هل أصبح الزواج معضلة؟ – بقلم د. عبد الجليل عبد الله الخليفه

من هموم مجتمعنا حديثًا، ظاهرةٌ اجتماعيةٌ بدأت منذ عدة سنوات وهي عدم التوافق بين الشباب طالبي الزواج وبين البنات اللواتي يتقدّم لهن الشباب، وتتكرر محاولات الشباب في البحث عن بنات الحلال عدة مرات ولعدة سنوات أحيانًا. يحدث هذا في وقت تتوافر فيه العشرات بل المئات من الشباب والشابات في سن الزواج (اعمارهم بين العشرين والثلاثين).

ومن الغريب أنّ هذه الظاهرة لم تعالج او تطرح علنًا رغم فداحة خطورتها على الأسر والمجتمعات، ورغم الحث الشديد دينيًا على التزويج والترغيب فيه من جانب الآباء والأمهات،،،

فلماذا؟

الطفرة الاجتماعية:
عاش مجتمعنا تاريخيًا حالةً من السكون الحضاري حيث كان الأفراد من الأقارب والجيران يشبه بعضهم بعضًا في الأفكار والقيم والتقاليد. فالزواج مثلًا، كان ببساطة حالةً من التوافق بين الشباب والشابات المقبلين على الزواج على مستوى المعيشة والصفات المقبولة اجتماعيًا، لذلك كانت حالات الانفصال والطلاق نادرة اجتماعيًا. ونتيجة عدم عمل المرأة سابقًا، كان أوان الزواج مبكرًا بالنسبة لها، بل يكاد يكون هو المشروع الكبير الذي ينتظرها في حياتها. وكان الشباب ونتيجة حياتهم في نطاقهم المحلي يرون في بنات عوائلهم ومجتمعهم غاية المطلوب ضمن مشروع بناء الأسرة وانجاب الأطفال وتربية الجيل الجديد.

لكن الانفتاح العالمي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وسفر بعض الطلاب والطالبات للتعليم في الخارج، ونزول المرأة الى سوق العمل، وقدرتها على الاعتماد على نفسها في السفر والتنقل، أحدث كل ذلك طفرةً نقلت المجتمع من السكون الى التغير السريع، فكيف واكب المجتمع هذه التغيرات السريعة؟


هناك ملاحظتان جديرتان بالتمعن عن التغير، هما:
• التغير هو انتقال من حالةٍ الى أخرى، لذلك يحتاج الى الكثير من التوازن الدقيق لضمان سلامة اتجاه بوصلة التغيير دون الافراط او التفريط في ثوابت المجتمع،
• التغير الاجتماعي بطبيعته يطال شرائح واسعة من الأبناء والبنات ضمن ظروفٍ مختلفة ولذلك قد ينتهي الى نتائج مختلفة من مجتمعٍ الى آخر.

أسباب عدم التوازن:
على الرغم من أن بعض التغيرات المذكورة ايجابي جدًا، فالمرأة نصف المجتمع ودخولها المعترك الحضاري مطلبٌ ضروري ضمن القيم الدينية والأعراف الاجتماعية، فهي الطبيبة والمعلمة والرائدة في بناء المجتمع والابداع التقني، وفي نفس الوقت هي الزوجة الصالحة العفيفة والأم المربية وصانعة الجيل. غير أن التوازن المطلوب في عملية التغيير عمليةٌ صعبةٌ جدًا خاصةً في ضوء المتغيرات السريعة التي تمر بها المجتمعات، نذكر هنا بعض مظاهرها:

• أوجدت العولمة تغييرًا ثقافيًا كبيرًا في أنحاء العالم يختلف كمًا وكيفًا من بيئةٍ الى أخرى ومن أسرةٍ الى أخرى ومن فردٍ الى آخر، فبعد ان كان أفراد أي مجتمع متشابهين فكريًا في السابق، اصبحوا بعد هذا الانفتاح والتغير السريع جزرًا مختلفةً في القيم والمفاهيم والأذواق الحياتية حتى بين الأولاد والبنات من الأقارب والجيران، كلٌ حسب تواصله وتعرضه للهندسة الثقافية التي ترسم معالم تفكيره وميوله، فمثلًا:

o برزت النزعة المادية لدى بعض الافراد وأثرت على النظام القيمي فتغيرت لديهم الأولويات، فسابقًا كان تحقيق الذات يتم عبر بناء الاسرة وتربية الجيل، بينما أصبح تحقيق الذات لدى البعض حاليًا يتم عبر انهاء المراحل الدراسية والتنافس الوظيفي للوصول الى مناصب عليا، حتى لو أدّى ذلك الى تأخير الزواج،

o تضخمت لدى البعض توقعاته من الطرف الاخر (اولاد وبنات) نتيجة اطلاعهم على النسخة الإعلامية والتسويقية لمشاهير خارج مجتمعهم المحافظ، فأصبح البعض يظن بأنّ الاقتناع بالحالة الطبيعية تضحيةٌ كبيرةٌ بما يمكن له الحصول عليه، فمواصفات الطول بالسنتيميتر ولون البشرة والمقاس اصبحت تعجيزية احيانًا!!

o كان المجتمع سابقًا يعيش حالةً من التوافق الأسري يتولّى فيه الرجل الموظف شؤون الأسرة خارج المنزل وتتولّى فيه الزوجة شؤون الأسرة داخل المنزل، لكن نتيجة الضخ المتواصل من الثقافة الغربية التي تمجّد الحرية والفردانية والتي قد تؤثر في البعض، اختلفت توقعات الطرفين فقد ترى المرأة أنّ الزوج يقيّد حريتها في اتخاذ القرار بينما يرى الزوج أنّه يمارس حقوقه الطبيعية في إدارة شؤون الأسرة، فأصبح هذا مورد نقاش وخلاف بينهما،

• الغربة عن الوطن للعمل او الدراسة والحياة بعيدًا عن الأسرة جعل الاستقلالية والحياة الفردية مقبولةً لدى بعض الأولاد والبنات حتى لسنواتٍ طويلة،

• الاختلاط في أجواء العمل بين الأولاد والبنات لا يتحقّق في المنزل بين الأقارب والجيران، لذا من الصعب ان يعرف الولد أوصاف قريبته إلّا عبر أمه او أخواته، وهذا الوصف لا يلبي حرصه الشديد لمعرفة الواقع.

ما هي الحلول:
المشكلة التي نريد البحث عن حلولٍ لها هي عدم التوافق بين الأولاد والبنات المقبلين على الزواج مما يؤدي الى:
• تأخير الزواج وتفويت الفرصة على الكثير من الفتيان والفتيات وعدم تمكنهم من الاستقرار النفسي وتلبية نداء الغريزة الطبيعي بالوسائل المشروعة،
• يحرم المجتمع من بناء أسرٍ صالحة تربي أجيالًا جديدةً من الأبناء والبنات الذين يمثلون العمود الرئيسي في بناء الحضارة،
• قد يسبب تأخير او عدم الزواج حالةً من التسيب الأخلاقي، لاقدّر الله.

فما هي الحلول؟
التغيرات الاجتماعية لا يمكن عكس إتجاهها ليعود المجتمع الى حالته السابقة، لكن حين تبرز مشكلة او ظاهرة اجتماعية وخيمة نتيجة أي تغير فيجب على المختصين حينئذٍ البحث عن حلولٍ عمليةٍ للمشكلة يقتنع بها أفراد المجتمع كسبيلٍ يحقّق لهم السعادة.

