محرم.. دمعةُ القلب أم نهضةُ الوعي؟ – بقلم صادق علي القطري

إلى كل من ظنّ أن الحسين (ع) خرج باحثًا عن الموت، بينما كان يحمل الحياة في رايته…
إلى من يذرف الدموع خاشعًا، فلعلّ بين الدمعِ شعلة وعيٍ توقظ أمة…

حين يَقبلُ شهرُ محرّم، لا تُقبلُ معهُ الأيّام، بل تتقدّم نحونا القرون. وكأنّ الزمن يطوي نفسه طيًّا، ليُخرج من أعماقه مأساةً لم تبرد، وصوتًا لم يخفت، ودمًا ما زال يسأل: أين أنتم؟

في هذه الليالي، تهتزّ الأرواح كما لم تهتزّ في غيرها، وتفيض العيون كما لا تفيض في سواها، ويتحوّل التاريخ إلى مرآة… مرآةٍ نرى فيها وجوهنا، لا فقط وجوه القتلة والمقتولين. هنا لا يكون السؤال: “ما الذي حدث؟”، بل: “ماذا أفعل أنا بما حدث؟”

فهل إحياء محرم هو مجرّد موسمٍ لبكاءٍ موسميٍّ نُفرغ فيه عواطفنا ونعود؟
أم أنّه نداءُ بعثٍ دائم، يُردّد في أعماقنا: “إن كان الحسين (ع) قُتل، فهل ماتت قضيته؟”

الدمعة.. أول الطريق وليست آخره
الدمعة على الحسين ليست ضعفًا، بل وعيًا بالألم، اعترافًا بالخسارة، ووفاءً لرايةٍ سقطت على الأرض فحملتْها القلوب.

لكنها، إن بقيت دمعة فقط، جفّت دون أثر.
الدمعة التي لا تُغيّر سلوكًا، ولا توقظ إحساسًا بالظلم في واقعنا، تبقى دمعة عاطفية، لا دافعة.

الحسين (ع) لم يبكِ، بل أبكى الدنيا. لم يكن مأتمه مسرحًا للبكاء، بل منصةً للنهضة. ولو كان هدف كربلاء أن تفيض العيون فقط، لما خطب زين العابدين في مجلس يزيد، ولما صاحت زينب “ما رأيتُ إلا جميلًا”.

كربلاء.. مرآة الضمير الإنساني
كربلاء لم تكن حدثًا شيعيًا، ولا فصلاً تاريخيًا فقط. بل صرخة إنسانية مدوّية:
“هيهات منا الذلة”.

في كربلاء، وقف الحسين (ع) وحيدًا، لا ليُهزم، بل ليُظهر أن الإنسان، حين يكون الحق في جنبه، أعظم من الجيوش كلها.
فهل نبكيه لأنّه قُتل، أم لأننا نحن من قُتل في كربلاء معه؟
وهل نكتفي برثاء التاريخ، أم نحاول أن نمنع كربلاء اليوم من التكرار؟
في كل صمتٍ أمام الظلم، في كل نفاق، في كل سكوت عن الحق… تعود كربلاء خفيةً بيننا.

مآتم الوعي لا البكاء
يُحي محرم، لا لتكريس الحزن، بل لتكريس القيم.

في مآتمه، لا يُراد لنا أن نغرق في المأساة وننسى الرسالة، بل أن نخرج من بين الدمعة والسواد بروحٍ جديدة، ترى أن الحسين لم يكن صريعًا، بل صانعًا لضميرٍ حيّ.
إنّ إحياء محرم هو وقفة بين القلب والعقل، بين العاطفة والبصيرة.
نعم، نبكي الحسين (ع)، لكننا نرتقي به أيضًا. نُجري دمعًا، ونشحذ عزيمة. نُنشد حزنًا، ونُقسم صمودًا.

لماذا لا يزال الحسين (ع) حيًّا؟
لأنّه لم يُقتل في معركةٍ على الماء، بل قُتل لأنّه قال “لا” حين سكت الجميع.
قُتل لأنّه أراد للأمة أن تنهض، لا أن ترضى، أن تُفكّر، لا أن تُباع.

لهذا ظلّ اسمه حيًّا، وظلّ دمه يُحيي القلوب.
ولهذا لا تزال الجموع تمشي، تبكي، تهتف، تحيي، تبحث…
تبحث عن الحسين (ع) في واقعٍ فقد معناه.

في الختام:
الحسين.. مشروع أمة لا موسم حزن
إحياء محرم هو استذكار لثورة وضمير.
هو دعوة لنتساءل: لو كان الحسين (ع) بيننا اليوم، فهل كنا من أنصاره؟ أم من المتفرّجين؟

ليس السؤال: “هل بكيتَ في العاشر؟”
بل: “هل غيّرت شيئًا في نفسك بعده؟”
الحسين (ع) لا يريدُ الدموع فقط، بل يريد منّا أن نكون دموعًا تمشي، وعيونًا تبصر، وقلوبًا تثور على الظلم والجهل والتخاذل.

فلا تحبسوا الحسين في محرّم…
بل أخرجوه معكم في كل شهر، في كل موقف، في كل كلمة حقّ، وفي كل قلب حيّ.

المهندس صادق علي القطري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *