“مع العقيلة بعد الحسين (ع)”
[إنَّ لقتل الامام الحسين (ع) حرارة لا تبرد]
إلى كل قلب ما زال ينبض بعشق الحقيقة، ويبحث عن النور في زمن الظلمة… إلى كل من ما زالت في عروقه دمعة على الحسين (ع)، وفي روحه حرارة لا تبرد.
“إنَّ لقتل الحسين (ع) حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً”…
ليست هذه الكلمات مجرّد جملة في كتاب، ولا شعاراً يُردَّد في مواسم الحزن؛ إنها وعدٌ أبديّ، ختمه الإمام الصادق عليه السلام على ضمير الزمن، لتبقى كربلاء مشتعلة فينا، ولتبقى دمعة الحسين (ع) حيّة لا تجف.
منذ أن سال دمه الطاهر على رمضاء الطف، لم تعد القلوب كما كانت، ولم يعد التاريخ كما كان. كأنّ كربلاء حفرت في الوجدان الإنساني جرحًا لا يُراد له أن يلتئم، لأنه جرحٌ يذكّر الإنسان دومًا بأنّ الصمت عن الظلم خيانة، وأنّ الركون إلى الذلّ انتحار للكرامة، وأنّ الوقوف على مفترق الطرق بين الحقّ والباطل لا يليق بمن عرف الحسين.
وهج الدم في عروق الزمان
إن حرارة الحسين (ع) ليست حرارة دمعة فقط، بل حرارة ثورة، حرارة عشق، حرارة موقف.
هي حرارة لا تولد في موسم محرم فحسب، بل تنبعث كلما نُصِبَ ميزان بين عدلٍ وظلم، بين ضمير وخيانة، بين كرامة واستعباد.
يولد الحسين (ع) من جديد حين يصيح مظلوم في وجه جلاده، وتولد كربلاء حين يرفض إنسان أن يبيع إنسانيته بثمن رخيص.
ففي الحسين (ع) ليس هناك حدث ماضٍ يُبكى عليه فقط، بل هناك مشروع خلود… مشروع مقاومة… مشروع إحياء.
كربلاء ليست قصة، بل معيار
ليست كربلاء مشهداً تاريخيًا يبكيه الناس ثم ينسونه، بل هي الميزان.
هي المعيار الذي نقيس به شرفنا، صدقنا، ضمائرنا.
فمن كان في قلبه حرارة، فليترجمها إلى سلوك… إلى صدق… إلى وفاء.
الذين يذرفون الدموع على الحسين، ثم يسكتون عن الظلم، لم يفهموا حرارة القلوب.
الذين يقيمون العزاء، ثم يطعنون في ظهر الفقراء والضعفاء، لم يشربوا من نبع الحسين.
الذين يقرؤون المقتل، ثم يعبرون عنفه وكأنهم لا ينتمون إليه، قد لبسوا السواد وتركوا الروح بيضاء خالية.
دمعة وصرخة
إن حرارة قتل الحسين (ع) تسكن الدمع، لكنها لا تكتفي به،
وتسكن التلاوة، لكنها لا تقنع بالصوت،
إنها حرارة تلهب الضمير، وتوقظ الوعي، وتحرّك العصب الأخلاقي في قلب العالم.
إنها حرارة لا تبرد، لأن الظلم لا يزال في الأرض،
والجراح لم تندمل،
والحسين (ع) لا يزال يُقتل كل يوم في الأحياء المنسية من المدن،
في صرخة يتيم، في وجع أم، في دمعة شاب يحلم بالعدالة ويصطدم بجدار الفساد.
لأنك الحسين…
لأنك يا حسين (ع) لم تمت،
فكل شاب باحث عن معنى في هذا التيه… هو حسيني
وكل أمّ تزرع الأمل في قلب طفلها رغم شظف الحياة… هي زينبية
وكل شهيد يُسجّى في زقاق فقير لأنه قال كلمة حق… هو امتدادٌ لوهجك
وكل راية بيضاء ترتفع في وجه سيف أسود… فيها نفَس منك
نحن الذين نحيا بحرارتك، لا نبرُد،
لأنك زرعت فينا ذلك الشعور الذي لا يهدأ،
ذلك السؤال الوجوديّ: أين أقف حين تنقسم الأرض بين يزيد وحسين؟
بين الدمعة والموقف
حين تشتعل حرارة الحسين (ع) في القلب، لا تعود الحياة كما كانت.
تصبح الصلاة غير الصلاة، والدمعة غير الدمعة،
يصبح الموقف مسؤولية، والكلمة أمانة، والسكوت خيانة.
كل قطرة دمع على الحسين (ع)، هي وعدٌ: ألا نُخدع.
كل صفعةٍ من الطغاة، يجب أن توقظ فينا زينب (ع).
كل لحظة يأس، ينبغي أن تقودنا إلى نداء العباس: “يا نفس من بعد الحسين هوني”.
وصيّة الحسين: لا تصالح
الحسين (ع) لم يقل لنا فقط “ابكوا عليّ”، بل قال:
لا تصالح
لا تهادن
لا تساوم على المبدأ
لا تقبل بأقلّ من كرامتك
لا تمشِ على جرح أخيك وتبتسم
هذه هي حرارة الحسين (ع)…
أن نحيا في يقظة دائمة، لا تهدأ
أن نبكي، نعم، لكن بدمعٍ ينهض… لا ينام
السلام على الحسين،
وعلى علي بن الحسين،
وعلى أولاد الحسين،
وعلى أصحاب الحسين،
وعلى كل من سكنت في قلبه حرارة لا تبرد.
لا تموت القضايا العظيمة حين يُقتل أصحابها،
بل تولد من جديد… كل يوم.
والحسين (ع)، ما زال حيًا فينا…
ما زال يُذبح ويقوم…
ما زال في دمعتنا، في صرختنا، في نبضات قلوبنا التي أبت أن تبرد.
[صرخة العزّة في حضرة الطغيان في خطبة السيدة زينب (ع)]
إلى كل من ظنّ أن الحقيقة تُكسر إن أُسرت، وأن الكلمة تموت حين يُقطع سندها…
إلى كل حرّ، ما زال في صمته رجع صدى لصوت زينب (ع)…
في زوايا التاريخ، لا تُقاس القوة بالجيوش، ولا العظمة بالقصور، بل بالصوت الذي يعلو حين يخفت الجميع، بالكلمة التي تُولد من بين الحطام، وتشقّ الطريق وسط الركام.
في مجلسٍ طغى فيه الجبروت، وتزيّنت فيه الزينة على جماجم الشهداء، وقُدّمت فيه رؤوس الأطهار على صحون التشفّي، هناك… وقفت زينب (ع).
لم تكن كأي امرأة، ولم تكن كأي لحظة. كانت زينب (ع) تحمل كربلاء كلّها في صوتها، في عينيها، في دمعتها التي لم تسقط إلا حين شاءت أن تسقط. كانت تجرّ خلفها سبيًا، وتُخبّئ في قلبها أجساد إخوتها، وتشدّ على جراحٍ ما زالت تقطر من وقع الرماح والسيوف.
صرخةٌ ليست ككل الصرخات
“فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا…”
لم تكن هذه العبارة مجرّد تحدٍّ. كانت نبوءة، كانت وعدًا، كانت صرخة خالدة هزّت عروشًا، ودوّت في التاريخ كجرس لا يهدأ.
كانت تقف أمام يزيد، لا كضعيفة، بل كأمةٍ بأسرها، كأنّها تحمل إرث الأنبياء، وتخاطب الطغاة بلغة من لم تخشَ يومًا الموت.
أي امرأة هي؟! وأي قلبٍ ذاك الذي لم ينهزم رغم كل ما رآه من مذابح وفقد وأسرٍ وخراب؟!
المجلس… المسرح الرمزي للانتصار
في قصر يزيد، حيث يُفترض أن يكون المشهد الأخير، حيث ظنّ الطغيان أنه ختم ملحمة كربلاء بنصرٍ بارد، انقلبت الموازين.
المكان الذي أراده يزيد سجناً للكرامة، حوّلته زينب (ع) إلى منبر.
لم تتلعثم، لم تضعف، لم تطلب شفقة، بل واجهت طاغية زمانها بصرامة المؤمن، وسكينة العارف، وكبرياء الحسين (ع).
كأنها تقول له: “قتلت أجسادهم، لكنك لم تهزم أرواحهم… نحن المنتصرون، بصبرنا، بثباتنا، بكلمتنا”.
من سبيٍ إلى سيادة
لم تكن زينب (ع) أسيرة كما يُظن، بل كانت رسولة. حملت دماء الحسين (ع)، وراية العباس (ع)، ودمعة سكينة (ع)، لتسير بها من كربلاء إلى الكوفة، ومن الكوفة إلى الشام، حتى تنقش في ذاكرة الأمة ما لم تستطع أن تنقشه السيوف.
في صمت الطرقات، وفي عيون الناس، وفي وقع السلاسل، كانت زينب تزرع الثورة.
لم تكن الرحلة انكسارًا، بل بداية لعصرٍ جديد، يبدأ من صرخة امرأة، ويمتدّ إلى وعي أمة.
الرسالة الباقية
صرخة زينب ليست للتاريخ وحده. إنها نداء مستمر لكل زمنٍ يُظلم فيه الحق، ويُسلب فيه الإنسان كرامته، وتُقلب فيه المعايير.
تعلّمنا أن السكوت خيانة، وأن الكلمة مقاومة، وأن النطق بالحق، ولو في قصر ظالم، هو بداية زوال العروش الهشّة.
كانت زينب (ع)، في مجلس يزيد، لا تمثّل نفسها، بل تمثّل كل صامت ظلمًا، وكل مكلومٍ عزّ عليه أن ينطق.
صرختها كانت امتدادًا لدم الحسين (ع)، وترجمة حيّة لقوله: “إني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي”.
في قلب كل حرّ… زينب (ع)
اليوم، وبعد قرون، ما زلنا نرتجف كلما تذكرنا تلك اللحظة.
ما زالت قلوبنا تهتزّ، ودموعنا تسيل، حين نستحضر زينب (ع) واقفةً، تصرخ في وجه يزيد، تقول له ما لم يتجرأ أحد أن يقوله.
“فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا”.
هي صرخة ضد القهر، وضد الصمت، وضد التزييف.
هي الدرس الأبلغ في أن للحقّ صوتًا لا يُقمع، وإن كان في حضرة الجلاد.

السلام على زينب (ع)…
السلام على من صرخت فأسكتت الطغيان، ووقفت فهزّت العروش، وتكلّمت فأنطقت الأجيال.
السلام على زينب (ع)، صوت كربلاء، وضمير الثورة، وراية البقاء.