خريطة الثقافة الاجتماعية:
لا يمكن اغلاق النوافذ الثقافية ووسائل التواصل وسيستمر هذا السيل الجارف من أساليب الهندسة الثقافية الغربية على المجتمعات الأخرى بما فيها تغذية النزعة المادية والفردانية ومظاهر الحرية الشخصية وتفخيم صورة المشاهير التي تمثل هذه الثقافة كقدواتٍ للجيل الصاعد. وسيستمر العمل كفرصة للمرأة في دخول معترك الحياة مما يجعل الاختلاط حالةً طبيعيةً في أجواء العمل. في ظل ما ذكرناه، كيف يمكن أن يصل الأولاد والبنات الى جزيرة الزواج السعيد في هذه الخريطة الثقافية العالمية؟

اقتراحات:
• ينبغي الاضاءة على هذه المشكلة الاجتماعية وعدم إغفالها او تناسيها او الإستحياء من طرحها، فهي فتيلة قد تشتعل لا قدّر الله وقد تسبّب طوارىء إجتماعية خطيرة،

• ينبغي نشر الوعي بعظمة وقدسية الأسرة في الدين الحنيف والمجتمع الشرقي فهي أعظم بناءٍ حثّت عليه الأديان السماوية والفطرة السليمة وما أعظم نعمة الابناء والبنات الذين تقرّ بهم عيون الوالدين، ومقارنة ذلك مع إنهدام وتفكك عرى الأسرة في الغرب وفقدان السعادة والطمأنينة في مجتمعاتهم الذي أدّى الى انتشار الفجور والخيانة والانحرافات المختلفة، فالأب والأم هما عمادا هذا البناء المقدّس، والاهتمام بالأسرة يأتي في المقام الأوّل قبل أي مهام أخرى. الجدير بالذكر أن أغلب العلوم الإدارية التي يحضرها جميع الإداريين تركّز على أنّ الاهتمام بالأسرة يأتي في المقام الأوّل ثم يأتي بعده الاهتمام بالعمل في المقام الثاني،

• يحتاج المجتمع الى نشر ثقافة الواقعية في الرغبات والطلبات من الطرف الآخر، فكلّ جمالٍ فوقه جمال، وكلّ حالٍ بعده حال، لكن مع الالتزام بمستوى مقبولٍ ومرضي لشريك وشريكة الحياة،

• السماح ضمن أطر الأسر المشروعة والقيم الاجتماعية بإجراء حواراتٍ مفتوحة بين أبناء وبنات الجيل لفهم أسباب العزوف وعدم التوافق،

• يجب أن تتبني بعض الشخصيات من الرجال والنساء هموم الجيل الجديد في كل عائلةٍ كبيرةٍ وأن ينذروا أنفسهم للمساعدة على تعزيز روح التوافق بين الأولاد والبنات وتشجيعهم على اتخاذ قرار الزواج والموافقة على الطرف الآخر،

• قد يحتاج الولد والبنت في مجتمعنا وضمن الأطر المشروعة وتحت إشراف الوالدين المباشر والقريب جدًا الى جلساتٍ مكثفة للنقاش والحوار قبل اتخاذ القرار، واذا لم يقتنعا، فليس ذلك بعيبٍ او نقصٍ في أي منهما، بل هو سبيل لتفادي المشاكل المستقبلية، ولكلٍ منهما فرصه الأخرى، خاصةً أنّهما لم يرتكبا حرامًا او يخترقا قيم الشرف والعفة،

• أخيرا، عدم المبالغة في تكاليف الزواج والحياة الأسرية ومحاولة عدم الوقوع في مصيدة الديون والقروض التي قد تقوّض بناء الأسرة واستقرارها.

إنّ أعظم نعمةٍ نعتز بها هي تلك الأصلاب الطاهرة والأرحام المطهرة التي أنجبت ابناء وبنات هذا المجتمع، وعلينا ان نسعى جاهدين للحفاظ على هذه النعمة وأن نرعى هذا البناء الطاهر في الأجيال القادمة وان نذلّل الصعوبات لهم خاصةً أنّها في أغلبها اعتبارات نفسية يمكن معالجتها.

وصدق الله العلي العظيم حيث قال: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون) {سورة الروم: 21} ، والحمد لله ربّ العالمين.

