رحلة دواء واعد في مكافحة السكري والسمنة [من المختبر إلى مستقبل العلاج] – بقلم غسان علي بوخمسين

السمنة والسكري من النوع الثاني يشكلان معًا ثنائيًا وبائيًا يهدد الصحة العامة عالميًا…

خلقت هذه الأزمة سوقًا صحية ضخمة، تشمل أدوية خفض الوزن، علاجات السكري، تقنيات المراقبة الذاتية، والجراحات الأيضية. تُشكّل علاجات السمنة عبئًا اقتصاديًا متزايدًا، إذ تتنوع تكاليفها بين الأدوية الحديثة مثل ناهضات (GLP-1)، والجراحات مثل تكميم المعدة، والبرامج السلوكية والتقنيات الرقمية.

تتراوح تكلفة العلاج الفردي سنويًا من مئات إلى آلاف الدولارات، بينما تُقدّر الأعباء الإجمالية للسمنة عالميًا بأكثر من 4 تريليونات دولار بحلول 2035. هذا العبء يشمل تكاليف الرعاية الصحية المباشرة، وانخفاض الإنتاجية، وزيادة معدلات الأمراض المزمنة المرتبطة بالسمنة.

نمو قوي وسريع متوقع لأدوية مكافحة السمنة بين عامي 2023-2030

في خضم المعركة المستعرة ضد جائحتي السمنة ومرض السكري من النوع الثاني، شهد العقد الماضي ثورة غير مسبوقة بظهور فئة جديدة من الأدوية تعتمد على مستقبلات الببتيد الشبيه بالجلوكاجون-1 (GLP-1 RA). أدوية مثل (أوزمبيك) أو (مونجارو) غيرت معايير العلاج بفعاليتها الملحوظة في خفض سكر الدم وفقدان الوزن.

ولكن، ظل هناك تحدٍ رئيسي: الحاجة إلى الحقن اليومي أو الأسبوعي تحت الجلد، مما يشكل عائقًا لبعض المرضى. من هذا المنطلق، انبثقت رحلة البحث عن جيل جديد من هذه العلاجات يمكن تناوله عن طريق الفم، وكان أورفوجليبرون (Orforglipron) أحد أبرز المرشحين لتحقيق هذه الطفرة.

التركيب البنائي المعقد لدواء (semaglutide)

أورفوجليبرون ليس دواءً فمويًا من فئة ناهضات (GLP-1) التقليدية، بل ينتمي إلى فئة أكثر تطورًا تسمى “مقلدات (GLP-1) غير الببتيدية” (Non-peptide GLP-1 receptor agonists).

الفرق الجوهري: أدوية (GLP-1) التقليدية (مثل سيماغلوتايد) هي جزيئات ببتيدية، أي أنها سلاسل من الأحماض الأمينية تشبه إلى حد كبير هرمون (GLP-1) الطبيعي في الجسم. بسبب طبيعتها الببتيدية، فإنها تتحطم بسرعة في المعدة والأمعاء إذا أخذت عن طريق الفم، مما يستلزم صياغتها بشكل خاص (كما في حالة (Rybelsus)) أو حقنها.

التصميم الثوري: أورفوجليبرون، على النقيض من ذلك، هو جزيء صغير غير ببتيدي. تم تصميمه في المختبرات باستخدام الكيمياء الدواع المتقدمة ليرتبط بمستقبل (GLP-1) في البنكرياس والدماغ والأعضاء الأخرى وينشطه، محاكيًا بذلك عمل الهرمون الطبيعي ولكن بدون أن يكون بروتينًا. هذه الطبيعة “غير الببتيدية” هي التي تسمح له بالبقاء مستقرًا ومقاومًا للتحلل بواسطة إنزيمات الجهاز الهضمي، مما يجعله متاحًا بشكل أقراص فموية.

التركيب البنائي للبسيط ل (Orforglipron) نسبياً مقارنة ب (semaglutide) مما يعطي سهولة في التصنيع والفعل الحيوي.

آلية العمل: بمجرد تناوله وامتصاصه، يقوم أورفوجليبرون بما يلي:
1. تحفيز إفراز الأنسولين المعتمد على الجلوكوز: يشجع خلايا بيتا في البنكرياس على إفراز الأنسولين عندما ترتفع مستويات السكر في الدم، مما يساعد على خفضها [هرمون الجلوكاجون الذي يرفع سكر الدم].
2. إبطاء إفراغ المعدة: يؤدي إلى شعور أسرع وأطول بالامتلاء بعد الأكل.
3. تثبيط الشهية في المراكز الدماغية: يؤثر مباشرة على مراكز الشبع في الدماغ، مما يقلل من الشعور بالجوع وكمية الطعام المتناولة.

رحلة التطور: من الاكتشاف إلى الابتكار
بدأت قصة أورفورجليبرون في مختبرات شركة (Chugai Pharmaceutical)، التابعة لمجموعة (Roche Group)، حيث تم اكتشافه كجزيء صغير غير ببتيدي يحاكي تأثير (GLP-1)، الهرمون الطبيعي الذي ينظم مستويات السكر في الدم ويقلل الشهية. في عام 2018، رخصت تشوغاي الدواء لشركة (Eli Lilly) مقابل 50 مليون دولار أولية، مع إمكانية حصولها على تعويضات إضافية تصل إلى 1.2 مليار دولار بناءً على المعالم التطويرية.

كان هذا الترخيص خطوة استراتيجية لليلي، التي كانت تبحث عن بديل فموي لأدويتها الحقنية الناجحة، خاصة مع تزايد الطلب على علاجات السمنة العالمية. شركة (Eli Lilly) تُعد أكبر شركات الأدوية عالميًا، بقيمة سوقية تتجاوز 700 مليار دولار، ما يجعلها أكبر شركة دوائية في العالم. تركز على علاجات السكري، السمنة، السرطان، والأمراض العصبية والمناعية، مع استثمارات ضخمة في البحث والتطوير.

شعار شركة ليلي

منذ ذلك الحين، دخل أورفورجليبرون مراحل التطوير السريري المتقدمة. في عام 2020، أكملت الدراسات الأولية (Phase 1) اختبار السلامة والفعالية الأساسية، مما أظهر قدرته على الارتباط بمستقبلات (GLP-1) بنفس قوة الحقن، دون الحاجة إلى حقن. ب

حلول عام 2022، بدأت الدراسة السريرية الرئيسية (Phase 2)، والتي نشرت نتائجها في مجلة (NEJM) في يونيو 2023. أظهرت هذه الدراسة أن الجرعات العالية أدت إلى فقدان وزن يصل إلى 14.7% من وزن الجسم في 36 أسبوعًا، مع انخفاض مستويات (HbA1c) (مؤشر السكر في الدم) بنسبة 1.5-2%. كانت هذه النتائج إيجابية، لكنها أبرزت تحديات مثل الآثار الجانبية المعدية (غثيان، إسهال) المشابهة لأدوية (GLP-1) الأخرى.

مع نهاية 2023، انتقل الدواء إلى المرحلة الثالثة (Phase 3)، ضمن برنامجين رئيسيين: (ATTAIN) للسمنة، و(ACHIEVE) للسكري من النوع الثاني. هذه المرحلة شهدت توسعًا في الاختبارات، بما في ذلك دراسات للحفاظ على فقدان الوزن، وتأثيره على الدهون الجسمية، والمقارنة المباشرة مع أدوية منافسة.

بحلول 2024، أكملت ليلي ثلاث دراسات [Phase 1&2&3] ناجحة، مما مهد الطريق للتقديم التنظيمي. هذه الرحلة تعكس تطورًا سريعًا، مدفوعًا بالحاجة العالمية لعلاجات سهلة الوصول، حيث يُقدر أن السمنة تؤثر على أكثر من مليار شخص عالميًا، والسكري على 500 مليون.

بعض أدوية حفن السمنة والسكري

أهم الدراسات السريرية: أدلة علمية قوية
تشكل الدراسات السريرية عماد نجاح أورفورجليبرون. الدراسة الأساسية في (Phase 2) ، التي شملت 272 مشاركًا بالغًا مصابًا بالسمنة، أظهرت فقدان وزن متوسط يصل إلى 9.4 كجم (14.7% من الوزن الأولي) في الجرعة العالية (45 مجم يوميًا)، مقارنة بـ2.3% في مجموعة الدواء الوهمي. كما انخفض (HbA1c) بنسبة 1.7%، مع تحسن في ضغط الدم والكوليسترول. نشرت هذه النتائج في (NEJM)، مؤكدة أن أورفورجليبرون يحقق تأثيرات مشابهة للسيماجلوتايد الفموي، لكنه أقل تكلفة في الإنتاج بفضل كونه جزيء صغير.

في الدراسة الثالثة (Phase 3)، برزت دراسة (ATTAIN-1)، التي أعلنت نتائجها في أغسطس 2025. شملت هذه الدراسة أكثر من 2000 مشارك مصاب بالسمنة أو زيادة الوزن مع أمراض مصاحبة، واستمرت 72 أسبوعًا. أدى أورفورجليبرون إلى فقدان وزن متوسط 12.4 كجم (27.3 رطل) في الجرعة العالية، أي 12.4% من الوزن الأولي، مقارنة بـ2.2% في الدواء الوهمي. كما حقق تحسنًا في المؤشرات القلبية الوعائية، مثل خفض الدهون الثلاثية بنسبة 20% وتحسين حساسية الإنسولين.

