في نظرية العقل والبعد الميتافيزيقي للمعرفة – د. جاسم العلوي

أراد ديكارت أن يتحصل على اليقين ليجعل منه القاعدة التي يبني عليها فلسفته. كان ذلك بعد أن ساوره الشك في كل شيء. تحركت في ذهنه الأسئلة حول مدى اليقين في ما يعلمه الإنسان ، فما الذي يجعل ما نعلمه يتمتع بدرجة عالية من الصدق؟ ما هو الأساس الذي لا يعتريه الشك ويتمتع بدرجة عالية من الصدق ومنه يبني الإنسان فلسفته ومعرفته بالأشياء من حوله؟ واكتشف أن ممارسة الإنسان للتفكير أمر لا شك فيه ولا يزيد الإنسان الشك في أنه يفكر إلا مزيدا من اليقين والطمأنينة بحقيقة ممارسته للتفكير. و لما كان التفكير حقيقة فإن التفكير يحتاج الى مفكر فتقرر لديه أن وجوده حقيقة وليست وهما (إستدل ديكارت على وجوده بواسطة فكره والحقيقة أنه تعرف على ذاته قبل أن يتعرف على فكره).  وبعد أن تقدم هذه الخطوة تراجع خطوتين إلى الوراء ، وتساءل حول ما إذا كان وراء ما نعتقد أنه يقين وحقيقة لا شك فيه أن قوة تسيطر على أذهاننا وتضللنا وتوهمنا بذلك اليقين. فما الذي يضمن صوابنا في اليقين الذي يشكل القاعدة التي يبني عليها الإنسان المعرفة. أراد ديكارت لهذه القاعدة أن تكون متينة وصلبة وليس في مقدور أحد أن يصنع بها صدعا ، لأن ذلك يعني أن أفق المعرفة قد أقفل وليس في مقدورنا أن نصل الى الحقائق بدون أن تكتسي لباس الشك. لكنه وضع ثقته في الله الذي جعله الضامن لصحة الأسس اليقينية التي يعلمها الإنسان. فالله الخالق لا يمكن أن يضللنا أو يخدعنا ، وقاده ذلك إلى أن الله أودع في فطرة الإنسان معارف يقينية أولية وبها أراد الله له أن يمارس التفكير ليبني على ضوئها المعارف والعلوم. هنا يتضح هذا البعد الخفي في الفلسفة العقلية لديكارت ، البعد الميتافيزيقي الذي يختبئ وراء الرؤية الفلسفية لديكارت. لن نناقش المشكلة المنطقية التي وقع فيها الكوجيتو الديكارتي لإثبات الوجود من خلال الفكر ، فما يهمنا هو تلك الجذور اللاهوتية التي تختبىء داخل الأرض لتنمو شجرة المعرفة وتعلو بكل ثبات من تلك الجذور الضاربة في أعماق الأرض. لقد صور ديكارت نفسه في كتابه المبادىء الفلسفة بالشجرة التي تحملها الميتافيزيقا. وقد تجلى التأثير الواضح للفلسفة الديكارتية بأساسها الميتافيزيقي في فلسفة تلامذته وبالأخص مالبرانش  و بسكال و ليبنتز. وكان تأثير فلسفة ديكارت على مالبرانش كبيراً حيث اعتبر الأخير الله ليس الضامن للحقيقة فقط بل هو أصل ومنبع الحقيقة. وأن المعرفة مصدرها الله وما دور النفس إلا الإستعداد لتلقي المعرفة من مصدرها1. إذن من الثابت عند ديكارت أن هناك عالما قائما له حقيقة ساطعة كالشمس ومن وحي أشعته نتزود نور المعرفة بممارسة التفكير.

تهدف هذه الورقة إلى بيان بعضاً من نظرية العقل عند الفلاسفة ووضعها في السياق الذي يخدم الفكرة المحورية في هذه الورقة وهي أن المعرفة تنمو وتتطور من أصلها الميتافيزيقي. ويستند هذا الأصل أولاً إلى أن الميتافيزيقا حقيقة ساطعة ولايعني تواريها إلى ما وراء الحس أنها غير موجودة أو أنها خرافة كما هو عنوان كتاب الفيلسوف الدكتور زكي نجيب محمود رحمه الله “خرافة الميتافيزيقا”  الذي أطر بعد ذلك لتغيير عنوانه بعد النقد الكبير الذي واجهه إلى “الموقف من الميتافيزيقا”. وما محاولات المدارس المادية المختلفة  لنفي هذا البعد من الوجود المستتر عن حواسنا إلا دليلاً يضاف إلى الأدلة المثبتة لحقيقة وجوده كما سيتضح في طيات هذه الورقة.  تحتل الميتافيزيقا في سلم الوجود حيزاً وجوديا كبيرا بحيث أننا نقارب الصواب إذا قلنا بأن العالم المادي –الفيزيقا- يشكل جزيرة صغيرة جدا في محيط عباب زاخر بفضاءاته المعرفية المتنوعة. ويستند هذا الأصل ثانيا إلى كون العقل قوة من قوى النفس مفارقه للجسم بل أنها مرتبة من مراتب العقل كما يرى بعض الفلاسفة يكون مفارق للنفس الإنسانية وليس جزءا منها ، وهنا نكون أمام مفارقة مركبة. وثالثا صحيح أن المعرفة البشرية تبدأ من مفردات الحس الخاصة وتتحرك صعودا نحو المعرفة العقلية الكلية المجردة ، لكن ليس كل التصورات التي تتوفر لدى النفس هي تصورات مستمدة من العالم المحسوس، إذ ليس صحيحا تماما ما يقال أن دنيا الذهن هو انعكاس لدنيا الخارج.  وإنما هناك تصورات تحصل عليها النفس من خلال شهود النفس لذاتها وآثارها وأفعالها  وهذا الشهود يتم بواسطة حضور ذات واقعية المعلوم وآثاره لدى النفس. ومن بعد هذا الشهود تكون القوة المدركة للإنسان صوراً لهذه الواقعية بعد سلب الآثار عنها وفي هذه المرحلة يتم استبدال المعرفة الحضورية بالمعرفة الحصولية. المعارف البشرية جميعها لابد وأن تنتهي الى المعارف التصديقية الأولية التي هي فرع لهذا الشهود.

مفارقة العقل للمادة وتجرد المعرفة

ثمة ثنائية حقيقية بين العقل والمادة وكل المحاولات التي سعت إلى رد الحياة العقلية للإنسان إلى ما هو فيزيقي لتغدو هذه الثنائية وهماً لم تصمد أمام النقد. هذه الثنائية تعني أن العقل ينتمي إلى عالم محكوم بظواهر وقوانين تختلف عن عالم المادة. هذه الحقيقة – أي ثنائية العقل والمادة – يؤكدها كون العقل لا يخضع للمقاييس المادية فليس للعقل وزناً أو امتدادا.  الإنسان كما هو جلي يحمل الإستعداد والقوة لكي يكون عالما بالأشياء وهذا الإستعداد هو استعداد العقل نفسه في المرحلة الأولى للإدراك لتقبل الصور الحسية. وهذه الصور الحسية غير مادية لأنها غير مقيدة بالزمان والمكان وكل متحرر عن مقيد الزمان والمكان فهو مجرد عن المادة. هذه المرتبة من التعقل التي يكون فيها العقل بالقوة يعني محض استعداد لتقبل الصور المجردة تسمى بالعقل الهيولاني. وبعد أن تنطبع فيه هذه الصور يكون العقل في مرتبة الفعل. ليس العقل في هذه المرتبة غير المعقول، والمعقولات لها صور مجردة، فإذن العقل علة لهذه الصور إذ لا يمكن أن تكون هذه الصور في النفس من ذاتها لأن النفس كما قلنا كانت فاقدة لها ، وليس علتها أمر مادي لأنه لا يمكن للمادة أن تمنح الوجود لشيء  فهذا يقود للقول أن العقل الذي هو علة لهذه الصور المجردة لا بد أن يكون جوهراً مجرداً في ذاته وفي فعله. هذا البرهان على تجرد العقل ومفارقته للمادة ذاتاً وفعلاً يقوم كما أوضحنا على أنه علة لصور حسية لا تنطبق عليها خواص المادة من حيث أنها لا تقبل الإنقسام وخارجة عن ظرف الزمان والمكان. إن تجرد العقل يقتضي تجرد المعرفة وبالتالي تتجلى حقيقة هذا البعد الميتافيزيقي للمعرفة.

يمكن أن نهتدي إلى هذه المفارقة بالنظر إلى أن حركة الفكر عند الإنسان -التعقل- من لحظة التصور حتى إصدار الحكم تنحو مساراً تتجلى فيها مجموعة من الملكات يحتاجها العقل مجتمعة في عملية التفكير والتي بذاتها ليست من معطيات الحس وهي غير قابلة للقياس الكمي على النحو الذي نقيس به المواد. هذه الملكات هي ضرورات تكوينية للعقل حتى يتمكن من ممارسة نشاطه وبدونها لايمكن له أن يدرك أي شيء.  فالعقل يحتاج إلى ملكة الإرادة  وهي تعبير عن رغبة في إتخاذ موقف فكري من قضية ما ، ولا سبيل لنفيها عن العقل لأن ذات النفي هو تأكيد على وجودها. أن تثبت أو تنفي أو أن تتخذ موقفا فكريا من قضية ما يحتاج العقل لملكة المقايسة والمفاضلة بين الأشياء والأفكار وهي ما تسمى ملكة الإستنتاج. كما أن العقل حتى يقايس ويفاضل بين الأشياء والأفكار يحتاج إلى ملكة الحافظه وهي التي تحفظ تجربة الإنسان الفكرية والحسية ويتم إستدعاء هذا المخزون المعرفي عند عملية الإستنتاج. والإستنتاج بالمقايسة يزيد من مخزون الحافظة لكنها لا تكفي لنمو معارف الإنسان وإنما يحتاج العقل لملكة الإدراك التي بها يقوم العقل بإصدار أحكامه. ولكي تتمكن ملكة الإرادة من الحكم تحتاج إلى ملكة يتمكن العقل بها من إستدعاء مخزون الحافظة وهي ملكة الذاكرة. هذه الملكات العقلية الخمسة ضرورات الحياة العقلية، وهذه الملكات لا تعني أن العقل مركب على نحو المركب الكيميائي  بل أن العقل بسيط لا يمكن تجزئته أو تفكيكه وما هذه الكثرة إلا كثرة في واحد2.  يؤكد دافيد هيوم مثلا وهو الفيلسوف المادي على حقيقة أن العقل غير المادة ، إذ ليس العقل من الظواهر المنطبعة في حواسنا ولكنه إتخذ من ذلك دليلا على إنكار العقل.  ما يهمنا هي النتيجة التي توصل اليها دايفيد هيوم ، وهو الفيلسوف المادي الذي لا يرى الوجود إلا في دائرة المادة ، أن العقل يقع خارج هذه الدائرة. إذن العقل ينتمي إلى فضاء وجودي مفارق للمادة.

وهنا يجدر بنا للأهمية أن نستبين هذه المفارقة بين العقل والجسم  من أقوال كبار الفلاسفة وسنخص منهم أرسطو و إبن رشد. وقبل أن نستعين بأقوالهما علينا أن نوضح للقارىء الكريم أننا عندما نشير هنا إلى العقل فإننا نقصد العقل في ذاته وليس العقل بإعتباره أداة للمعرفة نعني بذلك العقل في بعده الأنطلوجي.  و نذكر مثلا أن أرسطو لم تكن له نظرية واضحة في العقل كما يؤكد هو بنفسه على ذلك ، إلا أننا نراه يتحدث عن العقل النظري باعتباره نوع من قوى النفس المفارقة للجسم. يقول أرسطو في الجزء الثاني من  كتابه عن النفس “ولكن فيما يخص العقل والقوة النظرية ليس الأمر واضحا بعد ، غير أنه يبدو أن ها هنا نوعا من النفس مختلفا ، وأنها يمكن أن تفارق الجسم كما يفترق الأزلي عن الفاسد”3. يبين هذا النص أن العقل النظري كما يظهر أو يرجح أرسطو أنه نوع من قوى النفس المفارقة للجسم. لكن أرسطو في نص آخر يتحدث عن العقل الفعال وهو أحد مراتب العقل ويرى أنه ربما يكون مفارق للنفس. وأقول هنا ربما لأنه وقع اختلاف بين شراح أرسطو فيما إذا كانت هذه المفارقة مركبة أو لا. وأقصد بالمفارقة المركبة أن هناك مستويان من المفارقة مفارقة العقل للجسم ومفارقة العقل للنفس. العقل الفعال هو أحد مراتب العقل التي يتحدث عنها الفلاسفة وهو الذي يصير المعقولات التي بالقوة الى معقولات بالفعل. وقد اختلف الفلاسفة فيما بينهم حول ما إذا كان العقل الفعال جزءاً من النفس الإنسانية أم أنه خارج النفس الإنسانية وبالتالي يفارقها. الفلاسفة وعلى رأسهم أرسطو يفرقون بين العقل الذي هو مجرد إستعداد لإدراك معاني الأشياء وصورها و يسمى بالعقل الهيولاني وبين العقل الفعال الذي هو صورة لهذا العقل الهيولاني وينتزع المعاني فعلا. دعونا نستعرض نص أرسطو الذي أحدث موجة من الجدل الفلسفي حول معنى مفارقة العقل الفعال. ذكر أرسطو في كتابه النفس ما نصه “وهذا العقل هو المفارق اللامنفعل غير الممتزج، من حيث أنه بالجوهر فعل، لأن الفاعل دائما أسمى من المنفعل ، ولا نستطيع أن نقول إن هذا العقل يعقل تارة ولا يعقل تارة أخرى، و عندما يفارق فقط يصبح مختلفا عما كان بالجوهر وعندئذ فقط يكون خالدا وأزليا”4. يتحدث النص عن مرتبتين من مراتب العقل ، وهما العقل المنفعل -الهيولاني- الذي هو مادة وصورته عقل أسمى منه لامنفعل بل فاعل وعندما يفارق يصبح خالد وأزلي.

إن الغموض الذي لف نظرية أرسطو في العقل دفع بشراح أرسطو لسد النقص وهو ذاته الأمر الذي دفع إبن رشد الفيلسوف الإسلامي الكبير ، أحد كبار شراح أرسطو في وضع نظرية متكاملة عن العقل تعتبر أشد فلسفته ابتكاراً وتمايزاً عمن سبقه من الفلاسفة. يقيم ابن رشد نظريته في العقل بالتحديد الدقيق لمعنى العقل. فالعقل عنده هو ذات المعقول من جهة كونه معقولا وينص في كتابه تهافت التهافت على هذا المعنى فيقول “وكان العقل ليس شيئا كثيرا من إدراك المعقولات”5 و يعلل هذا التحديد لمعنى العقل عنده على أساس أن الموجود الذي ليس بجسم هو ذاته عقل فيقول “والسبب في ذلك أن العقل عندما يجرد صور الأشياء المعقولة من الهيولى ويقبلها قبولا غير هيولاني ، يعرض له أن يعقل ذاته إذ كانت ليست تصير المعقولات في ذاته من حيث هو عاقل بها على نحو مباين لكونها معقولات أشياء خارج النفس”6 . ومعنى هذا النص أن العقل بإعتباره مفارق للمادة يقوم بتجريد صور المحسوسات المادية وهو بهذا التجريد يعقلها لأنها أصبحت مسانخه له مفارقة للمادة. فإذا كانت الصور المادية بالتجريد تصير عقلا وعلما فإن من كانت حقيقته مجردة أولى أن يكون بالتعقل عقلا وعلما. يقول إبن رشد في كتابه تهافت التهافت تأكيدا على هذا المعنى “ولما كانت معقولات الأشياء هي حقائق الأشياء وكان العقل ليس شيئا أكثر من إدراك المعقولات كان العقل منا هو المعقول بعينه من جهة ما هو معقول .. فإن الفى شيء في غير مادة فالعقل منه هو المعقول من جميع الجهات وهو عقل المعقولات”7.

ويترتب على هذه الثنائية أن الفكر بما هو مفارق للمادة وهو الصانع لمسيرة الإنسان في التاريخ ، فهناك إذن دائرة أكبر من الوجود تحيط بدائرة الوجود المادي وتقف خلف حركة الإنسان التاريخية على الأرض. إذن عالم الفيزيقا تحمله الميتافيزيقا المتوارية عن الحس ، كما يقول ديكارت، والتي نستيقن حقيقتها بالتعقل.  إذ أن الأحكام الذي يصدرها العقل هي لون من النشاط الذهني التي لا ترد إلى الذهن عن طريق الحواس. كما أن التفكير في الفكر نفسه حيث يكون طرفي القضية ، الموضوع والمحمول ، ليستا من الوقائع الحسية هو أحد دلائل الصدق على ثنائية العقل والمادة.

تؤكد نظرية المعرفة عند بعض الفلاسفة الأوربيون وكذلك عند فلاسفة الإسلام على أن النفس هي محض استعداد وأن الإدراكات الجزئية الحسية سابقة على الإدراك العقلي الكلي. وأن العقل يصيغ مفاهيمه الكلية من خلال الصور الحسية. يرى الحكماء الأسلاميون أن العقل ينتزع من هذه الصور الحسية مفاهيم كلية يسمونها المعقولات الأولية  كالإنسان ، الشجرة ، الحيوان …الخ، ثم يقوم بعملية إنتزاعية ثانية ينتزع بها من هذه المعقولات الأولية معقولات ثانية تشكل معظم مقولات الفلسفة والمنطق كالوحدة ، الكثرة ، العلية ، الإمكان …الخ 8. هذا يعني أن العلاقة بين دائرتي الوجود المادية وغير المادية -الفيزيقا والميتافيزيقا- لا تسير في إتجاه واحد بل أن هناك علاقة وثيقة ومتبادلة بينهما يشكل العالم الفيزيقي فيها المادة الأولية للفكر.

الوضعية المنطقية الجديدة ومحاولة حذف الميتافيزيقا 

المدرسة الوضعية التي أسس لها أوغست كونت في القرن التاسع إعتبرت أن البشرية قد تجاوزت مرحلة الميتافيزيقا كليا بعد أن وصلت الى المرحلة الوضعية أو العلمية. أما الوضعية المنطقية الجديدة أو التجريبية المنطقية كما أسماها كارناب أحد أبرز رواد هذا التيار الفكري ترى أن العلم يحمل في طياته مشاكل ميتافيزيقية. ولذلك يجب العمل على تطهير العلوم من هذه القضايا الميتافيزيقية التي تتسرب اليها من خلال الفحص المنطقي الدقيق للغة العلوم المستخدمة. وتقصر هذه المدرسة المعارف المشروعة إلى العلم الرياضي والعلم الطبيعي. التجربة في الرؤية الفلسفية لهذه المدرسة هي المصدر الوحيد للمعرفة لكن ما يميز هذه المدرسة عن التجريبيين الإنكليز هو قولها بإمكان بلوغ اليقين في الميدان العلمي والفلسفي. وهذا الإمكان قائم إذا ما التزمنا التقيد الصارم بالمنطق الصوري.

المدرسة الوضعية الجديدة واستمراراً للتيار الفلسفي الحسي جعلت الحس وكل ما يدخل في نطاق الخبرة الحسية الحد الذي يفصل العلوم عن الميتافيزيقا9.  وهذا الحد قائم على أساس أن الميتافيزيقا كلام فارغ خالية من المعنى. فالكلام إما يكون صادقا أو كاذبا وعندما لا يكون الكلام لا هذا ولا ذاك فهو كلام لا معنى له.

والميتافيزيقا تنتج كلاما لا يمكن الحكم عليه بالصدق أو الكذب وبهذا تكون خالية من المعنى. والكلام الذي يحمل معنى هو ما يمكن أن نتحقق منه بواسطة التجربة أو هو الكلام المبني على فروض العلم الرياضي. ورغم أن المنهجية العلمية في الرياضيات تختلف عنها في العلوم الطبيعية إلا أن كلا منهما يمكن التحقق من صحة القضايا التي يشتغلون بها. فبلإمكان التحقق من صحة القضية في العلم الطبيعي بواسطة التجربة و بصحة القضية الرياضية بواسطة الرجوع إلى الفروض الأولى والتأكد من سلامة وتماسك بناءها المنطقي.  وبهذا تحصر الوضعية المنطقية المعرفة الإنسانية في العلم الرياضي والعلوم الطبيعية على أساس أنها تعطي مفاهيم ذات معنى. لقد حصرت الوضعية المنطقية وظيفة الفلسفة في التحليل اللغوي للقضايا العلمية وجعلت مهمة الفلسفة في التأكد من أن الصيغة التي تكتب بها هذه العلوم تحمل معاني يمكن الحكم عليها بالصدق أو الكذب. وليس من وظيفة الفلسفة الحكم على الأشياء بالإيجاب أو السلب فتلك وظيفة العلوم في التحقق من صدق القضايا أو كذبها. ما يهم الفلسفة هو البناء المنطقي للغة العلوم بحيث يتمكن العالم من الحكم. فنحن عندما نقول على سبيل المثال “أن الحديد يتمدد بالحرارة” فهذه عبارة ذات معنى لأنها تدخل دائرة المحسوسات ويمكن الحكم عليها بالصدق أو الكذب بالتجربة. العبارة الرياضية مبنية على فروض رياضية وهذه الفروض تنتهي إلى نتائج رياضية وعندما يتأكد الرياضي من دقة الإلتزام بهذه الفروض فإن في مقدوره الحكم بصدق أو كذب هذه العبارة. لكن إذا قلنا على سبيل المثال “الخير غاية الوجود”  فهذه كما يدعي أصحاب هذا التيار ليست جملة نتمكن من الحكم عليها سلبا أو إيجابا لأننا لا نمتلك وسائل التحقق من صحتها. فهي لا تحوي مضمونا حسيا حتى نتحقق منه بإقامة التجربة وليست ذات مضمون رياضي حتى نردها لفروضها الأولى التي أنتجتها. وبذلك تكون جملة خالية من المعنى وبهذا تصبح الميتافيزيقا خرافة.

لقد حاول كانت في كتابه نقد العقل الخالص أن يضع الشروط التي تجعل من الميتافيزيقا علما يوازي العلم الرياضي والعلم الطبيعي. لكنه انتهى به التحليل إلى أن الميتافيزيقا تعمل خارج حدود العقل النظري، من هنا لا يمكن الحكم عليها. ولكن لا يعني ذلك عدم القدرة على إسباغ الحكم عليها أنه لا يمكن الحديث عنها. وهنا يفترق كانت عن الوضعية المنطقية في أن الأخيرة تنفي إمكانية الحديث في الموضوعات المتعلقة بالميتافيزيقا لأن الحديث عنها لا يتسم بالصدق أو الكذب. يرى كانت أن الميتافيزيقا تستعصي على العقل النظري أن يفهمها ولو تغير هذا العقل كأن أصبح لديه القدرة على فهم الموضوعات الخارجة عن دائرة العلم الرياضي والطبيعي فلم يعد مستحيلا عليه إدراكها. أما المنطق الوضعي فيرى الإستحالة إستحالة منطقية ذلك لأن البنية المنطقية للغة المستخدمة خالية من المعنى. وأراد أصحاب هذا الإتجاه تفسير مهمة الفلسفة في التاريخ حصرا في التحليل اللغوي. إذ لم تعطي الفلسفة على طول التاريخ حكما سلبيا أو إيجابيا في مختلف القضايا10.

إن هذا التفسير يتنافى مع الثوابت التاريخية لحركة الفكر الفلسفي ، فالفلسفة قد تطرقت إلى النفس كجوهر و تناولت مسألة خلودها كما تطرقت إلى العقل ومراتبه وعن المعرفة الإنسانية وقضايا كثيرة وكانت مهمتها الكشف عن الحقيقة فيما يتعلق بهذه القضايا. ولم تكن وظيفة الفلسفة على الإطلاق محصورة في ضبط العبارة اللغوية ضبطا صوريا حتى تغدو ذات معنى ثم يترك الحكم بصدقها وكذبها ليس على الفيلسوف بل على علماء الطبيعة والرياضيات. لقد مارست الفلسفة في التاريخ دورا رياديا في محاولة فهم العالم وبيان حقيقة الوجود. وكانت اللغة بالنسبة للفلسفة ذات وظيفة أداتية يتم استخدامها لتوصيل معنى الحقيقة ووسيلة للتعبير عن فكر الفيلسوف. لقد قلبت الوضعية الجديدة المهام وأضحت مهمة الفلسفة كنشاط إنساني مارسه الإنسان منذ الآف السنين أن تكون أداة ضبط لغوي ولا علاقة لها بالحقيقة من قريب أو بعيد.  إن الحقيقة عند المنتمين لهذا التيار بما هي كاشفة عن الواقع ليس ذات أهمية لأن المهم هو كيف نتحدث عن العالم بواسطة اللغة.

يرفض كارل بوبر أن تختزل قضايا الفلسفة في مشكلات لغوية أو في تحليل العبارات المنطقية. ويرى هذا الفيلسوف أن الفلسفة التي تهتم بمشكلات اللغة هي فلسفة تهتم بأشباه المشكلات  يعني أنها تهتم بمشكلات غير حقيقية. لقد اهتم هذا التيار الوضعي بالبحث عن الكلمات التي تعطي معنى دقيق وصارم وذلك من أجل تعريف المفهوم بإستخدام هذه الكلمات ذات المعنى الدقيق. وينظر بوبر إلى عدم جدوى هذه المحاولات لأن تعريف أي مفهوم يحتاج إلى الفاظ جديدة هي بدورها تحتاج إلى تعريف وقد أطلق على هذه العملية عملية “التراجع النهائي”11. إن بوبر يرى أن وضوح المفاهيم ورفع الغموض عنها ليس مبدأ علميا ومعرفياٴ بل هو مبدأ أخلاقي. لقد قدم كارل بوبر نظرية أداتية في اللغة رافعا عن الفلسفة مهمتها توضيح الألفاظ ومتمسكا بدورها في بيان الحقيقة. يقول كارل بوبر ” أنا لا أرى الفلسفة هي الألغاز اللغوية ، ولو أن إزالة سوء الفهم قد تكون أحيانا مهمة أولى وضرورية… إن المفاهيم أو الكلمات مجرد أدوات لصياغة القضايا و الإفتراضات الحدسية والنظريات. فالمفاهيم أو الكلمات لا يمكن أن تكون صحيحة في ذاتها ، إنها تخدم لغتنا الوصفية والجدلية أو الحجاجية. لا يجوز أن يكون هدفنا هو تحليل المعاني ، وإنما البحث عن حقائق مثيرة وهامة ، أي عن نظريات حقيقية”12.

كارل بوبر والأساس الميتافيزيقي لتطور العلوم

أحد أكبر الإشكالات الفلسفية عند كارل بوبر تتمثل في الحد الذي يمكن أن نرسمه ونفصل به العلوم عن الميتافيزيقا. المدرسة التجريبية عالجت هذا الأمر بناءاٴ على إيمانها بأن المصدر الوحيد للمعارف البشرية هي التجربة ، فكل ما يخضع للتجربة يمكن أن نستمد منه المعرفة وكل ما لايخضع للتجربة يخرج عن دائرة المعرفة بل ودائرة الوجود. ومن هنا يسهل أن نستنتج على ضوء ما تقرره هذه المدرسة من أن الميتافيزيقا وكل المعارف المتعلقة بها يكون مصيرها العدمية واللامعنى. فليس ثمة عالم يزخر بالمعارف و الحقائق خارج نطاق العالم الفيزيقي القابل للرصد والقياس. فالمدرسة الحسية – التجريبية تنفي وجود عالم وراء هذا العالم المادي لأن معرفته لا تتوسل التجربة طريقا. يؤرخ كارل بوبر لهذه المشكلة المتمثلة في فضائين من المعرفة ، فضاء تحل فيه العلوم التجريبية وفضاء آخر من المعرفة ربما لا معنى له تحل فيه الميتافيزيقا الى زمن الفيلسوف بيكون. ويرى بوبر إلى أن الرأي السائد والمجمع عليه من قبل التيار الحسي من المعرفة  في أن العلوم تعتمد على المشاهدة والمنهج الإستقرائي بينما تعتمد الميتافيزيقا على التوقعات العقلية13.

الواقع إن معظم النظريات العلمية لم تؤسس على المنهجية القائمة على الملاحظة ثم الفروض العلمية فالتجربة وأخيراٴ التعميم. إن تاريخ العلوم يبين أن عددا محدودا جدا من النظريات قد تأسست على هذه المنهجية. كما أن النظريات- كما يرى بوبر- التي تقوم بناءاً على تعميمات إستقرائية لا تملك التبرير الكافي لصدقها.  كارل بوبر يميز بين نوعين من القضايا ، القضايا الشخصية والقضايا الكلية.  الإستقراء يعمل على اختبار عدد معين من القضايا الشخصية ومن ثم التعميم فالوصول لقضايا كلية. ويرى بوبر أنه لا يمكن لآي عدد من القضايا الشخصية أن تنقذ الإستدال على القضايا الكلية. فليست القضايا الشخصية عنده دليلا على صدق القضايا الكلية بل العكس أن اقصى ما تفعله القضايا الشخصية هو تكذيب القضية الكلية.

فالنظريات العلمية من هذا المنطلق لا يمكن إثباتها أو البرهنة عليها بل يمكن لنا رفضها بالبحث عن قضايا شخصية تكذب قيمتها الكلية. إن البحث في القضايا الكلية التي هي مهمة العلوم يتقدم لا من خلال إستقراء القضايا الشخصية المثبتة لها بل من خلال حذف القضايا الكاذبة. ووفق هذه المعالجة لمشكلة الإستقراء فإن بوبر يميز بين العلم والميتافيزيقا ، فالميتافيزيقا عنده تقدم لنا قضايا كلية لا يمكن تكذيبها بقضايا شخصية وصفية. إذن يعتقد بوبر أن الحد الفاصل بين العلوم والميتافيزيقا هو قابلية النظريات العلمية للتكذيب. فمبدأ التكذيب هو ما يؤسس للفصل بين العلوم والميتافيزيقا ولا يعني ذلك أن الميتافيزيقا لا معنى لها.  فالقابيلة للتكذيب لا تجعل من العالم الغير محسوس فضاءا معرفيا فارغا بل أن المقصود أن النظرية العلمية تقبل الإختبار وبكل الوسائل المتاحة على امتداد الزمان بالتالي فإن قدرتها على الصمود أمام مختلف الإختبارات هو ما يمنحها القيمة العلمية. ويؤكد بوبر على القيمة المعرفية للميتافيزيقا وأهميتها للعلوم. فمعظم الأفكار العلمية تنطلق من رؤية ميتافيزيقية كلية ثم بالتدريج تتحول إلى قضايا علمية يتم البحث عن ما يكذبها من خلال فحص القضايا الشخصية.  يقول كارل بوبر في منطق الكشف العلمي ” أنه من الحقائق المسلم بها أن الأفكار الميتافيزيقية البحتة – ومن ثم الأفكار الفلسفية – ذات أهمية قصوى للكوزمولوجيا، فمن طاليس إلى إنشتين ومن الذرية القديمة إلى تأملات ديكارت عن المادة، ومن تأملات جلبرت ونيوتن وليبنتز وبسكوفيك عن القوى إلى تأملات فارادي وإينشتين عن مجالات القوى، أضاءت الأفكار الميتافيزيقية معالم الطريق”14.

لم يقف بوبر عند الميتافيزيقا وهو عالم له معنى ويشكل أهمية لنمو المعرفة العلمية كما سنفصل في هذا الأمر ربما في مقالة مستقلة ، بل يرى أن الأساطير التي تنتمي لعالم اللامعنى يمكن أن تتضمن عناصر قابلة للإختبار وتكون مفيدة للعلوم.

العقل في الفضاء المعرفي للميتافيزيقا

ما هي الفضاءات المعرفية التي يمكن للعقل أن يصدر أحكاما فيها؟ هذه صيغة مختلفة لسؤال مركزي في نظرية المعرفة وهو ما هي حدود المعرفة البشرية؟ لكنني فضلت أن أستخدم الأسلوب الرياضي في التعبير عن قدرة العقل على  إصدار أحكامه في حقل معرفي خاص لقضايا منها ما هو مادي ومنها ما هو غير مادي . ففي الرياضيات والفيزياء يعمل العقل منضبطا ببنية رياضية معينة في الموضوعات الرياضية و الفيزيائية المختلفة. ويطلق على هذه البنيات الرياضية فضاءا ، ففي الرياضيات مثلا يوجد  فضاء المتجهات الذي يحدد خصائص هذه المتجهات وعلى ضوء هذا الفضاء الخاص بها يصدر العقل أحكامه التصديقية على مختلف القضايا المتعلقة بها. والنظرية الكمية في الفيزياء قائمة على فضاء خاص يسمى فضاء هيلبرت ويقوم العقل بمعالجة القضايا الكمية المختلفة على ضوء هذا الفضاء. إذن العقل يتحرك في القضايا الرياضية والفيزيائية في إطار البنية الرياضية التحتية التي تم تثبيتها كأساس ومنطلق تنمو منه هذه المعارف وتتطور. ويمكن تطبيق هذه البنيات باعتبارها فضاءات للعقل على الوجود. فالوجودات المادية وغير المادية تشكل فضاءات معرفية خاصة بتلك الموجودات بما فيها فضاء العقل نفسه ، ومن هنا يأتي هذا السؤال المركزي هل يمكن للعقل أن يعطي حكما تصديقيا في هذه الفضاءت الغير مادية، وهل يمكن الثقة بهذه الأحكام؟

العقل البشري يصنف الفضاءات المعرفية ويتحرك لكل فضاء معرفي بطريقة مختلفة. فهو في العلوم يستخدم الحس والتجربة بإلاضافة لمقدمات تصديقية خارجة عن التجربة كمبدأ عدم التناقض. وفي عالم الميتافيزيقا حيث الفضاء المعرفي الأكبر والأرحب وحيث دائرة الوجود الكبرى المحيطة بعالم الفيزيقا يعمل وفق مقتضيات الواقع المفارق للحس بإستخدام التصديقات الأولية للعقل وعلى ضوءها ينمي معرفته بهذا العالم تدريجيا بطريقة القياس التي يستلزم صدق النتيجة فيها صدق المقدمة الكبرى وكذبها كذب تلك المقدمة. وقيمة المعرفة تنبع من مدى الإلتزام بتطيبق هذه المعارف التصديقية الأولية. من هنا يمكن للعقل أن يصدر أحكاما موثوقة في الميتافيزيقا كما في الرياضيات على ضوء هذه المعارف الأولية. أما في العلوم الطبيعية فيتوقف الحصول على المعرفة الطبيعية بتطبيق هذه المعارف الأولية على التجربة10. وفي الميتافيزيقا لا يتوقف التطبيق على شرط التجربة بل يتم بصورة مستقلة عن التجربة. ومن هنا فإن النتائج في الميتافيزيقا تأتي قطعية عندما يعمل العقل في فضاءها المعرفي. يقول السيد محمد باقر الصدر “وهذا هو السبب في أن نتائج الميتافيزيقا والرياضيات نتائج قطعية في الغالب ، دون النتائج العلمية في الطبيعيات. فإن تطبيق الأسس الأولية في الطبيعيات لما كان محتاجا إلى التجربة تهيء شروط التطبيق ، وكانت التجربة في الغالب ناقصة وقاصرة عن كشف جميع الشروط ، فلا تكون النتيجة القائمة على أساسها قطعية”15.

وإذا كان بمقدور العقل إصدار الحكم التصديقي الموثوق لقضايا الميتافيزيقا بالإعتماد على هذه المعارف التصديقية الأولية وحيث يمكن للمعرفة أن تنمو وتتطور بحسب دقة التطبيق لهذه المعارف على المقدمات المنطقية التي تهيء النفس لإصدار أحكامها. فكيف يتوفر لذهن المعرفة بهذه المبادىء التصديقية الأولية؟

سنحاول الإجابة بصورة مقتضبة على ضوء الحكمة المتعالية، والتفصيل ربما نؤجله إلى مقالة مستقلة إن شاء الله تعالى. القوة المدركة عند الإنسان هي جزء من قوى النفس وليس لها وجود مستقل. وفي البداية لا يمتلك الذهن أي تصور عن الأشياء وتقوم القوة المدركة بتصوير الواقعيات الخارجية – واقعيات العالم الخارجي- بعد الإتصال المباشر به وكذلك واقعيات العالم الداخلي النفسي للإنسان. وهذا التصوير هو مجرد صورة لهذه الواقعيات ولا يبرهن على المعرفة الموضوعية. لكن يتم نسج هذه الصور بعد الإتصال الوجودي للنفس بهذه الواقعيات. إذن الشرط الأساس لظهور صور هذه الأشياء هو إتصال النفس بها إتصالا وجوديا. والإتصال الوجودي للنفس بالواقع يعني أن النفس تحصل أولا على المعلوم بدون توسط الصور الذهنية بل إن واقع المعلوم هو عين واقع العلم. وبذلك تتوفر النفس على عين الواقع بالعلم الحضوري الذي ملاكه الإتصال الوجودي به. ثم تقوم القوة المدركة بتبديل العلم الحضوري إلى العلم الحصولي عن طريق تكوين صور للواقع الذي كان حاضرا بذاته لدى النفس وثم حفظ هذه الصور في الحافظة. فالعلوم الحصولية مسبوقة بالعلم الحضوري. يقول السيد محمد حسين الطباطبائي رضوان الله عليه ” على أساس مرآتية و كاشفية العلم  والإدراك يصبح الوصول إلى الواقع أمراٴ ضروريا ، يعني أن هناك علماٴ حضوريا في مورد كل علم حصولي. إذن على أساس هذا المنظار يمكن توسعة دائرة البرهان والحصول على نتيجة أكثر عمومية فنقول: حيث أن لكل علم وإدراك سمة الكشف والحكاية عن الخارج ، وهو صورة له يلزم أن يتوفر على سمة الإرتباط مع خارجة ، وأن لا يكون منشأ الآثار، ومن هنا يلزم أن تنتهي الى واقع تنشأ منه الآثار ، ويتطابق مع العلم المفترض. أي عين الواقع الذي نشهده بالعلم الحضوري ، ثم يؤخذ منه العلم الحصولي مباشرة (عين المعلوم الحضوري مع سلب منشأية الآثار) ، أو يؤخذ منه من خلال تصرف القوة المدركة فيه”16 . يفهم من هذا النص أن النفس تشهد عين واقعية المعلوم وآثاره وذلك بحضوره الجمعي لدى النفس ومن بعد هذا الشهود تقوم القوة المدركة في الإنسان بصنع صورة لهذا المعلوم بعد سلب الآثار عنه. إن المعارف البشرية الفلسفية أو العلمية إنما قامت على قانون العِلية والذي تشهده النفس وهو فرع شهوديتها لذاتها وهذا الشهود يعطي هذه القانون- العلية- اليقين الذي لا يقبل الشك. يقول الأستاذ محمد رضا اللواتي ” بهذا البيان الوجداني عرفنا أن لنا اطلاعا على أنفسنا وحالاتها الباطنية ، ومن اطلاعنا هذا إكتشفنا نموذجا للعِلية في أعماقنا من جهة كيفية تعلق حالاتنا بأنفسنا وتوقفها عليها”17.

وأخيراٴ إذا كان لنا أن نشبه الوجود بالطيف الضوئي فإن العالم المادي يشكل جزءا صغيراٴ جداٴ من طيف الوجود الأكبر الغير مادي. تماماٴ كما أن الطيف المرئي من الضوء هو جزء صغير جدا بالقياس للطيف الغير مرئي من الضوء. ولذلك فإنه – أي العالم الغير مادي – يشكل حافزا للعقل للتحرك في فضاءه الواسع من أجل استكشاف خباياه ومعرفة أسراره. إنه المجهول الذي يحفز العقل للعمل والنشاط ، وإن الصيرورة التاريخية للعقل تؤكد هذه الدافعية الساكنه في أعماق الإنسان التي حاول العقل عبر مسيرته في التاريخ عبور حاجز الحس والتجربة محاولا الوصول إلى حقائق هذه الفضاءات المعرفية المختلفة المنتمية لعالم الميتافيزيقا.

إحالات:

  • مالبرانش والفلسفة الإلهية ، دكتورة راوية عبد المنعم عباس ، دار النهضة العربية ، ص 9-12
  • وحدة الوجود العقل ، عبد الجبار الوائلي ، دار النضال، ص 11-16
  • الفلسفة الطبيعية والإلهية: النفس والعقل عند إبن باجة وابن رشد، غيضان السيد علي، التنوي، ص 10
  • المصدر السابق ص222.
  • المصدر السابق ص281.
  • المصدر السابق ص281-282
  • المصدر السابق ص282.
  • أصول الفلسفة والمذهب الواقعي، السيد محمد حسين الطباطبائي ، تقديم وتعليق مرتضى المطهري، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، ص 309-310.
  • Karl Popper, Conjectures and Refutations, Routledge, p. 341
  • موقف من الميتافيزيقا، د زكي نجيب محمود ، دار الشروق، ص 28-34
  • الفلسفة واللغة: نقد المنعطف اللغوي في الفلسفة المعاصرة، دار الطليعة بيروت، ص 97
  • المصدر السابق ص97
  • المصدر 9 ص 344-345
  • منطق الكشف العلمي ، تاليف كارل بوبر، الدكتور ماهر عبد القادر محمد علي، دار النهضة العربية، ص33
  • فلسفتنا، السيد محمد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات، ص142
  • المصدر 8 ص 339-344
  • كبريات المشكلات العقلية: المعرفة والألوهية في الفلسفة الإسلامية والمدارس الفلسفية الأخرى، دار المعارف الحكمية، ص69

المراجع:

  • مالبرانش والفلسفة الإلهية ، دكتورة راوية عبد المنعم عباس ، دار النهضة العربية.
  • وحدة الوجود العقل ، عبد الجبار الوائلي ، دار النضال.
  • الفلسفة الطبيعية والإلهية : النفس والعقل عند ابن باجة وابن رشد، غيضان السيد علي ، التنوير.
  • أصول الفلسفة والمذهب الواقعي، السيد محمد حسين الطباطبائي ، تقديم وتعليق مرتضى المطهري، مؤسسة أم القرى للتحقيق و النشر.
  • Karl Popper, Conjectures and Refutations, Routledge.
  • موقف من الميتافيزيقا، د زكي نجيب محمود ، دار الشروق.
  • الفلسفة واللغة : نقد المنعطف اللغوي في الفلسفة المعاصرة، دار الطليعة بيروت.
  • منطق الكشف العلمي ، تأليف كارل بوبر، الدكتور ماهر عبد القادر محمد علي، دار النهضة العربية.
  • فلسفتنا، السيد محمد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات.
  • كبريات المشكلات العقلية: المعرفة والألوهية في الفلسفة الإسلامية والمدارس الفلسفية الأخرى، دار المعارف الحكمية.

تعليق واحد

  1. من المعلوم أن عمر بن الخطاب مشهور بقوة الحاسة السادسة عنده لذا عندما يسأل عمر اعتبر هذا ضرب من الميتافيزيقيا فقد ورد مرة أنه سإل مالبحر …حاليا اعتبر كل مايتعلق بالبحر عالم ميتافيزيقي…ربما فرضت التكنولوجيا نوع جديد م الميتافيزيقيا الواقعية فمثلا قد تجد فندقا أو ملعب تنس بكامله تحت الماء ف البحر ؟؟؟من يدري ربما كان هذا ضرب من الميتافيزيقيا الحديثة التي تلائم هذا العصر؟؟؟!!فما العلاقة بين الفندق أو لعبة التنس بالميتافيزيقا …عموما ايجاد علاقة بين كمية من البيانات يعتبر من ضروب الذكاء الاصطناعي وكلما كبرت كمية البيانات كلما ساهم ذلك ف حل المشكلة وهذا نظام معمول به ف عالم التنمية البشرية والاتصالات ايضا…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *