[ مدخلٌ إلى ظلّ الأسطورة ]
منذ أن عرف الإنسانُ معنى الفقد، وارتجاف القلب حين يمرض طفلٌ بلا سبب، ولّدت المخيلة الشعبية القطيفية أرواحًا تتجوّل خلف الأبواب وتجلس عند الأسرة الهشّة. كانت الأمّ في الأزمنة القديمة تستيقظ فزعًا حين تسمع بكاء طفلها في جوف الليل، ولا تجد تفسيرًا لحرارته التي ترتفع فجأة أو لوهن أطرافه. وفي لحظةٍ ما بين العقل والغيب، وُلدت “أمّ الصبيان” تلك التي لا تُرى، لكنها تُسمع في الخيال الشعبي، كأنها ظلٌّ يتمدد على جدار الخوف.

مَنْ هي “أمّ الصبيان”؟
في الرواية الشعبية القطيفية الخليجية، تتجسّد “أمّ الصبيان” بوصفها روحًا أنثوية، لا تنتمي إلى عالم البشر، تظهر في مواقيت محدّدة، وتُوصف بأنها عاشقة للأطفال؛ لا عاشقة بحنان، بل عاشقةٌ تُلحق الأذى إن تُرك الطفل بلا رعاية. لم تُعرف صورتها على نحوٍ واحد، فالبعض يرويها امرأةً طويلةً ذات وجهٍ شاحب وعينين غائرتين، وآخرون يرونها ظلًّا بلا ملامح، أو نسمةً باردة تمرّ فوق رأس الطفل ثم تتركه حائرًا بين النوم والصراخ. غير أنّ القاسم المشترك في كل سردياتها هو أنها تحضر حين يغيب انتباه الأمّ، كأنها تجسيد للخوف من لحظة الإهمال.
البيئة ولادةُ الأسطورة
لم تنشأ “أمّ الصبيان” في فراغ. لقد جاءت من بيئةٍ قاسية كانت الطفولة فيها معلّقةً بخيط رقيق. قبل الطب الحديث، كان المرض وحشًا يتسلّل إلى البيوت من دون سابق إنذار، حمّى مجهولة، أو رعشةٌ غامضة، أو اختناقٌ كان يُظنّ أنه بفعل كائن غيبيّ، لا بفعل ميكروبٍ لا يُرى. وهكذا، صاغت الذاكرة الشعبية الأسطورة لتشرح ما عجزت عن فهمه. والإنسان القديم، حين لا يجد تفسيرًا، يخلق رمزًا والرمز يسكُن الخيال مثل الحقيقة تمامًا.
“أمّ الصبيان” كانت إذًا محاولةً لتفسير الموت المبكر، والمرض المفاجئ، واضطرابات النوم عند الأطفال. بل كانت نوعًا من التفسير الوجداني وهو خوفٌ يأخذ شكلًا أنثويًّا لأن الأمّ هي مركز العاطفة في البيت، وهي الأكثر التصاقًا بالطفل، فهي الخصم وهي الحارس في آنٍ واحد.

بين الخرافة والتحذير
رغم خوف الناس من “أمّ الصبيان”، إلا أن الأسطورة لم تكن مجرّد خرافة تُتلى لترويع الأطفال، بل كانت أداة تربوية واجتماعية. في كثير من الحكايات، تأتي الأسطورة لتقول للأمّ: “إن غفلتِ عن طفلك، فسيأتي مَن يأخذه منك”.
وأغلب المجتمعات استخدمت الأساطير لحماية الأطفال بطريقة غير مباشرة من حيث عدم ترك الطفل وحده، تحصينه بالأدعية، مراقبة نومه، الحد من خروجه ليلًا، والابتعاد عن الأماكن المظلمة. لقد كانت “أمّ الصبيان” بمثابة نظام حمايةٍ بدائيّ، صاغه المجتمع بلغة الأسطورة ليحفظ أبناءه من الأخطار.
الطفولة كمرآةٍ للخوف الإنساني
من يقرأ الأسطورة بعمق يرى أنها ليست عن كائنٍ غيبيّ بقدر ما هي عن الهشاشة الإنسانية. الطفل، في نظر المجتمعات القديمة، ليس فقط صامتًا وضعيفًا، بل هو بوّابة مفتوحة على الغيب. ولأن حياته في بدايتها أقرب إلى الروح منها إلى الجسد، فقد خاف الناس عليه من الأرواح التي تتجوّل بين العالمين. لهذا، كانت “أمّ الصبيان” تُجسّد تلك المنطقة الرمادية من مكانٌ لا هو علمٌ ولا خرافة، بل لغة للتعبير عن الخوف، ووسيلة لتفسير ما يتجاوز قدرة الإنسان على الفهم.

انعكاسات الأسطورة على الثقافة
لم تغيّب الأسطورة نفسها عن حياة الناس بسهولة. ما زالت بعض مناطق الخليج ومنها القطيف ترويها إلى اليوم بطرق مختلفة. في بعض الحكايات، هي سبب بكاء الطفل طوال الليل. وفي حكايات أخرى، هي التي “تسحب روحه للحظات” فيغيب عن الوعي. وفي سرديات ثالثة، تأتي حين يكون البيت غير محصّن بالذكر والدعاء. كل ذلك يعكس حاجة الإنسان للسيطرة على المجهول من خلال الحكاية، لأن الحكاية تمنحنا شعورًا بوهم السيطرة حيث إن سمّينا الخوف، استطعنا مواجهته.
الأسطورة في مرآة الزمن
واليوم، بعد توسّع المعرفة الطبية، تراجعت الأسطورة إلى مساحة الذاكرة. لكن اختفاءها لم يكن كاملًا؛ فما زال اسمها يُذكر على الألسنة، لا باعتبارها كائنًا حقيقيًّا، بل بوصفها جزءًا من تراثٍ طويل يحكي كيف فهمت المجتمعات القديمة المرض والحياة والموت. وقد تحوّلت “أمّ الصبيان” إلى رمزٍ ثقافيّ، يُستدعى حين نتأمّل علاقة الإنسان بالغيب، وحين نتساءل، كيف بنى أجدادنا عالمهم بين العلم والظلام، بين المعرفة والخوف، بين الواقع والخيال؟
حين تصبح الأسطورة مرآةً للنفس
في النهاية، ليست “أمّ الصبيان” سوى وجهٍ آخر للإنسان نفسه وإنها المرآة التي تُظهر قلقه على أحبّ مخلوق إليها وهو طفلها. والأساطير ليست أكاذيب، بل حقائق عاطفية وهي الطريقة التي ابتكرها الإنسان ليحمي ما يخاف أن يفقده والطريقة التي حاول بها أن يعطي المجهول شكلًا يمكن أن يرويه، حتى لو لم يستطع رؤيته. ولو لم تكن “أمّ الصبيان” موجودة في الخيال الشعبي، لابتكر الإنسان غيرها، لأن الخوف حكاية وكل حكاية تحتاج إلى بطلٍ حتى لو لم يوجد إلا في الظلال.

علوم القطيف مقالات علمية في شتى المجالات العلمية