أما دراسة (ACHIEVE-1) ، المخصصة لمرضى السكري، فقد أظهرت في أبريل 2025 انخفاض (HbA1c) بنسبة 1.3-1.6% عبر الجرعات، مما يجعله أول (GLP-1) صغير الجزيئات ينجح في (Phase 3).

دراسة أخرى هامة هي (NCT06584916)، التي تركز على الحفاظ على فقدان الوزن بعد الوصول إلى الهدف، ودراسة (NCT0682405) لقياس تأثير الدواء على تكوين الجسم (فقدان الدهون مقابل العضلات).

في سبتمبر 2025، نشرت (NEJM) دراسة (head-to-head) (مقارنة مباشرة) مع السيماجلوتايد الفموي، حيث أظهر أورفورجليبرون تفوقًا في خفض (HbA1c) بنسبة 2.2% مقابل 1.4%، وفقدان وزن أعلى بنسبة 15%. هذه الدراسات، التي شملت آلاف المشاركين، أكدت سلامة الدواء، مع آثار جانبية بنسبة 40-50% في البداية، لكنها تقل تدريجيًا. كما أبرزت فعاليته في مجموعات متنوعة، بما في ذلك كبار السن والمرضى ذوي الأمراض المصاحبة.

دواء (semaglutide) الفموي

آخر الأخبار العلمية: إنجازات 2025
أفادت رويترز أن ليلي تخطط لإطلاق الدواء في الهند بنهاية 2025، مستهدفة سوقًا يعاني من ارتفاع معدلات السمنة. كذلك، تتوقع الشركة موافقة الـ (FDA) الأمريكية بنهاية العام، بناءً على بيانات السلامة الإيجابية. هذه الأخبار تعزز مكانة الدواء، خاصة مع تحديات الإنتاج في أدوية الحقن.

المستقبل المتوقع: آفاق وتحديات
يُتوقع لأورفورجليبرون مستقبلًا مشرقًا، مع تقديم طلب الموافقة لـ (FDA) لعلاج السمنة في الربع الرابع من 2025، وللسكري في النصف الأول من 2026. يُقدر محللو السوق أنه سيحقق مبيعات تصل إلى 10 مليارات دولار سنويًا بحلول 2030، بفضل سهولة الاستخدام والتكلفة المنخفضة (حوالي 100-200 دولار شهريًا، أقل من الحقن). كما يُدرس في دراسات إضافية لعلاج ارتفاع ضغط الدم، التهاب المفاصل، وانقطاع التنفس أثناء النوم، مما يوسع نطاقه.

ومع ذلك، يواجه “أورفورجليبرون” تحديات مثل المنافسة الشديدة من أدوية نوفو نورديسك (مثل أميكريتين الفموي، الذي يدخل “Phase 3” في 2026)، والآثار الجانبية العالية نسبياً التي قد تؤدي إلى انسحاب 10-15% من المرضى. كما يحتاج إلى دراسات طويلة الأمد لتقييم المخاطر القلبية.

على الرغم من ذلك، يُعد أورفورجليبرون مثالًا للإبتكار، حيث يمكن أن يصل إلى الأسواق الناشئة بسرعة، ويقلل العبء على أنظمة الرعاية الصحية. في المستقبل، قد يُدمج مع أدوية أخرى لتعزيز الفعالية، مما يجعله جزءًا من علاجات مخصصة.

خاتمة: خطوة نحو صحة أفضل
أورفورجليبرون رمز للتقدم الطبي الذي يجعل العلاج متاحًا ومريحًا. من اكتشافه في 2018 إلى إنجازات 2025، يُثبت أن الابتكار يمكن أن يساعد الملايين. مع بياناته القوية وآفاقه الواعدة، يُتوقع أن يلعب دورًا حاسمًا في مكافحة الوباء الصامت للسمنة والسكري.

ظهور أدوية مثل (Orforglipron) يعكس تحولًا في فلسفة العلاج، من الاعتماد على الحقن الباهظة إلى حلول فموية ميسورة التكلفة.

هذا التحول قد يُعيد تشكيل العدالة الصحية العالمية، ويقلل من الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة في الوصول لعلاجات السمنة والسكري.

كما يطرح سؤالًا أخلاقيًا: هل ستُتاح هذه الأدوية فعلًا للجميع؟ أم ستظل محصورة في الأسواق المربحة؟

الصيدلي غسان بو خمسين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *