حين لا يرتاح القلب… دون أن يعرف السبب …! – بقلم صادق علي القطري

إلى كل من شعر بالنفور تجاه شخص لا يعرفه، ثم راح يلوم قلبه… لا بأس، أحيانًا تتحدث الروح بلغتها قبل أن نفهمها.

في زحمة الحياة، نلتقي بأناس كثيرين، ونعبر طرقًا متشابكة من العلاقات والتعارف. قد نتعاطف مع غريبٍ من أول نظرة، ونشعر بارتياح لا تفسير له، كما قد ننفر من شخصٍ دون أن نملك سببًا واضحًا لهذا النفور. شيءٌ ما في أعماقنا يقول “لا”، رغم أنه لم يَصدر من الطرف الآخر ما يُبرر هذا الرفض.

فهل نحن مذنبون حين نشعر بذلك؟ أم أن هناك شيئًا أعمق يحدث خلف كواليس وعينا؟

في علم النفس، لا تُترك هذه الظواهر معلّقة في الفراغ. بل يُفكّكها العقل ويقرأ إشاراتها الخفية، ويفتح لنا بابًا لفهمٍ أكبر للذات، حين نكتشف أن معظم مشاعرنا الفورية ما هي إلا مرآةٌ تُجسّد تجارب سابقة، أو حدسًا داخليًا، أو استجابة لتنافر لاشعوري مع الآخر.

عندما يتحدث اللاوعي حيث الانطباع الأول يسبق الوعي:
يتكوّن الانطباع الأول في لحظات خاطفة، ويستند إلى إشارات بصرية وصوتية وجسدية. فالعين تلتقط، والجسد يشعر، واللاوعي يُصدر حكمًا سريعًا. قد نرتاح لمن يشاركنا نمط الحديث، أو ملامح الود، أو رهافة المشاعر، بينما ننفر ممن يُصدر طاقةً قلقة، أو يبدو مغرورًا، أو يُشبه في ملامحه من خذلنا يومًا ما.

هذا التفاعل لا يعني أننا “نحكم على الناس”، بقدر ما يعني أن عقلنا الباطن يُفعّل أنظمة الحماية القديمة، المُبرمجة من تجارب الطفولة، والأحداث العاطفية، والمواقف التي علّمتنا أن “نحذر” أو “نتقرب”.

التحيّزات الخفية… حين يتحكّم الماضي في الحاضر:
قد لا ندرك ذلك، لكننا نعيش ونحن نحمل صورًا ذهنية تشكّلت عبر السنين. فشخصٌ يلبس بطريقة معينة قد يُذكرنا بطفلٍ كان يسخر منا في المدرسة، أو طريقة كلام أحدهم تُحاكي نبرة قاسية سمعناها في بيت الطفولة. دون وعي، يستيقظ هذا “الأرشيف العاطفي”، ويمنحنا شعورًا داخليًا غير مريح.

تُعرف هذه الظاهرة في علم النفس بـالتحيّز اللاواعي (Implicit Bias)، وهي تحيّزات غير عقلانية، لا نُدرك وجودها، لكنها تؤثر في قراراتنا وسلوكنا العفوي. وهنا، لا بد أن نكون أكثر رحمة مع أنفسنا، لأننا لا نختار هذه المشاعر، لكننا نستطيع أن ننتبه لها، ونفككها، ونفهم جذورها.

الحدس… لغة الروح التي تسبق العقل:
أحيانًا يكون النفور حدسًا خالصًا. ذلك الشعور الذي لا يستطيع تفسيره المنطق، لكنه صادق. يشعر الإنسان بأن “ثمة شيء غير مريح” في الطرف الآخر. قد يكون خللًا في الانسجام، أو طاقة متناقضة، أو حتى نوايا غير مرئية. والحدس ليس سحرًا، بل هو نتاج آلاف الإشارات التي التقطها العقل الباطن بسرعة، فكوّن منها شعورًا يصعب شرحه.

هذا الحدس، رغم غموضه، كان أداة نجاة للإنسان منذ بدايات وجوده، وعلينا أن نحترمه دون أن نُقدّسه أو نتبعه عميانًا. التوازن هو أن ننصت له دون أن نُدين الآخر، وأن نسمح للزمن بإيضاح الصورة، لا أن نغلق قلوبنا نهائيًا.

تنافر الأرواح لا يعني كراهية:
أحيانًا ببساطة، لا تنسجم الأرواح. لا يوجد خطأ. لا يوجد عيب. فقط اختلاف في الذبذبات، في اللغة الداخلية، في سرعة المشاعر، في حسّ الدعابة أو العمق أو النوايا.

هذا الاختلاف لا يُقصي الآخر، بل فقط يُخبرك أن هذا النوع من الأشخاص قد لا يُغذّي سلامك الداخلي. والاعتراف بهذا التنافر ليس حكمًا، بل هو احترامٌ للذات، كما هو احترامٌ للآخر.

كن رحيمًا بنفسك… وفضوليًا تجاهها:
لا تلم نفسك لأنك لم تحب شخصًا من أول مرة، ولا تجبر قلبك على أن يرتاح لما لا يستريح له. لكن في الوقت نفسه، لا تُغلق باب الفهم. اسأل نفسك:
– لماذا شعرت بذلك؟
– هل هذا شعور أصيل؟ أم ظلّ من ماضٍ مضى؟
– هل أستطيع أن أُعطي الفرصة؟ أم أنني بحاجة إلى المسافة؟

في النهاية،،،

كلّ ما نشعر به ليس عيبًا، بل رسالة. وكل رسالةٍ تحمل مفتاحًا من مفاتيح معرفة النفس. ومن يُنصت بصدقٍ لصوته الداخلي، سيعرف متى يكون الحدس مرشدًا، ومتى يكون الحذر مرآةً لماضٍ لم يُشفَ بعد.

المهندس صادق علي القطري

المصادر من علم النفس والسلوك الاجتماعي:
• Daniel Kahneman – “Thinking, Fast and Slow”
يناقش في هذا الكتاب كيف يتخذ العقل قرارات سريعة بناءً على انطباعات لاواعية، وهو مرجع رئيسي لفهم الأحكام التلقائية.
• Malcolm Gladwell – “Blink: The Power of Thinking Without Thinking”
يتناول موضوع الانطباع الأول والقرارات الحدسية السريعة، ويوضح كيف يمكن أن تكون دقيقة أو مضللة أحيانًا.
• Goleman, D. – “Emotional Intelligence”
يناقش فيه الذكاء العاطفي والوعي الذاتي، ويشرح كيف نفهم مشاعرنا وانفعالاتنا تجاه الآخرين.
• Implicit Association Test (IAT) – Harvard University Project
دراسة شهيرة عن التحيّزات اللاواعية (Implicit Bias) وتأثيرها على سلوكنا دون أن نشعر.
• Carl Jung – نظرية الظل (Shadow Work)
يُفسّر فيها كيف أننا أحيانًا نرفض في الآخرين ما لم نصالحه داخل أنفسنا. الشعور بالرفض قد يكون إسقاطًا لمحتوى مكبوت فينا.
• Brene Brown – “The Power of Vulnerability” (TED Talk & Book)
تتناول دور المشاعر الداخلية في تفاعلنا مع الآخرين، وكيف أن الشعور بعدم الأمان قد ينعكس على انطباعاتنا عن الغير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *