[نطاق المدينة الحضري التاريخي]
ذُكِرَ، والعهدة على من ذكر، وهو رجل مؤمن طيب الأثر، إن باب الشمال كانت قبل ما يقدر بمئة سنة مضت ضاحية فيها نخيل كثيفة ومزارع وبساتين وسيبان عريضة غزيرة يجري بها الماء جريان الأنهر حتى إن من ينط بعض اسيابها من الشباب يُعدُ من اصاحب البنية القوية الذين يعتد بهم في الملمات ويُدعون لمواجهة الصعاب ويبدعون في ميادين الألعاب كالهول وجر الحبال.
لم نرى نحن في بداية الستينات ما وصفه المرحوم الحاج مهدي بتفاصيله وسعة بصمته المكانية، بحماسة وهو يشبر ويعبر حتى تشعر إنك تعيش في الزمان الذي يذكر عهده وتشاهد فيلمًا سينمائيا فيه صور متحركة لمناظر المكان الذين كنا واقفين فيه، ولكننا رأينا اماكن مشابهة لما ذكر الحاج مهدي.
ففي الستينات وبداية السبعينات من القرن العشرين الميلادي المنصرم رأينا بقايا مما اشار إليه الحاج مهدي. رأينا سيب الخناق الذي بدأنا فيه تعلم السباحة قبل أن نتقنها في حمام ابو لوزة ونترفه بها في عيون الرواسية والمربعة والقصير وأم عمار وهي من العيون التي صارعت على البقاء طويلًا لكنها ادركت اخواتها ولم تدم فلا شيء يدوم ويبقى.
كما رأينا مجرى باب الساب الي كان يُخشى على الصبيان الأقتراب منه خوفًا عليهم من الغرق حتى ولو اجادوا السباحة. كما رأينا الكثير من النخيل وقنوات المياه التي تسقي ما تبقى من زراعتها وما فيها من دواب في وسط الأحياء التي بدأت تظهر على حساب الرقعة الزراعية.
في أحد بساتين هذه النخيل التي بقت بفضل رغبة ومثابرة القائمين عليها، كان يسكن الحاج علي مع عائلته، وكان حينها شيخًا كبيرًا في السن طويل القامة كفيف البصر ذي لحية بيضاء كثيفة، مال ظهره إلى الإنحناء واحدودب. رأيناه يسير في الطرقات ممسكًا بعصاة في إحدى يديه ضاربًا بها الأرض ليتحسس طريقه، وباليد الأخرى يمسك بيد ابنه عبد الرسول الذي يطيعه أكثر من اخيه عباس الذي لا يصبر كثيرًا على طلبات أبيه.
كان الحاج علي شديد الحرص على تعليم افراد اسرته الصلاة ترغيبًا بالكلام الطيب والعطاء وترهيبًا بالخيرزان الذي امتهن بيعه حيث يحتاج إليه بكثرة لسوق الحمير وبعض الدواب ولمعاقبة المناكفين والمشاغبين من قبل العُمد ولتأديب الأولاد في المنزل والطلاب عند الكتاتيب وفي المدارس فالعصا لمن عصى وإن كانوا يقولون معها “اللي ما يسوقه مرضعه سوق العصى ما تنفعه”.
حين تلتفت الى هيئة الحاج علي، تلمح فيه، على كبر سنه، قوة بدنية واضحة فهو يمشي بطريقة نشطة وخطوات واسعة يسبق بها ولده الذي يقوده إلى مقاصده فيكاد من دفعه إليه بعنفوان أن يعرقله ويسقطه. وكان الحاج علي كثير البكاء بصوت عالٍ حين يحضر مجالس الذكر، وممن يمتنعون عن شرب الماء القراح، ولكنه كان كثير التدخين للنارجيلة بعمق ونفس طويل.
من باب الشمال بدأ بناء البيوت يزحف شيء فشيئًا على النخيل والبساتين حتى غابت الخضرة عن مرابعها. وهكذا كان الحال في بقايا مناطق القطيف.
جغرافيًا، تقع باب الشمال في مركز الواحة الجامعة لبلدات القطيف والممتدة من صفوى شمالًا إلى سيهات جنوبًا ومن تاروت شرقًا إلى الأوجام غربًا وسميت باب الشمال لأن من اراد الذهاب لمناطق شمال القطيف قادمًا من مركز اسواقها العامة كالسكة وسوق الجبلة وسوق شمال واسواق الأسماك واللحوم والخضروات والتمور والذهون والماشية والجلود واصناف منتجات القرى والبادية احتاج للمرور عبرها، ومن هذا الموقع الجغرافي اخذت باب الشمال اسمها كما سميت دروازة القلعة الغربية التي تواجهها “دروازة باب الشمال”.
اشتهرت القطيف بمسميات تاريخية كالخط والتي يصف ابن المقرب امتداد رقعتها الحضرية بقوله: “والخط حازوها فما ابقوا بها شبرًا من صفواْ إلى الظهران”، وهنا دلالة تُستشف منها الكثافة السكانية وكبر رقعتها الزراعية التي لم تترك شبرًا واحدًا في ارضها دون أن يستغل بمنتج زراعي أو اقتصادي أو بشري.
وإلى زمنٍ غير بعيد كانت حدود القطيف التاريخية تتاخم ما جوارها من حواضر معروفة كالبصرة شمالًا وعمان جنوبًا والبحرين شرقًا وهجر أو الأحساء من جهة الجنوب الغربي. إلا إن حجم المدن يتغير مع زمانها زيادة ونقصانا بقوة تأثيرها الأقتصادي والإجتماعي.
في الجزء الخامس من دليل الخليج يذكر لوريمر أن مدينة القطيف هي المكان الرئيسي والمدينة الهامة الوحيدة في واحة القطيف وتقع على ساحل شرق شبه الجزيرة العربية ، على بعد 230 ميلًا جنوب مدينة الكويت وعلى بعد 36 ميلًا شمال غرب أقرب جزء في جزيرة البحرين وعلى بعد 64 ميلًا شمال غرب ميناء العقير.
وفيما يخص حاضرة رقعتها الجغرافية، ذكر روليمر أن مدينة القطيف تقع على شاطىء خليج يصل من رأس تنورة إلى الدمام ويسمى خليج القطيف، ويسير الساحل عند هذه النقطة متجهًا شمالًا وجنوبًا تقريبًا وتقع جزيرة تاروت التي في الخليج في اتجاه شرق الشمال الشرقي من المدينة على بعد ميلين.
وفيما يخص رقعتها الجغرافية الحضرية ، ذكر لوريمر إن عدد السكان المستقرين في واحة القطيف في الأعوام ما بين 1903—إلى 1908 ربما بلغ 26000 نسمة جعل منهم 5000 نسمة في العاصمة القطيف و 5000 نسمة في ضواحيها وأقر ال 16000 نسمة البقية ككتلة موزعة فيما نبقى من قرى القطيف وهي كما ذكر 17 قرية. وفصل روليمر تعداد منازل جميع بلدات القطيف مرتبه تنازليًا كما يلي: القطيف: 700 منزل؛ سيهات: 600 منزل؛ تاروت، صفوى ، القديح: 350 منزل لكل واحدة منها؛ العوامية: 300 منزل؛ أم الحمام، الجش، الدبيبية، الكويكب: 250 منزل لكل واحدة منها؛ سنابس، الشويكة: 200 منزل لكل واحدة منها؛ الجارودية ، الخويلدية، مياس: 150 منزل لكل واحدة منها؛ حلة محيش: 135 منزل؛ الشريعة، المدارس: 120 منزل لكل واحدة منها؛ البحاري، التوبي، دارين: 100 منزل لكل واحدة منها؛ باب الشمال: 80 منزل؛ أم الساهك: 60 منزل؛ الأوجام، الملاحة: 50 منزل؛ الجراري، دير الزور: 40 منزل لكل واحدة منها؛ عنك: 20 منزل؛ الدمام: مهجورة من السكان، فيكون عدد المنازل كما احصاهم بوليمر هو 5515 منزل بمعدل 4.7 نسمة للمنزل الواحد. وربما يكون لوريمر قد اغفل القاطنين بصفة مستمرة في مزارعهم دون أن يملكون منازل في مراكز البلدات والقرى ويسكنون إضافة إلى مزارعهم في الأقواع المجاورة وتجمعات سكنية صغيرة متناثررة مثل الخباقة والخرارة والوسادة وغيرها.
وصف الشيخ الفارس القطيف في مقابلة له مع صحيفة الجزيرة بتاريخ 26 ايلول (سبتمبر) 1986م [قبل 55 عامً من تاريخ المقابلة أي في عام 1931م] بأن القطيف “كانت صغيرة جدا وكانت عبارة عن مزارع ومعظم اهلها يعملون في الزراعة.. أما بيوت القطيف فكانت صغيرة جدا”، وذكر “إن اهل القطيف كانوا يصدرون الخضروات للبحرين وقطر وغيرهما.. والهنود أيضا كانوا يشترون الرطب من القطيف لأنهم يقدمونه كحلوى ممتازة في افراحهم”. كما ذكر الفارس أن معظم أهل القطيف “عملوا في الزراعة ولكن منهم أيضا من اشتغل بالتجارة ومنهم من برع في الغوص وصيد اللؤلؤ ومنهم من اشتغل في الوظائف الحكومية”.
والشيخ محمد بن صالح بن حسن الفارس مولود في عام 1900م وكان مسئولًا في دائرة المالية الحكومية في بداية حياته الوظيفية ومن ثم رئيس لبلدية القطيف ورئيس لعمدائها، وأنشأ متحفًا تراثيًا تاريخيًا غنيًا بالمقتنيات الثمينة، ولكنه للأسف ذهب مع الريح وضاع جهد جهيد ما كان ليضيع لو حُظي بالتفاتة كريمة تحفظه، فنأمل الا تختفي المتاحف الشخصية العديدة القيمة وتضيع مقتنياتها كما ضاع متحف الفارس الشهير إذا لم يتم إقامة متحف حضاري موحد تقوم عليه جهة مسئولة لحفظ تاريخ عريق.
في سيرة رحلة ابن بطوطة المولود عام 703هج ( 1304م ) في طنجة والذي خرج منها سنة 725هج للحج الذي استكمل بعد أداء فريضته رحلة استكشاف لمدن وبلاد ذلك الزمان ومنها مدينة القطيف حيث ذكر مؤرخًا: “وسافرنا إلى مدينة القطيف، كأنه تصغير قطف. وهي مدينةٌ كبيرةٌ حسنةٌ، ذات نخلٍ كثير تسكنها طوائف العرب”.
والمدينة برأي ابن خلدون توافق الفطرة الإنسانية، ويقول “الاجتماع ضروري للإنسان لأنه مدني بالطبع مما يجعله في حاجة للمدينة وهو معنى العمران. وأن المدن قرار تتخذه الأمم عند حصول الترف فتؤثر الدعة والسكون وتتوجه إلى إتخاذ المنازل للقرار وهذا يوجب دفع الأخطار بوجود الحماية من طوارقها وجلب المنافع وتسهيل المرافق لها. ومما يراعى في البلاد الساحلية أن تكون موفورة العدد لتكون صريخًا للمدينة متى ما اطل عليها طارق من عدو والسبب أن المدينة إذا كانت حاضرة البحر كانت في غرة سهلة النيل ما لم يكن هناك الصريخ لنجدتها”.
فوصف كلٌ من لوريمر وابن بطوطة القطيف بالمدينة الكبيره يتوافق تاريخيًا مع خصائص المدينة وتكوينها عند ابن خلدون.
أما التوصيف الحالي للمدن فبات يعتمد على وجود عدد كبير من السكان ووجود مباني شاهقة وبيوت حديثة وشوارع فسيحة وحدائق عامة وإنتاج غير زراعي يفوق النشاط الزراعي، وعلى ما يتوفر في المدينة من مؤسسات كوجود جامعة ودوائر حكومية ذات صلاحيات واسعة ومؤسسات تجارية كبيرة وفنادق، وما توفره من خدمات بحجم أو أهمية أكبر من بلدة أو قرية.
ولمصطلح “مدينة” معاني مختلفة في جميع أنحاء العالم، ففي بعض الأماكن يمكن أن تكون المدينة صغيرة جدا، فحجم ومظهر المدن يختلف من مكان لآخر في أنحاء العالم، إلا أن هناك أشياء مشتركة بين المدن تجعلها أكثر حضرية. تُعرِف الموسوعة البريطانية المدينة بأنها “مركز دائم نسبيًا ومنظم تنظيمًا جيدًا لخدمة السكان”.
مع التطور العمراني المتسارع في ارجاء الواحة والتوسع المحلي للتجمعات السكانية فيها اطلق على بعضها مسمى قرى وعلى بعضها بلدات والبعض الآخر مدن، والأصح إنها مجموعة متعددة من القرى شكلت عبر تاريخها وفي مجموعها مدينة كبيرة ضمن نطاق حضري واحد اطلق عليه حديثًا اسم محافظة القطيف وهي المدينة التي وصفها لوريمر وابن بطوطة، ويساعد على فهم هذا التوصيف التطور الآخير في شبكة الطرق والشوارع الحديثة التي اعادة نسج خيوط تكوينها بربط الأطراف وتسهيل التواصل والأندماج ضمن نطاق حضري عمراني مدني متجانس.
شاهد الجزء الأول: https://www.qatifscience.com/?p=25960
شاهد الجزء الثاني: https://www.qatifscience.com/?p=26060
دقة الوصف ومراجع الاستناد في المقاله يجبرك على القراءه التي تسبح بك في مياه القطيف ومناحيها القديمه وان تحسرنا عليها فهي تاريخ البلد الذي نفتخر به وحري بنا ان نعتني بما بقى لتتناقله الاجيال….جزاك الله خير الجزاء ابو حسن ولا فض فوك وقلمك