إلى الجزيرة التي عبرت القرون بصمت…
وإلى الحروف التي تاهت في أفواه الإغريق، وظلّت تبحث عن اسمها الحقيقي حتى الآن.
إلى من يفتّش في الرمال عن ذاكرةٍ لا تموت، ويستدير في وجه العاصفة كي يسمع أنين المدن المنسية…

في عمق الخليج العربي، حيث تشقّ الرياحُ المالحَة الصمتَ، وتهمس الموجات القديمة بأسماء المدن التي ضاعت بين الخرائط والخيال، يلوح اسم “ثَارُّو” كشعاعٍ باهتٍ من زمنٍ لم تنصفه السجلات، ولم تنطفئ عنه نار الحنين.
في خرائطٍ مرّت عليها آلاف العيون، ونسختها يد النُّساخ في العتمة وعلى أطراف العواصف، يظهر اسمٌ غامض: (Tharro)… اسمٌ لا يصرخ، لا يتباهى، بل يهمس بهدوء كمدينةٍ لم يُنصفها الضوء.
“ثَارُّو” ليست مجرّد اسمٍ غامضٍ ورد في خرائط الإغريق والرومان، بل هي طيفٌ من مدينةٍ تقف على أطراف الرمال الشرقية من جزيرة العرب، تهدهدها بحارٌ تجارية، وترفعها رياح القوافل من حضيض النسيان إلى ضوء الاستدلال.
وفي شرق الجزيرة العربية، تقف جزيرة تاروت مثل شاهدٍ يتنفس من زمنٍ بعيد، شاهدةً على مدنٍ قامت وسقطت، وعلى قوافل مرّت، وعلى بحّارةٍ أعياهم اللؤلؤ والملح والحرب. فهل كانت “ثَارُّو” “Tharro” التي ذكرها بطليموس، ومرّت بها نصوص الإغريق، هي جزيرة تاروت الحالية في شرق الجزيرة العربية؟
والإجابة ان هناك احتمال قوي ومقبول علميًّا أن “ثَارُّو” قد تشير فعلًا إلى جزيرة تاروت، وإليك الأدلة والتحليلات التي تدعم هذا الربط:
التشابه الصوتي واللغوي:
• [Tharro أو Tharroe] (كما وردت أحيانًا في المخطوطات اللاتينية) تحمل صدى صوتيًا قريبًا من “تاروت”.
• اللغات الإغريقية والرومانية كانت تميل إلى تحوير الأسماء المحلية بحسب أنظمتها الصوتية، فـ”تاروت” يمكن أن تُلفظ “ثارّو” إذا خضعت لتحريف يوناني/لاتيني شائع.
الموقع الجغرافي المطابق:
• جزيرة تاروت تقع مباشرة قبالة ساحل القطيف، وهي من أقدم الموانئ والمستقرات البشرية في شرق الجزيرة.
• الخرائط الإغريقية كانت تُظهر “Tharro” شرق جرهاء (Gerrha) وجنوب غرب (Tylos) (البحرين القديمة)، وهو موقع ينطبق بدقة على تاروت.
• الخرائط البحرية القديمة كانت تعتبر الجزر المحاذية للموانئ مراكز بحرية بحد ذاتها، وهو ما كانت عليه تاروت منذ فجر التاريخ.
الأهمية التاريخية لتاروت تؤهلها لأن تكون “Tharro”:
• جزيرة تاروت كانت مأهولة منذ الألفية الخامسة قبل الميلاد، وورد اسمها في نقوش سومرية وأكادية وفينيقية.
• كانت مركزًا تجاريًا نشطًا ضمن حضارات دلمون وماجان وجرهاء.
• كانت موطنًا لصناعة الفخار واللؤلؤ وميناء بحريًا مهمًا جدًا في العصور القديمة.
• عُثر فيها على تماثيل من العهد السومري، وتماثيل للإلهة عشتار، وهو ما يدل على حضورها التاريخي العميق.
صمت المصادر لا ينفي العلاقة:
• لم ترد كلمة “تاروت” بصيغتها العربية الحالية في المصادر الإغريقية، ولكن كثيرًا من المواقع كانت تُعرّف بأسماء تحويرية.
• الاسم “Tharro” لم يُذكر سوى بشكل عابر، بلا وصف تفصيلي، مما يشير إلى أنه كان موقعًا معروفًا بحد ذاته ولكنه لم يكن مركزًا سياسيًا مستقلًا.
آراء الباحثين والمؤرخين:
• بعض الباحثين المحدثين في تاريخ الخليج (مثل المرحوم عبد الخالق الجنبي وآخرين) يرجّحون أن “Tharro” هي تحوير لـ”تاروت”.
• كذلك يذهب بعض دارسي الجغرافيا التاريخية من خلال مقارنة خرائط بطليموس وأطالس الرومان إلى أن موقع (Tharro) ينطبق على جزر القطيف، خصوصًا جزيرة تاروت.
وكنتيجة لهذة المعطيات:
وبناء على كل هذه الأدلة من الخرائط الكلاسيكية، والمصادر الأثرية، وأدبيات رسم الخرائط، والأبحاث الحضارية، يمكننا القول بثقة ان “ثاروا” و “تاروت” “Tharro” و”Tharrō” الواردتان في بطليموس… هما بالفعل تحوّران لغويان إغريقي وروماني للإشارة إلى ما نعرفه اليوم بجزيرة “تاروت”.
فيا تاروت، أيتها الجزيرة التي تهدهدها الموجات، وتحرسها الطيور، وتكتظ ذاكرتها بما لا يسعه دفتر ولا وثيقة…هل كنتِ ثَارُّو حقًّا؟ فهذا لا يهم… فأنتِ في التاريخ وإن غُيّب اسمكِ، وأنتِ في الجغرافيا وإن خُدش رسمكِ، وأنتِ في القلب، حيث لا تضيع المدن، ولا تُنسى.

المصادر:
• ويكيبيديا – صفحة Tarout Island: تُوضح أن بطليموس أطلق اسم Tharrō (θαρρώ) على الجزيرة، وتحوّل لاحقًا في النسخ اللاتينية إلى Tharro، وهو التحريف الإغريقي/الروماني الرسمي لاسم الجزيرة الأصلي تاروت.
• موسوعة AncientPortsAntiques – “Ancient Ports in the Indian Ocean & Gulf”: والتي تذكر صراحة:“Tharro, belonging to the archaic Dilmun empire Darin, on Tarut, Tarout Island” مما يربط “ثَارُّو” مباشرةً بجزيرة تاروت بتاريخها في حضارة دلمون
• PDF أكاديمي – صفحة عن الجزيرة (Scribd): يُشير إلى تنويعات الاسم في الأدبيات: TARO, THARRO أو TWARO في كتابات بطليموس، ما يدعم أن الاسم اليوناني “Tharro” هو تحريف لـ”Tarut/Tarot”
• مواقع أثرية: NABATAEA.NET و Atlas Obscura: كلاهما يؤكد أن جزيرة تاروت مركز حضاري عمره آلاف السنين، وقاعدة عسكرية وثقافية مستمرة من العصر الديلموني وحتى الفترات الإسلامية، ما يجعلها مرشّحًا قويًا لـ”ثَارُّو” المذكورة في تلك الحقبة
• NASA Earth Observatory: يُظهر أن الخليج المحيط بالجزيرة يُعرف أحيانًا باسم Tarout Bay, محور تاريخي منذ 5,000 سنة وهو امتداد طبيعي للجزيرة نفسها
• https://www.qatifscience.com/?p=19978
• https://www.qatifscience.com/?p=18578
• https://www.qatifscience.com/?p=18493