الحفاظ على التوازن النفسي والاجتماعي أثناء أزمة كورونا وما بعدها (6) – د. رضي حسن المبيوق*

اللقاح سيعالج الجانب الصحي للبدن ولكن الآثار النفسية (قليلها أو كثيرها) قد تكون طويلة الإستمرار والبقاء وخاصة إذا تركت وشأنها. لابد أن ينال الجانب النفسي درجة كبيرة من الإهتمام، ومفردة “الجانب النفسي” عامة وأتمنى من خلال أسئلتكم أن نسلط الضوء على جوانب نفسية معينة. أتطلع بإهتمام إلى أسئلتكم ومداخلاتكم.

السؤال الثامن:

هناك بعض الأشخاص مصابين بالوسواس القهري متعلق بالنظافة. كيف يمكن أن تتطور حالة هؤلاء مع وجود الجائحة؟ وهل يمكن أن تتطور الحالة مع استمرار الأزمة عدة شهور الى مرحلة تشكل خطرا على سلامة هؤلاء أو من حولهم؟

السؤال الرابع عشر:

هل من المتوقع تزايد حالات الوسواس القهري والخوف من الجراثيم والفيروسات نتيجة هذا الوباء؟ وكيف يمكن التعامل معها كأفراد أو كمختصين؟

***

بما أن السؤالان مرتبطان بموضوع الوسواس القهري، سنجيب عليهما بشكل منفرد ومتداخل. وقبل الإجابة مباشرة سأعطي مقدمة قصيرة عن الوسواس القهري وأعراضه ومن ثم أقوم بالإجابة على كل جزء من أجزاء السؤال.

 ماهو اضطراب الوسواس القهري وما هي أعراضه؟

 هذا الاضطراب اكتشف وأطلق عليه هذا الوصف قبل قرن من الزمان تقريبا. ونسبة المصابين به تترواح بين ٢ الى ٣ بالمئة حول العالم، والعامل الوراثي كبير جدا في حالات هذا الإضطراب. الدراسات التي أجريت عَلى التوائم المتطابقة والأخوية وجدت حصول حالة الوسواس القهري بنسبة ٨٠ الى ٨٧ بالمئة بين التوائم المتطابقة (Identical twins) قياسا ب٤٧ الى ٥٠ بالمئة بين التوائم الأخوية (fraternal twins). ويعد الوسواس القهري من أكبر عشرة حالات طبية مقعدة في العالم. الاضطراب يحدث في جميع المراحل العمرية ولكن يشكل اكثر خطورة بين مرحلتي الطفولة والمراهقة الى منتصف سن الرشد. والمرض له تداعياب اجتماعية وأكاديميه ووظيفية.

ويتصف الوسواس القهري بأفكار وصور لا معنى لها، ولها طابع الاستمراريه والإقتحامية (obsessions) أي أن هذه الأفكار هي التي ترغم وتقحم نفسها في عقل الإنسان وتسبب خوف وهلع. فيهب المصاب للتخلص من هذه الأفكار المباغتة (ومن الخوف الناتج عنه) والتي من الصعب مقاومتها الى استرجاع زمام التحكم بأفكاره عن طريق القيام بسلوكيات مقصودة ومتكررة والتي تأتي كحاجة ملحة الى سلوك يتشكل مع الوقت الى طقوس غير مرنة (compulsions).

كيف يمكن تتطور حالة هؤلاء مع وجود الجائحة؟

الجواب القصير هو: يعتمد على قوة ونوع حالة المصاب. الجائحة قد تفاقم من حدة الوسواس القهري عند البعض وخاصة اذا كان الوسواس القهري هو الخوف من التلوث بالجراثيم أو الأوساخ ومن الخوف الكبير من التعرض للمرض أو أن يكون المصاب سببا في نقل العدوى للآخرين. فخوفهم له اتجاهين: خوف على النفس من المرض والخوف من نقل الفيروس الى شخص آخر.

بينما هناك مصابون بالوسواس القهري التي لا تؤثر الجائحة في حالتهم. أحد المعالجين النفسيين قال بأن أحد المرضى قال بأنه ليس مهتما او قلقا بالكوفيد-١٩ لأن عنده ما يقلقه أكثر – إشارة الى المواجهة المستمرة مع الأفكار الإقتحامية والغير مرغوبة.

وبإمكان تفسير ماقاله هذا المريض بأن التعامل مع المجهول والغير متيقن به (uncertainty) وما يترتب عليه من خوف محدق ليست بأمور غريبة عليه لأن ذلك هو الوضع الطبيعي للمصاب بالوسواس القهري. نستطيع الجزم بأن المصاب بالوسواس القهري أكثر استعدادا على التعامل مع ظروف اللامعلوم او المجهول من الأشخاص الغير مصابين، وخاصة للمصابين الذين يتلقون علاج لحالتهم.

وبالنسبة للمصابين بهوس التلوث بالجراثيم فجائحة كرونا تشكل تحديات كبيرة. لماذا؟ لأن تعليمات النظافة وطرق الوقاية من الفيروس تدفع هذا النوع من المصابين الى اتخاذ إجراءات شديدة ومبالغ فيها أكثر من ذي قبل. فالمبالغة وزيادة النظافة تعني الوقاية الأفضل ولا سيما حينما تسيطر على المريض مشاعر الخوف وعدم التيقن بما سيحدث في المستقبل.

وهناك عامل سلبي آخر يزيد حالة المريض سوءا وهو الاستماع الى ومشاهدة الأخبار عن الجائحة لأنها تؤجج الخوف بطريقة غريبة. تحديدا، احتمالية تركيز  المريض على خبر معين او قصة معينة وتكون شغله الشاغل بحيث لا يفكر في أي شيئ آخر. نعم،  تصبح رؤية المريض نفقية بحيث لا يستطيع قادرا على فلترة الحقائق والخطر النسبي من ما ينتجه الخوف من توقعات وتصورات مضخمة. وما ينصح به المعالجون مرضاهم هو التركيز على استقاء المعلومات من مصادر موثوقة مثل منظمة الصحة العالمية ومركز مكافحة الأمراض. ونفس النصيحة تعطى لغير المصابين بالوسواس القهري وهي: السعي الى وجود توازن بين الحصول على المعلومات عن طرق الوقاية والالتزام بها وبين التحكم في مشاعر الخوف.

هل يمكن أن تتطور الحالة مع استمرار الأزمة عدة شهور الى مرحلة تشكل خطرا على سلامة هؤلاء ومن حولهم؟

الجواب نعم للمصابين بالخوف من التلوث كما ذكرنا أعلاه. وبالإمكان معرفة اذا الحالة تطورت واستفحلت بملاحظة الأعراض التالية:

١- إرتفاع في مقدار الوقت الذي يقضيه المريض في طقوس التنظيف. إذا الدقائق أو الساعات أكثر من قبل الجائحة فهذا مؤشر بأن الحالة تطورت.

٢- اذا تصرفات المريض أثرت على جوانب أخرى من حياته كالعلاقات الإجتماعية، العمل، النوم، ممارسة الرياضة او الأكل وما أشبه فهذا مؤشر على تفاقم المشكلة.

٣- اذا مستوى الخوف والقلق لا ينخفض بعد قضاء وقت طويل في التحكم فيه عن طريق المبالغة في التنظيف فذلك مؤشر أخر على تطور الحالة.

٤- إذا عبر من هم حول المريض من أفراد الأسرة او الأصدقاء او زملاء في العمل عن ملاحظتهم عن تغير ملحوظ للأسوأ في الحالة فذلك ايضا دليل على أن الحالة في تطور الى الأسوأ.

٥- اذا شعر المريض بأنه وصل الى نقطة الإنهيار فتلك دلالة واضحة ودامغة على أن المريض يحتاج الى رعاية طبية لضمان سلامته وسلامة من يعتني به.

المصابون بالوسواس القهري بإمكانهم تتبع بعض الإرشادات التي تحد من تطور حالتهم:

١- ينصح المعالجون مرضاهم بالاحتفاظ بدفتر اليومية (daily journal) لتدوين أي نمط او تقلب في مستوى الخوف والقلق وما يصاحبه من حاجة الى اللجوء الى عمل مايلزم من طقوس تنظيف (washing rituals) للتخلص من الخوف. الكتابة تبعث على الوعي بنوعية الأفكار الإقتحامية وما يقوم به المريض من عمل مكرر كرد فعل لها. عندما يزداد الوعي, بإمكان اتخاذ الإجراءات اللازمة لكسر وعرقلة مسيرة الدائرة – أفكار تقتحم يقود الى عمل تكراري وتعود الأفكار وتتكرر ردة الفعل عليها ,وهكذا. تدوين وقت ومكان ومدة كل حدث وما سبق اجتياح الأفكار وما ذَا حدث بعد ذلك يعطي صورة أوضح عن ارتفاع وهبوط مستوى الخوف.

٢- التقليل من سماع الأخبار عبر التلفزيون أو وسائل التواصل الإجتماعي.

٣- التعرف أكثر بتعليمات الوقاية الصادرة من مصادر موثوقة كمراكز مكافحة الأمراض.

٤- الإعتناء والرفق بالنفس  واستخدام طرق غير طقوس التنظيف كالرياضة والقراءة وإشغال النفس بمشاريع معينة والتواصل مع أفراد العائلة والأصدقاء.

٥- أن لا يتهاون المريض عن تناول الدواء اذا كانت حالته مشخصة و وصف له الطبيب بدواء.

السؤال الرابع عشر:

هل من المتوقع تزايد حالات الوسواس القهري والخوف من الجراثيم نتيجة هذا الوباء؟

***

الإحتمالية واردة ولكنها ضعيفة. أقول واردة لأن معظم الحالات جذورها وراثية. وأقول ضعيفة لأن الغالبية – اذا ما قلنا الكل – يتبع تعاليم للوقاية من المرض ولكن اذا شخص يتعرض الى بيئة او محيط يسود فيه أعراض الوسواس القهري الكلينيكي، فالإنسان يكتسب كثير من العادات عن طريق المشاهدة والملاحظة.

كثير من الناس يغسلون أيديهم بكثرة ولكن لا نستطيع أن نقول بأنهم مصابون او أصيبوا بالوسواس القهري إلا اذا الشخص ظهرت عليه وعنده الأعراض السابقة الذكر والتي على ضوءها يشخص الطبيب او المعالج تلك الحالة. وفي طليعة هذه الأعراض هو اختراق أفكار غريبة وغير مرغوب فيها عقل الإنسان وتسبب له مشاعر خوف وهلع، ورد الفعل يكون بالقيام بأعمال متكررة كغسل اليدين باستمرار للتحكم في الأفكار الناجمة. والأعراض الأخرى تشمل الخوف من المرض والخوف من نقل المرض لشخص آخر.

وسؤالك أثار نقطة مهمة وهي بأن بعض المصابين بالوسواس القهري والذين تلقوا علاج واصبحو قادرين على التحكم بنجاح على الأفكار الإقتحامية   قد تعيدهم الجائحة الى عهدهم وعاداتهم السابقة.

كيف يمكن التعامل معها كأفراد او كمختصين؟

تتبع الخطوات الخمسة المذكورة في ذيل الجواب السابق تنطبق هنا على الأفراد. المختصون يستخدمون طريقة علاج تسمى Exposure Response Prevention Therapy واختصارها ERP وتعني التعريض ومنع الإستجابة، ما معنى ذلك؟

طريقة العلاج تتم بتعريض المريض للأفكار والصور والحالات وتفصيلها  التي تخيف المريض. المريض عليه مواجهة الأفكار الهاجمة شريطة أن لا تكون هناك استجابة. وبعبارة أخرى المعالج يشجع المريض على عدم اللجوء لنمط السلوك الذي انتهجه من قبل في التعامل مع نوبة الخوف كخيار وهذا العلاج يتم تحت إشراف المعالج ومن ثم يتابع المريض التمرن على اختيار شيئ غير غسل اليدين المستمر. يبدو هذا النوع من العلاج قد يؤجج مشاعر الخوف عند المريض وهذا صحيح في البداية ولكن مع التعود يصبح البحث عن خيار غير السلوكيات التي يطلق عليها هوسية كممارسة هواية او لعب رياضة او اي شيئ آخر إيجابي يخفف من وطأة وحدة الخوف. مع مرور الوقت تتحول هذه الى ملكة تعين المريض في التحكم المعقول للأفكار التي تنغص عليه حياته.

هذه الطريقة العلاجية ذكرتني بتعليم مشهور من الإمام علي عليه السلام وهو ” إذا خفت من شيئ فقع فيه، فإن شدة توقيه أعظم مما تخاف منه”.

* أستاذ بجامعة شمال أيوا الأمريكية ومدير المعهد البحثي بمدينة شيكاغو.

تعليق واحد

  1. أخي وعزيزي الدكتور رضي أبو حسن سلمت أياديكم الجميلة في هذا البحث المتقدم والمفيد جزاكم الله خيرا وجعله في ميزان حسناتكم ان شاء اللة ورحمة الله على والديكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *