في عمق الذاكرة القطيفية القديمة، حيث كان الليل أوسع من ضوء الفوانيس، وحيث كانت الحكاية تُروى لتكون حارسًا للمنازل أكثر مما تكون تسلية، وُلدت أسطورة السَّعْلُوَة، تلك المرأة الملعونة التي تقتات من خوف البشر، وتتنقّل بين المقابر والأطلال كما تتنقّل العاصفة بين جهات الريح. لم تكن السعلوة مجرّد كائن يتردّد اسمه لردع الأطفال، بل كانت رمزًا للجوانب المظلمة في النفس البشرية، وصورةً لصوت الخطر حين يضيع الإنسان في المساء ولا يعرف طريق العودة.

الملامح التي لا تُنسى حين يتجسّد القبح في هيئة أنثى:
يُقال إن السعلوة كانت امرأةً اختلطت ملامحها بين الآدمي والوحشي؛ شعرٌ متشابك كأغصانٍ جفّ عنها الماء، أنيابٌ طويلة تشقّ فمها كحدّ سكين، وعينان تشبهان قنديلاً قديمًا انطفأت فيه النار، وبقي فيه بريقُ الرماد.
لم تكن تمشي كما يمشي الناس، بل تزحف وتختفي وتظهر كما لو أنّها جزء من الظلّ، أو امتدادٌ للخراب الذي يسكن البيوت المهجورة. وتروي الجدّات أنّها كانت تتشكّل أحيانًا في هيئة امرأة جميلة، ثم لا تلبث أن تكشف عن وجهها الحقيقي في لحظة خاطفة، فيقع الرائي فريسة الرعب قبل أن يكون فريسة الأنياب.
السعلوة وصيد الليل لعبة المكر قبل الافتراس:
لم تكن السعلوة تهاجم ضحاياها بأسلوب همجيّ مباشر؛ كانت تستخدم المكر قبل القوة. كان صوتها، كما في الموروث القطيفي، يشبه تمامًا صوت الأم أو الأخت أو أحد الأقارب. تقول الحكايات إنها تقف عند أبواب البيوت، تنادي الطفل باسمه بصوتٍ حميمي، كأنها تريد أن تمنحه الأمان. وما إن يخطو خارج العتبة حتى يتلاشى كلّ مأمن.
كانت السعلوة كائنًا يعرف نفسية الإنسان ويعرف ضعفه، وخوفه، وحاجته إلى صوتٍ مألوف في لحظة ظلام. ولهذا، صار اسمها مرادفًا للخداع، وارتبط ظهورها بالطرقات الخالية والليالي التي يغيب فيها القمر، وكأنها تتغذّى على ضياع الخطى أكثر من تغذّيها على اللحم.
لماذا وُلدت السعلوة؟ الدلالات العميقة خلف الأسطورة:
الأسطورة ليست كائنًا؛ إنها لغة المجتمع حين يعجز عن كتابة قانونٍ واضح. السعلوة، في جوهرها، كانت “شرطة الليل” في المجتمعات القديمة، تردع الأطفال عن الخروج، وتحميهم من آبارٍ مفتوحة، وحيواناتٍ ضارية، وطرقاتٍ لا تحميها أنوار.
حيث كل ما يتجاوز الوظيفة التربوية هو رمزيتها الأنثوية المعقّدة، إنها صورة المرأة حين تخرج عن الدور التقليدي، فيتحوّل جمالها إلى خطر، وصوتها إلى فخّ، ووجودها إلى تهديد. في السعلوة، تتقاطع تصوّرات المجتمع عن الأنثى الغامضة، الخارجة عن النسق، التي تتحوّل من مصدر حنان إلى مصدر رعب. ولهذا بقيت قصتها عالقة في الوعي الشعبي كتحذيرٍ من “المرأة التي لا تُعرَف حقيقتها”، أو من “المكان الذي لا يُعرف عمقه”.
السعلوة والفضاءات القطيفية حين يتقدّس الحذر في المكان:
في القطيف، حيث تتجاور الواحات والمقابر، والمزارع والبيوت الطينية، ومسارات الظلام الممتدة بين القرى، لم تكن السعلوة شخصيةً بعيدة عن المشهد. كانت جزءًا من البيئة:
• صوتٌ يخرج من نخيلٍ هاجرت عنه الطيور
• أو ظلٌّ يرتجف عند أطراف المقبرة
• أو حركةٌ مبهمة في ممرٍّ طينيّ بعد منتصف الليل
وهكذا اكتسبت الأسطورة ملامح محليّة تتناسب مع خوف الإنسان القطيفي القديم من الأماكن الرطبة، المعتمة، التي كانت تحتفظ بأسرارٍ أكبر من أن تُفسَّر. وصار اسمها يُذكَر في المجالس كتحذير، وفي الحكايات كعبرة، وفي الليل كرفيقٍ لا يُرى لكنه حاضر في كل زاوية ظلمة.
أثر السعلوة في الذاكرة هل ماتت الأسطورة أم تغيّرت؟
في زمن المصابيح الكهربائية، والمنازل المحصّنة بالضوء، انحسرت السعلوة، أو هكذا بدا للناس. لكنها لم تختفِ تمامًا. تحوّلت إلى رمزٍ نفسيّ أكثر منها كائنًا ليليًّا. صارت تمثّل الأفكار التي نخاف مواجهتها، والأشخاص الذين يبدون بوجوه ثم يتنكّرون بوجوه أخرى، والطرقات التي نسلكها بلا يقين. لعلّ بقاءها في الحكايات حتى اليوم يثبت أن الأسطورة ليست خرافةً تُنسى، بل هي وعاءٌ يحمل تجربة الإنسان مع الرهبة، ومرآةٌ تُعيد إليه صدى مخاوفه الأولى حين كان الليل أكبر من حجم جسده.

السعلوة حين يصبح الخوف معلّمًا:
أسطورة السعلوة ليست حديثًا عن كائنٍ أسطوريّ بقدر ما هي حديثٌ عن الخوف:
• خوف الطفل من المجهول
• خوف المجتمع من الانفلات
• خوف الإنسان من الأماكن التي لا يمكنه تفسيرها
إنها امرأة تشبه الظلمة، وظلمةٌ تشبه المرأة. تظهر حين يفقد المرء بوصلته، وتختفي حين يكون الضوء حاضرًا في الداخل قبل الخارج. لهذا بقيت السعلوة في الذاكرة القطيفية، لا لأنها كانت موجودة، بل لأنها كانت ضرورية؛ فالخوف، حين يُروى في شكل حكاية، يصبح حارسًا يحمي من كانوا أضعف من مواجهة الليل وحدهم.

علوم القطيف مقالات علمية في شتى المجالات العلمية