د. عبدالجليل الخليفه

4 تعليقات

  1. أحسنتم د عبد الجليل ،لامست حالة او ظاهرة إجتماعية وهي عدم الانسجام بين الزوجين او العزوف عن الزواج بحجج مختلفة. نشر ثقافة الزواج وأهميته في الحياة ومنافعه وتذليل الصعوبات ودور الوالدين ضروري في تربية جيل يعي أهمية الزواج. الحل يبدأ من الاسرة ويوجه البوصلة في الاتجاه الصحيح.

    اشكرك

  2. حسين الخواجه

    موضوعٌ خطير، وعواقبه كارثية على الجميع. وبرأيي الشخصي، فإن وسائل التواصل الاجتماعي – أو كما سماها د الخليفة “خارطة الثقافة الاجتماعية”، أصبحت السبب الرئيسي في هذا التحول.

    للأسف الشديد، أصبح افراد الأسرة أشبه بمجموعة جزر متقاربة، لكنها مفصولة ومعزولة عن بعضها البعض، يجلسون تحت سقفٍ واحد، لكن أرواحهم تائهة في عوالم رقمية بعيدة، لا يجمعهم سوى الجدران. يعيش كل فرد في “زنزانته” او جزيرته الخاصة، منغمسًا في هاتفه، يتفاعل ويتسلّى بكل ما يُعرض على وسائل التواصل الاجتماعي.

    هناك طوفان من “المغذيات الثقافية” (السيئة) التي تُوجّه للبنات والأولاد، حتى بات من شبه المستحيل السيطرة على القيم التي ينشأ ويتربى عليها افراد الاسرة. والمصيبة الاعظم ان راعي الاسرة يعتقد ان عائلته محصنة!!

    وهذا ليس من باب المبالغة، بل وسيدرك الجميع في المستقبل القريب حجم الكلفة الباهظة لاعتماد تكنولوجيا غربية تضخ ثقافتها وقيمها دون توقف، بينما نحن نائمون فيما نعتقد انه عسل. ثقافة يستهلكها ويلتهمها اولادنا بلا وعي، ولا قواعد، ولا حتى حصانة فكرية أو قيمية وباتت تشكل هويتهم الجديدة
    ثم نقف ونتسائل: لماذا تغيرت قيم الجيل الجديد؟!!

  3. حبيب الراشد

    يعطيك العافية

    اعتقد ان بعض الحلول لا بد من مناقشتها بشكل عاجل ومنها

    حملات توعية متوازنة حول قدسية الأسرة والواقعية في اختيار شريك الحياة.

    جلسات حوار أسري منظّمة تحت إشراف الأهل أو المستشارين قبل عقد القران.

    تيسير تكاليف الزواج عبر تقليل المهور والمظاهر الاحتفالية ودعم مالي ميسّر.

    إبراز قصص أزواج ناجحين كنماذج وقدوات واقعية للشباب.

    تفعيل مراكز الإرشاد الأسري ودورات قبل الزواج عن مهارات التواصل وإدارة الخلافات.

  4. صادق جواد المطر ابوامين

    ما شاء الله! مقال يلامس واقعنا، يادكتورنا الغالي، ومشكور على هذا الطرح العميق والجميل، الذي يحمل حلولًا واضحة وتوجهات رائعة.

    نقدر بشكل خاص النقاط الجوهرية التي أثرتها، والتي تمثل دروسًا قيّمة نستفيد منها جميعًا، خاصة في هذا الوقت الذي أصبحت فيه مشكلة الزواج واضحة وتحتاج إلى معالجة جادة.

    رؤيتك الواقعية المتوازنة، واقتراحاتك العملية لتعزيز التوافق بين الشباب والفتيات، ونشر الوعي الأسري والثقافي، كلها ملامح مهمة تساعد على إصلاح الوضع الاجتماعي، وتحقيق استقرار الأسر، وبناء أجيال صالحة.

    أدام الله قلمك المبدع، وجعل كل ما تقدمه نورًا يهتدي به من يبحث عن الحلول العملية لمشكلاتنا الاجتماعية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *