كيف تتعامل مع المعضلة الأخلاقية في الاختيار بين النزاهة الشخصية والتمسك بالمبادىء والقيم وبين الانصياع للضغوط الاجتماعية أو المهنية. وفقًا لأبحاث علم النفس – ترجمة عدنان أحمد الحاجي

The science of defiance: A psychology researcher explains why people comply – and how to resist
(بقلم: سونيتا ساه، بروفيسور الإدارة والشركات، جامعة كورنيل – Sunita Sah)

طلب منك رئيسك خلال أحد الاجتماعات التلاعب ببعض الأرقام حتى يبدو التقرير الربع سنوي أقوى، وذلك حتى تتحسن صورة الشركة. هز المجتمعون رؤوسهم بالموافقة دون أي نقاش. شعرت أنت بالقلق والتوتر وعدم الارتياح لعلمك بأن هناك شيئًا ما غير أخلاقي، ولكن لست متأكدًا ما ينبغي عليك فعله:

هل تتكلم وتعارض الطلب وتخاطر بوصمك على أنك غير متعاون، أو مُجادل، أو مُثير للمشكلات يصعب التعامل معه؛ أم تلتزم الصمت وتصبح من ضمن المتواطئين؟

وبذلك تتورط في معضلة أخلاقية بين النزاهة الشخصية وبين الرضوخ للضغوط الاجتماعية أو المهنية والقبول بالطلب. في تلك اللحظة، يبدو الصمت أسهل وأكثر أمانًا،،،

يتصور معظم الناس أن رفض الانصياع أو اختيار التحدي على أنه لحظة من لحظات الانفعالات الدراماتيكية. في الواقع، غالبًا ما تكون هذه اللحظات البسيطة التي يشوبها توتر هي التي تصطدم فيها النزاهة الشخصية بالامتثال والموافقة على الطلب.

لم ألحظ قوة التحدي أول مرة في الشركة التي أعمل فيها، بل في البيت. والدتي كانت تحاول ارضاء الناس بما تستطيع، حيث كانت خجولة ومهذبة ومتحمسة لمجاراة الآخرين. عادةً لا تفرض نفسها أو تُسبب خلافًا معهم. فقد كانت تُقدم احتياجات الآخرين على احتياجاتها الخاصة. ولكن في أحد الأيام، عندما كنت في السابعة من عمري، رأيت تصرفًا مختلفًا.

كنا عائدين إلى بيتنا بعد التسوق من إحدى البقالات في غرب مدينة يوركشاير في إنجلترا، عندما اعترضت مجموعة من المراهقين طريقنا في زقاق ضيق. انهمروا علينا بشتائم عنصرية وطلبوا منا العودة إلى بلدنا الأصلي.
التزمت الصمت، محاولةً تجنّب أي خلافات، وتخطّي تلك المشكلات التي أثارها أولائك المراهقون بأسرع وقت ممكن.

أمسكت بذراع أمي، حاثّةً إياها على الابتعاد عنهم. لكنها رفضت. أمي التي كانت توصف بالهدوء والمسايرة وتحاول عدم المواجهة أبدًا، فعلت شيئًا مختلفًا تمامًا. توقفت، واستدارت، ونظرت إلى الصبية مباشرةً. ثم سألتهم بهدوء، ولكن بحزم: “ماذا تقصدون؟”

لم تكن صاخبة أو عدوانية في جدالها. وفي تلك اللحظة، علمتني أن التحدي لا يجب أن يكون دراميًا أو صاخبًا؛ بل يمكن أن يكون هادئًا ورزينًا، وفي نفس الوقت حازمًا. ولذلك بالرغم من طبيعتها الهادئة، إلا أنها دافعت عن نفسها في تلك اللحظة وتصرفت بجرأة لكن برزانة. مثل هذا التصرف قد يأتي من أشخاص لا تتوقع منهم ذلك، إذ حتى الخجول أو المُهذب عادةً ما يُمكنه التصرف بجرأة عند الضرورة. فالدفاع عن الحق لا يحتاج دائمًا إلى صراخ، فقد يكون أحيانًا هادئًا.

“كتاب “التحدي: قوة الرفض في عالم يطالب بالامتثال

لقد نقلتُ هذه الدروس إلى عملي باعتباري طبيبة أصبحت بعد ذلك أخصائية نفسية متخصصة في السلوك البشري في الشركات والمؤسسات. على مدى عقود، درستُ أسباب امتثال الناس، والتزامهم الصمت حين لا يرغبون في ذلك(1)، وكيف يمكنهم المعارضة والمقاومة بحكمة. في كتابي “التحدي: قوة الرفض في عالم يطالب بالامتثال(2) “Defy: The Power of No in a World that Demands Yes”. “قدمت إطارًا قائمًا على أبحاث العلوم السلوكية، يساعد على تحدي الأوامر غير الأخلاقية بأساليب مدروسة وفعّالة ومتوافقة مع القيم النبيلة التي يحملها الشخص.

ماذا يعني التحدي بالفعل؟
عادةً ما يعتقد الناس أن التحدي يعني الصراخ أو الاحتجاج أو كسر القواعد الاجتماعية السائدة. عادةً ما يتصورون مراهقين يصفقون بالأبواب بقوة، أو متظاهرين يهتفون في الشوارع، أو متمردين يخالفون النظام لمجرد الإثارة لا غير. لكن هذا ليس نوع التحدي الذي تناولته بالدراسة أو النوع المؤثر في حياة الناس، الذي من شأنه إن يكون هادئًا وهادفًا ومؤثرًا، ولا علاقة له بالتمرد على الأوامر.

فالتحدي ببساطة لا يعني المعارضة بحد ذاتها، بل يعني اختيار التصرف بما يتماشى مع القيم عندما يكون هناك ضغط للامتثال للأوامر وارتكاب ما يخالف المباديء والقوانين.

فقد يكون منشأ هذا الضغط أي مصدر: رئيس يطلب منك التلاعب بالبيانات وتزويرها، أو صديق يدفعك نحو ارتكاب أمر لا تؤمن به، أو ثقافة مجتمع. لا يشترط أن يكون التحدي أو الرفض كبيرًا أو دراماتيكيًا. قد يكون أمرًا بسيطًا، كقولك “لا”، أو تطلب التوضيح بطرح أسئلة، أو التوقف برهةً والتفكير قبل الموافقة، لا الموافقة التلقائية والسريعة كما يفعل الآخرون. لكن أحيانًا، قد يعني التحدي تصرفات كبيرة، مثل التصريح، أو تحدي السلطة، أو ربما الانسحاب.

من هذا المنظور، التحدي ليس سمة ثابتة يولد بها البعض ويفتقر إليها آخرون. إنه ممارسة: مهارة يمكن تنميتها بمرور الزمن. قد تستجيب أحيانًا، وقد تقاوم أحيانًا أخرى. المهم هو أن تمتلك الوعي والأدوات اللازمة لاتخاذ القرار عن وعي، لا أن تدع الخوف أو العادة (ثقافة المجتمع) تُقرر نيابةً عنك. فالتحدي ليس فطريًا – بل هو سلوك يمكن تنميته وتطويره، واختيار متى لا تنصاع للقرارات الخاطئة ولا تسمح للخوف أو العادة بالقرار نيابةً عنك.

لماذا يمتثل الناس وينصاعون؟
إذا كان التحدي بهذه الأهمية، فلماذا يلتزم الناس الصمت في كثير من الأحيان؟
أحد الأسباب هو عملية نفسية اكتشفتها في دراساتي: قلق التملق(4). ينشأ هذا القلق عندما يخشى الناس من أن يُفسر عدم امتثالهم لرغبات شخص آخر على أنه إشارة على عدم الثقة بهذا الشخص. رفضك طلب رئيسك “بتزوير” البيانات قد يعني أنك تطعن في أمانته ونزاهته. لتجنب الانزعاج وعدم الارتياح من هذا الموقف، مايلجأ البعض إلى الموافقة – حتى لو كان ذلك مخالفًا للقيم التي تؤمن بها.

لقد أثبت علم السلوك منذ زمن طويل أن الناس يشعرون بضغط شديد للامتثال والموافقة على طلبات ذوي النفوذ. ففي ستينيات القرن الماضي، على سبيل المثال، أثبت عالم النفس ستانلي ميلغرام (Stanley Milgram) أنه لمجرد أن شخصية ذات نفوذ أمرت أشخاصًا عاديين بصعق غرباء بصدمات كهربائية مع أنهم يعرفون أنها تسبب لهم ضررًا، يمتثلون لأوامرهم(5).

أثبتت دراساتي الخاصة(4،5) مستويات عالية بشكل مدهش من امتثال الناس لنصائح خاطئة ظاهريًا(4)، حتى لو صدرت من شخص غريب، وليس هناك أي تبعات ضارة لو تمت مخالفتها. يشعر الناس بضغط اجتماعي هائل لقبول ما يطلبه الآخرون منهم. ذلك لأن عدم التدرب على رفض الأوامر يُشعرك بالإحراج وعدم الارتياح.

إطار عمل
إذا كان الناس يميلون بطبيعتهم إلى الخضوع والامتثال، تجنبًا للمخالفة وتبعاتها، فكيف يتعلمون التحدي ومقاومة الأوامر عند الضرورة؟؟ في دراساتي، طورتُ أداةً عملية بسيطة أسميتها “بوصلة التحدي”. كأداة توجيه، من شأنها أن ترشد الشخص في المواقف والحالات الصعبة وذلك من خلال الاجابة على الأسئلة الثلاثة التالية:
1- من أنا؟ ما أهم القيم الجوهرية بالنسبة لي؟
2- ماذا عن هذا الوضع؟ هل تحديه ومقاومته آمنة؟ هل لمقاومته نتائج إيجابية؟
3- ماذا بإمكان شخص مثلي أن يتصرف في وضع كهذا؟ كيف أتحمل المسؤولية وأتصرف بطريقة تتوافق مع هويتي (طبيعتي) والقيم التي أؤمن بها؟

الشكل: ثلاثة أسئلة قد تساعدك على معرفة ما إذا كان الوقت مناسبًا لك للتحدي. المصدر: سونيتا ساه

طرح هذه الأسئلة يُحوّل التحدي من رد فعل غريزي إلى ممارسة واعية. وإليك المهم: السؤال الثالث (“ماذا بمقدور شخص مثلي أن يتصرف في مثل هذه المواقف؟”) يعود إلى السؤال الأول (“من أنا؟”)، لأن عاداتك وسلوكياتك وأفعالك التي تكررها بانتظام تُشكل بمرور الزمن شخصيتك وهويتك.

التحدي لا يعني دائمًا المواجهة الصريحة. أحيانًا يعني طرح سؤال بهدف التوضيح، أو الاستيضاح، أو كسب الوقت، أو الرفض بهدوء وبأدب. قد يعني أيضًا الكلام بصراحة أو الانسحاب. السر هو البدء بخطوات بسيطة، والتدرب على ذلك النوع من الرفض الهاديء بانتظام، وترسيخ خياراتك في قيمك. ومثل أي مهارة، كلما تدربت عليها أكثر، أصبحت أكثر طبيعية وتلقائية بالنسبة لك.

لماذا يُعدّ التحدي أمرًا بالغ الأهمية في هذه الأيام؟ قد يكون التحدي محفوفًا بالمخاطر، ولكنه لم يكن يومًا أكثر أهمية. في الشركات(6)، يُجبر الموظفون على تحقيق أهداف الشركة مهما كلف الأمر. وفي النظم الديمقراطية، يواجه الناس موجات من التضليل والاستقطاب(7). وفي الحياة اليومية، يجد الناس صعوبات لوضع حدود سليمة لأنفسهم(8, 9). وفي جميع هذه السياقات، يصبح إغراء الامتثال للأوامر (عدم مخالفتها) قويًا لمجرد تجنب الازعاج وطلبًا للراحة.

لهذا السبب، يُعدّ تعلّم كيف تتحدى استراتيجيًا، عند الضرورة. أمرًا بالغ الأهمية. فهو يحافظ على الالتزام بالنزاهة الشخصية(2)، أي الحفاظ على الصدق والقيم والمبادئ الأخلاقية حتى في حال وجود ضغوط تدعو للتنازل عنها، ويعزز المؤسسات، حين تستفيد من وجود موظفين يتمتعون بالنزاهة الشخصية، ويساهم في استدامة الديمقراطية حين تعتمد على أشخاص مستعدين للدفاع عن المبادئ والقيم(10). ولا يتطلب التحدي أو عدم الانصياع للأوامر الخاطئة صخبًا أو مواجهة، بل هدوء وتأنٍّ .

بالطبع، ليس كل فعل أو تصرف ينطوي على تحدٍ آمنًا أو مضمون نجاحه، بل قد يُعرّض المتحدي لمخاطر شخصية حقيقية. أحيانًا قد يكون له تكلفة تضر بالشخص نفسه. على سبيل المثال، قد يفقد وظيفته، أو تتضرر سمعته، أو يتعرض إلى عقوبة.

بيد أن البعض يختار التحدي، حتى لو لم تكن نتائجه أو تأثيره مؤكدًا: خذ مثلًا، روزا باركس، المرأه السوداء التي رفضت التخلي عن مقعدها في الحافلة لصالح شخص أبيض عام 1955، أو كولين كايبرنيك لاعب كرة القدم الأمريكية الذي رفض الوقوف احترامًا للسلام الوطني احتجاجًا على أحوال الملونين البائسة. في تلك اللحظات، يصبح الفعل نفسه رسالة. كان كل من هذين الشخصين ملتزمين التزامًا وثيقًا بقيمهما، وهذا الخيار شخصي (غير موضوعي): أي ما قد يبدو جديرًا بالمخاطرة لشخص قد لا يكون كذلك لشخص آخر.

يتطلب التحدي وعدم الانصياع ممارسة: ملاحظة متى تكون القيم على المحك (إدراك اللحظات التي تكون فيها القيم على المحك). توقف وفكر قبل الموافقة التلقائية على ما يطلب منك، واختار التصرفات التي تتوافق مع قيمك ومبادئك وهويتك. كل تصرف ينطوي على موافقة، أو امتثال للأوامر، أو تحديها، لا يؤثر فقط في حياتك الشخصية، بل يؤثر أيضًا في ثقافة وأعراف وتوجهات المجتمع الذي تنتمي إليه.

مصادر من داخل وخارج النص:
1- https://scholar.google.com/citations?user=QqciMNwAAAAJ&hl=en&oi=ao
2- https://www.sunitasah.com/defy
3- https://journals.sagepub.com/doi/10.1177/0146167218805991
4- https://psycnet.apa.org/doiLanding?doi=10.1037/a0030527
5- https://www.britannica.com/science/self-perception-theory
6- https://theconversation.com/how-workers-become-seduced-by-the-cult-of-optimal-busyness-173308
7- https://theconversation.com/social-media-can-support-or-undermine-democracy-it-comes-down-to-how-its-designed-257103
8- https://theconversation.com/how-to-set-healthy-boundaries-237745
9- “الحدود الشخصية هي الحدود والقواعد التي نضعها لأنفسنا في علاقاتنا. الشخص، الذي يضع له حدود سليمة، يستطيع أن يقول “لا” للآخرين متى شاء، ولكنه يشعر بالراحة أيضًا في انفتاحه على الأخرين وتكوين علاقات وثيقة معهم. يُقال إن الذي يُبقي الآخرين على مسافة (سواءً عاطفية أو بدنية أو غير ذلك) قد وضع حدودًا شخصية صارمة حوله. في المقابل، من يضع لنفسه حدودًا فضفاضة يميل إلى الانخراط المفرط في علاقاته مع الآخرين.” ترجمناه من نص ورد على هذا العنوان:
https://uhs.berkeley.edu/sites/default/files/relationships_personal_boundaries.pdf
10- https://commonslibrary.org/the-anti-autocracy-handbook-a-scholars-guide-to-navigating-democratic-backsliding/

المصدر الرئيس:
https://theconversation.com/the-science-of-defiance-a-psychology-researcher-explains-why-people-comply-and-how-to-resist-264567

الأستاذ عدنان أحمد الحاجي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *