبق عليه هذه الأوصاف لربما يجد صعوبة في تحمل ظروف الحجر الصحي ولكن سيلتزم بأنظمة الحجر الصحي لشعوره العالي بالمسؤلية. أزمة كرونا غيرت الوضع المعتاد (الذي له نظامه وانسجامه الخاص بالشخص) وهذا سينعكس على مزاج ونفسية هذه الشخصية. لم أقرأ في وصف هذا النمط شيئا عن الرغبة في حل المشاكل وإيجاد حلول وهذا يدفعني للقول بأن أحد أهم وسيلة للتعامل مع أي أزمة هي القدرة على إدارة المشكلة ومواجهتها والبحث عن طرق للتعامل السليم معها.

السؤال السابع:

والذي هو في الحقيقة مداخلة تحتوي على العديد من الأفكار والرؤى والنصائح القيمة

***

 المداخلة هي: “مرحبا، أولا أرى أن الشعور بالحزن هذه الأيام أمر مقبول تجاه ما يحدث حاليا لان حالة الحزن رد فعل طبيعي على الخسارة الا وهي خسارة الحياة الروتينية التي كنّا نعيشها ويجب علينا تقبل هذه الحالة وستمر بمراحل الإنكار والغضب والمساومة واليأس وأخيرا التقبل: من الجيد تقبل مشاعرنا ونتعامل معها لكن إذا وصلنا لمرحلة لا نستطيع التأقلم معها هنا يجب أن نطلب المساعدة من أحد المختصين سواء من الأصدقاء او غيرهم، ايضا يجب محاربة الرغبة في الإنسحاب والبقاء على اتصال دايم بأي شكل كان سواء دردشات، مكالمة، فيديو. نقطة أخرى التركيز على ما يمكن السيطرة عليه الآن وأخيرا الإقبال على البهجة والإمتنان”.

كلمات جميلة وتعكس واقعية في النظر الى الأزمة والتعامل معها وايضاً تعكس الإنفتاح والتفائل والنظر الى ما بعد الأزمة وهذه نقطة جوهرية لأن ظروف الأزمة وفجائيتها (suddenness) تحصر تفكيرنا في محيط الأزمة وظروفها الحالية وتفرض علينا حدة الأزمة تجاوز التفكير عن اللحظة الراهنة والذهاب الى اللحظات والوقت الذي سيأتي بعد الأزمة. ولهذا من الجيد أن نقاوم إغراء التركيز على الوقت الآني وأن نجرأ على الخروج بتفكيرنا الى اليوم التالي والذي حتما سيأتي وسيكون أفضل بإذن الله تعالى.

* أستاذ بجامعة شمال أيوا الأمريكية ومدير المعهد البحثي بمدينة شيكاغو.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *