اسطورة أمّ حمار القطيفية حين يلبس الخوف قناع المرأة – بقلم صادق علي القطري

لم تكن أمّ حمار مجرد اسمٍ يُتداول همسًا في الليالي القديمة، ولا صورةً مخيفة تُستدعى لتخويف الصغار قبل النوم، بل كانت كائنًا رمزيًا خرج من أعمق طبقات الخوف الإنساني، حيث يلتقي المعلوم بالمجهول، والمرأة بالوحش، والإنسان بما يخشاه في نفسه قبل أن يخشاه في الظلام.

ظهرت أمّ حمار في المخيّلة الشعبية القطيفية في تلك المساحات الرمادية بين القرية والبستان، بين الطريق والظل، بين البيت الآمن والخارج المريب. لم تكن تسكن مكانًا محددًا، بل تسكن اللحظة التي يتردّد فيها الإنسان، هل يواصل السير؟ أم يعود؟ هل يثق بما يرى؟ أم يشكّ في عينيه وقلبه معًا؟ الملامح إنسانٌ ينكسر فيه الشكل حيث تصفها الحكايات امرأةً تمشي على قدمين، لكنّ صوت خطاها يكشف أن في جسدها اختلالًا.

امرأةٌ بوجه مألوف، غير أنّ إحدى ساقيها، أو ظلّها، تنتهي بحافر حمار. وهنا تكمن قوة الأسطورة: لم تُصوَّر أمّ حمار وحشًا كاملًا، ولا إنسانة كاملة، بل كائنًا معطوب الهوية.

هذا التشوّه الجزئي ليس تفصيلًا جسديًا، بل هو مفتاح القراءة الفلسفية للأسطورة، إنه خوف الإنسان من الذي يشبهه… ولا يشبهه تمامًا. من الذي يبدو آمنًا، ثم ينقلب فجأة إلى تهديد. المرأة التي تُسيء استخدام الأنوثة في كثيرٍ من الروايات، لا تهاجم أمّ حمار ضحيتها مباشرة. هي لا تنقضّ، بل تستدرج. تلوّح بالحديث، بالشكوى، بالنداء، أحيانًا بالاستغاثة. ومن هنا تقترب الأسطورة من واحدة من أقدم مخاوف البشرية، الخوف من أن يتحوّل الحنان إلى فخ، ومن أن تُستغل الثقة كسلاح.

في مجتمعٍ تقليديّ شديد الحرص على التوازن الأخلاقي، جاءت أمّ حمار كرمزٍ لكل خروجٍ عن هذا التوازن، كامرأة نزعت عن الأنوثة معناها الحامي، واستعملتها أداةً للضياع. ليست الأسطورة هنا إدانة للمرأة، بل تحذيرًا من الوجه القلِق لكل قوة حين تُستخدم خارج سياقها الأخلاقي.

المكان… حيث يولد الرعب لا تظهر أمّ حمار في قلب القرية، ولا تحت ضوء المجالس، بل عند الأطراف، أطراف البساتين، طُرق العودة المتأخرة، المسارات التي لا يمرّ بها الناس إلا مضطرين.

فالأسطورة لا تخترع مكانها، بل تختار الهشاشة الجغرافية لتتجلّى فيها. الأماكن التي لا هي مأهولة تمامًا، ولا مهجورة تمامًا، هي البيئات المثالية لميلاد الرعب الشعبي. وفي القطيف، حيث تتشابك النخيل وتُخفي الدروب، كانت هذه المناطق مسرحًا طبيعيًا لأسطورة كهذه. وظيفتها الخفيّة… ضبط السلوك لا تخريب الوعي ورغم رعبها، لم تكن أمّ حمار أسطورة عبثية. بل أدّت دورًا أخلاقيًا واضحًا، تحذير من الخروج ليلًا وحدك، ردع من الانسياق وراء الغرباء، تنبيه للانتباه إلى التفاصيل وتحفيز للعودة المبكرة إلى البيت.

لقد كانت أمّ حمار قانونًا شفهيًا، كتبه الخوف بدل الحبر، ورواه المجتمع بدل الشرطة. فالأسطورة، هنا، لم تُربك النظام، بل حمت هشاشته. والمعنى الأعمق، قناع الإنسان المكسور وأمّ حمار، في جوهرها، ليست امرأة بحافر، بل إنسان بوجهين. وجه ظاهر يُطمئن، وآخر خفيّ يُفزع.

ولذلك تستمر الأسطورة في وعينا حتى اليوم، لأنها لا تتحدث عن الماضي فقط، بل عن الحاضر أيضًا. عن كل من يبدو شيئًا، ويخفي شيئًا آخر. عن الخداع حين يرتدي ملامح القرب. عن الخطر الذي لا يأتي زائرًا، بل متنكرًا في هيئة الآمن.

وفي الختام: لماذا لا تموت أمّ حمار؟
لأنها لم تكن أسطورة عن كائن، بل عن سؤال دائم، كيف نميّز بين المألوف والخطر؟ بين الثقة والسذاجة؟ بين الظاهر والحقيقة؟ تموت الأساطير حين تفقد معناها، لكن أمّ حمار ما زالت حية…لأن الإنسان لم يكفّ عن الخوف من أن يكون الخطر أقرب مما يظن. هي ظِلٌّ قديم، يمشي معنا في كل طريقٍ نحسبه آمنًا، ويذكّرنا أن الوعي، لا القوة، هو أول سلاح للنجاة.

المهندس صادق علي القطري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *