علمٌ يصنعُ مجدًا – بقلم علي الجشي

[بين الأبوة والتعليم… ينبع الذكاء، لينمو الفهم ويتطور]

الطالب ثمرةُ رعايةِ البيت واهتمامِ المدرسة، وبينهما ينمو ويتكامل باكتساب العلوم والآداب. إنّ تكامل البيت والمدرسة ضرورةٌ لبناء جيلٍ متعلّمٍ صالح، ينهض بالأوطان، ويخدم الإنسان، ويكسب رضا الرحمن.

وفي ذلك جاءت أبياتُ حافظ إبراهيم:

حَيّاكُمُ اللَّهُ أَحيوا العِلمَ وَالأَدَبا * إِن تَنشُروا العِلمَ يَنشُر فيكُمُ العَرَبا
وَلا حَياةَ لَكُم إِلّا بِجامِعَةٍ * تَكونُ أُمّاً لِطُلّابِ العُلا وَأَبا
تَبني الرِجالَ وَتَبني كُلَّ شاهِقَةٍ * مِنَ المَعالي وَتَبني العِزَّ وَالغَلَبا

إنّ علاقةَ الأبوةِ علاقةٌ فريدةٌ في نوعها؛ فهي مدرسةٌ قائمةٌ بذاتها، فيها التوجيهُ والمحبة، وفيها كَلِمُ الحكمةِ الذي يختصر تجاربَ الحياة وراء الكلمات، ويزرع الطمأنينةَ والثقةَ في الجيل الناشئ.
وعلى المدرسةِ استكمالُ رسالةِ الأبوين التربوية، وألا يكتفي المعلمُ بسرد المواد الدراسية المنهجية؛ فدورُ المعلم يتجاوز ذلك إلى الإرشاد والتوجيه، وتنميةِ وعي الطالب بذاته، ومساعدتِه على كبح جماحِ طيشِ الشباب، ورسمِ معالمِ المستقبل.

كما أنَّ للمعلمِ دورًا غيرَ منهجيٍّ لا يقلّ أهميةً عن المنهجِ الدراسيِّ العلمي، ألا وهو تهذيبُ السلوك وبناءُ الشخصية. فالتعليمُ غيرُ التدريس، والمعلمُ غيرُ المدرّس.

المعلمُ دورُه أعمُّ وأشمل، لأنّه يشمل — إضافةً إلى التعليم المنهجي — التوجيهَ التربويَّ والاستشرافَ المستقبليَّ بتنمية قدرات الطلاب وتوظيف كفاءاتهم ليصنعوا جيلًا متعلّمًا متحضّرًا.

ومن المهم أن تكون شخصيةُ المعلّم قويةً وأمينةً، {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}.
فإذا كان المعلمُ قويَّ الشخصية، اكتسب الطلبةُ منه الحزمَ والثقة، وأصبحوا رجالًا قادرين على التمييز بين التهاون والمبادرة، وبين السلبية وقيادة التقدّم.
وإذا كان أمينًا، اكتسبوا منه النزاهةَ والصدقَ والأمانةَ في القول والعمل، وأدركوا أنَّ المسؤوليةَ أمانةٌ لا يُستهان بها.
وبهذا ينال المعلّمُ التبجيلَ من المجتمع ومن العالم بأسره، ويستحقُّ وصفَ شوقي:

قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا * كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا
أَعَلِمتَ أَشرَفَ أَو أَجَلَّ مِنَ الَّذي * يَبني وَيُنشِئُ أَنفُساً وَعُقولا

وفي خضمّ المواد المعقّدة والدروس المكثّفة، يتبادر سؤالٌ إلى الذهن:
لماذا لا يتمّ تبسيطُ المناهج لتناسبَ قدراتِ الطلاب في المراحل المختلفة من أعمارهم، ليسهلَ عليهم فهمُ عبقريةِ محتوى المادة الدراسية، بدلًا من جعلها — في أعين الطلاب — أحاجيَ تُرى كأنها طلاسمُ في نفقٍ مظلم، فينفرُ منها الكثير من الطلاب والطالبات؟

وهم — وإن تعاملوا معها وحاولوا فهمها — تكون العلاقةُ عندهم مع هذه المواد علاقةَ واجبٍ يجبُ إتمامُه والتخلّصُ منه، حتى لا يتحمّلوا عبءَ التقصيرِ المدرسي.
فيبحثون عن حلٍّ بأيِّ طريقةٍ تدرأ عنهم غضبَ المدرس وشبحَ الخوفِ من الرسوب، وكأنهم يحضرون المدرسةَ لنيل شهادةٍ، لا لكسبِ العلوم حسبَ قدراتهم واستعداداتهم.

إنّ التأمّلَ في أسلوبِ الدراسة، والسعيَ لإيجادِ الطريقةِ الأنسبِ للتعلّم، لا يقلّ أهميةً عن الدراسة نفسها؛ فالدراسةُ الذكيةُ هي الجمعُ بين الجهدِ الواعي والعملِ المنظَّم.
وعندما تتعقّد الحياة، يكون الحلّ غالبًا في أبسط الأمور. وإنّ العبرةَ في التعليم ليست في الكمّ، بل في الكيف. فالمهمّ هو التأسيسُ الصحيح، وتنميةُ القدرة على الاستقصاء، لا مجرّدُ الحفظِ والتكرار.

تستحوذ المدرسةُ على معظمِ وقتِ الطالب، وفي فضائها يستمتعُ الطلبةُ بصحبةِ زملائهم الذين يصبحون فيما بعد أصدقاءَ عمرهم، وفي ذلك متعةٌ للنفس، ومشاركةٌ للمعرفة، وتنميةٌ للفطنة.
فالمدرسة — بما في ذلك المعاهدُ والجامعات — جزءٌ أساسيٌّ من حياةِ الطلاب في جميع مراحلِ دراستهم، ليست مكانًا للدراسةِ فحسب، بل مكانًا لتنمية الملكاتِ العقليةِ والاجتماعية، وبالتالي بناءِ شخصيةِ الطالب، التي هي الأساسُ والعمودُ الفقريّ لنجاحه.

فالمدرسةُ هي المكانُ الأسمى الذي يوجّه الطلابَ لاكتشافِ نقاطِ القوةِ والضعفِ في أنفسهم، والعملِ على صقلِها وتقويتِها لاجتيازِ تحدّياتِ الدراسةِ والحياةِ معًا.
وبالتالي يكون من المنطقيّ تقديمُ متطلباتِ الدراسة بأسلوبٍ بسيطٍ ممتع، وليس كما يُقال: سهلٌ ممتنع.

إنّ الهدفَ من التعليم هو تمكينُ الطالب من الاستفادة بكفاءة، وهنا يأتي دورُ المعلّمِ والتوجيه.
علينا دائمًا أن نبحثَ عن طرقٍ تجعلَ الدراسةَ أكثرَ سهولةٍ وفاعلية.

بعضُ المراهقين قادرون على تنظيم وقتهم والتعامل مع الدراسةِ بهدوء، وفي الوقت نفسه الاستمتاعِ بالحياة. هؤلاء لا يشعرون بضغوطِ الدراسة، لأنهم يرونها بوضوح، ويفهمونها بعقلٍ مفتوح.

في المقابل، هناك من يرى الدراسةَ عبئًا ثقيلًا، أو طريقًا غامضًا في أنفاقٍ مظلمةٍ نحو معركةٍ مجهولةِ النتيجة.
وهناك فئةٌ ثالثة، لا ترى في الدراسة طريقًا سهلاً، لكنها لا تراها مستحيلة، بل مهمّةً قابلةً للتحقيق. وإن كانت نتائجُهم متوسطةً، إلا أنَّ سرَّ تفوّقهم يكمن في المثابرةِ والاستمرار، وعدمِ الاستسلامِ لتثبيطِ المحبطين وتعليقاتهم.

فالخطوةُ الأولى نحو الدراسةِ الذكية هي فهمُ القدراتِ الذاتيةِ والبيئةِ المحيطةِ بالطالب، ثم تبنّي أسلوبٍ يتناسب معها.

والخطوةُ الثانية أن نجعلَ الطالبَ يدرسُ كما يدرسُ المتفوّقون، لا كما يفعلُ المتكاسلون.
فعلى المعلّم أن يجعله يفكّر كما يفكّر المتفوّقون، وإن راودته الخشيةُ وظنَّ أنه ليس منهم، فليكنْ في ركبهم لا في قطيع الكسالى.

وعلى الطالب أن يُقلّدَ المتفوّقين بوعي، لا بطريقةٍ عمياء، وأن يجعلهم في رادارِ وعيه، يستلهمُ طريقتَهم في الفهمِ والاستذكار، ويتعلّمُ منهم تنظيمَ الوقت، وصفاءَ الذهن، وحُسنَ التحضيرِ للامتحانات، ومعرفةَ أنجعِ الطرقِ للحفظِ والتحليلِ والاستنتاج.

والأهمّ أن يُدركَ الطالبُ أنَّ الفهمَ هو جوهرُ التعلّم، وفيه تكمنُ الفطنة. فالمعرفةُ وحدها لا تكفي؛ إذ كم من حافظٍ لا يفقهُ ما يقول، وكم من متحدّثٍ يقول: «كأنّي لم أقرأها».
فالمعرفةُ إدراكٌ نظريّ، أمّا الفهمُ فهو وعيٌ بما يحدث، واستيعابٌ لأدقِّ تفاصيلِه.

نحنُ إذا واجهنا أمرًا لم نفهمْهُ تبقى رؤيتُنا له مشوَّشة، ويُحال بيننا وبين إدراك المقصد.
أمّا إذا تفهّمنا وفهمنا، رأينا الطريقَ بوضوح، وشعرنا أننا امتطينا مركبةَ النجاحِ والتفوّق.

من يفهمِ الفكرةَ وخفايا الظواهر يتمكّن من توظيفها وتحقيقِ الغايةِ منها، لأنَّ الفهمَ الحقيقيَّ يُنتج معرفةً قابلةً للتطبيق. وهذا هو جوهرُ التعليمِ الناجح، وما يجب أن يُدركَه الطالبُ والمعلّمُ معًا.

وبالنتيجة، علينا أن ندركَ أنَّ التعليمَ رحلةٌ نحو الفهمِ وصولًا إلى المعرفة، لا حملٌ للمعرفةِ دون إدراكِ مبانيها ومقاصدها.

وأنَّ التربيةَ لا تقلُّ عن التعليمِ أهمية، فالعلمُ بلا تربيةٍ فسادٌ وغرور، والتربيةُ بلا علمٍ قد تُفضي إلى الجهلِ والتخلّف.

فعلى الأبوين أن يرشدا بحكمة، وعلى المعلّم أن يفتحَ أبوابَ العقل، وعلى الطالب أن يجمعَ بينهما ليصنعَ مجدَه بنفسِه، مستفيدًا من أسرته ومعلّميه.

حينَ يتعلّمُ الإنسانُ كيف يفهم، يتحوّلُ العلمُ من عبءٍ إلى متعة، ومن واجبٍ إلى شغف، ولا يكونُ كمن يحملُ أسفارًا.
وحين يقترنُ العلمُ بالأخلاقِ وحُسنِ السلوك، تعمّ الفائدةُ وتزدهرُ العدالةُ الإنسانية.

وعندها فقط… يصنعُ العلمُ مجدَه الحقيقيَّ في قلبِ مَن آمن بأنَّ الفهمَ هو الطريقُ الأقصرُ نحو التميّز.

وجميلٌ أن نذكرَ هذه الأبياتَ الخالدةَ في تاريخنا الأدبيّ في الاهتمام بالعلم:

دَبَبْتُ للمجدِ والساعون قد بلغوا * جَهْدَ النفوسِ وألقَوا دونه الأُزُرا
وكابدوا المجدَ حتى ملَّ أكثرُهم * وعانقَ المجدَ مَن أوفى ومَن صَبَرا
لا تحسَبِ المجدَ تمرًا أنتَ آكلُه * لن تبلغَ المجدَ حتى تلعَقَ الصَّبِرا

المهندس علي الجشي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *