بين سيوة والقطيف وشيجةً عميقةً من الذاكرة والماء والنخيل (الجزء الثالث والأخير) – بقلم علي الجشي

بين سيوة والقطيف وشيجةً عميقةً من الذاكرة والماء والنخيل
سفرة سِيوَّة (١٥ إلى ٢١ اكتوبر ٢٠٢٥)
[(3) اليوم الخامس والسادس والسابع]

{ اليوم الخامس: زيارة معبد آمون وجبل الدكرور }

بعد الإفطار الجميل الذي قُدِّم بضيافةٍ سيويةٍ كريمة، توجَّه الفنانون إلى مواقعهم في المرسَم لاستكمال لوحاتهم الفنية.

ها هو أحدهم يرسم بحيرةً مفتوحة يسبح في عبابها قاربٌ صغير، وذاك يصوّر جبلًا شامخًا يطلّ على البحيرة من بعيد، وثالثٌ اختار أن يرسم مبناً تراثيًا قديمًا بُني من المواد المحلية.
وفي زاوية أخرى، كان فنانٌ يصوّر أزقة القلعة القديمة، بينما جسّد آخر مشهد السوق المركزية بطرقاتها المتعرجة ومحلاتها البسيطة الجميلة.

ورسم أحدهم طريقًا زراعيًا واسعًا تتفرع منه مسالك ضيقة تمرّ فيها عرباتٌ تجرّها الحمير وأخرى سياراتٌ صغيرة، في مشهدٍ يعكس تداخل القديم بالجديد في تناغمٍ بصريٍّ مدهش.


كما رسم آخر حرفيًا منهمكًا في صنع تحفٍ وهدايا فنية من سعف النخيل وغصون الزيتون، في مشهدٍ يجسد روح الأصالة والإبداع، بينما كان فنان آخر يرسم نجّارًا يصنع أثاثًا من جذوع النخيل وأغصان الزيتون. أما الفنانة “فوزية” فقد التقطت بريشتها ملامح امرأة سيوية مستورة، تحمل في عينيها حكاية الأرض والصبر.


ورسم آخر طبقًا من الأطباق السيوية الشهية، بينما صوّر غيره مائدةً تجتمع حولها العائلة في دفءٍ ومحبة. وهناك من أطلق ريشته لرسم الشمس وهي تشرق في الأفق الذهبي، وآخر اختارها وهي تغيب خلف الجبال في الساحل الآخر من البحيرة، فيما أبدع أحدهم لوحةً بعنوان عين كليوباترا، تجسيدًا لعيون الماء الكثيرة التي تزخر بها واحة سيوة.

كانت هذه اللوحات تنطق بجمال الطبيعة السيوية وسحرها الإنساني، وتعبّر عن روح الفن التي ترى الحياة بعينٍ من الضوء والأمل. كما أنها تعكس التفاعل الثقافي والتاريخي العميق في موقعٍ صحراويٍّ مرّت به الحضارات عبر العصور.

فقد استوطنتها قبائل أمازيغية قديمة، وهي — كما قال الشيخ عمر في حديثه معنا — ترجع إلى حام بن نوح، في مقابل العرب المنحدرين من سام بن نوح.

ويتحدث السيويون بلهجة تاسيويت، وهي منشقة عن اللغة الأمازيغية أو لغة البربر، ويتقنها كل طفل في سيوة بحكم الميلاد والنشأة، ثم يتعلم العربية في مراحل دراسته إلى جانب اللهجة المصرية الحديثة.

ما إسمك؟ تنطق باللغة الأمازيغية هكذا: هانتا إسميت إنك

وفي العهدين البطلمي واليوناني، عُرفت سيوة باسم واحة جوبيتر آمون، وكانت مركزًا مقدسًا لعبادة الإله آمون الذي قصده الملوك طلبًا للتبرك والتنبؤ، ومن بينهم الإسكندر الأكبر.

ومنذ أن ضمّها محمد علي باشا إلى مصر عام 1820م، بقيت سيوة منعزلة نسبيًا حتى عام 1985م، حين أُنشئ الطريق المعبّد الذي يربطها بمرسى مطروح، الأمر الذي ساهم في انفتاحها على العالم وتزايد حركة الزوار إليها.

ومن يزور سيوة يلحظ اختلافها الكبير عمّا هو مألوف في وادي النيل وصعيد مصر، سواء في اللغة التي تتقاطع مع لهجات الأمازيغ في شمال إفريقيا، أو في الملابس التي تشبه إلى حدٍّ ما أزياء أسوان وبعض مناطق الجزيرة العربية، فضلًا عن العادات والتقاليد التي تجمع بين الأصالة والبساطة.

وبعد الانتهاء من أعمال الورشة الفنية، توجّهنا إلى زيارة معبد آمون، الذي كان مركزًا دينيًا مهمًا في مصر القديمة، وما تزال آثاره شاهدةً على عظمة المكان الذي جذب الزوّار والملوك عبر التاريخ، وفي مقدّمتهم الإسكندر الأكبر.

ويُعرف المعبد أيضًا باسم معبد التنبؤات أو معبد “وحي آمون”، وهو من أشهر المعابد القديمة لارتباطه بتنبؤات الإله آمون وبزيارة الإسكندر الأكبر، إضافة إلى الرواية التاريخية الشهيرة عن اختفاء جيش قمبيز في الصحراء الغربية.

يقع المعبد فوق هضبة الإغورمي التي ترتفع نحو ثلاثين مترًا عن سطح الأرض، ومن طابقه الثاني يمكن للزائر أن يُطلّ على أجزاء واسعة من الواحة بما فيها الجبال والمنازل ومزارع النخيل.

ويتكوّن المعبد من ثلاثة أقسام رئيسية:
1. المعبد الرئيسي،
2. قصر الحاكم،
3. جناح الحراس،
إضافةً إلى ملحقات مثل البئر المقدسة التي كانت تُستخدم للإغتسال والتطهير.

وتنبع أهمية المعبد من كونه مهبط وحي الإله آمون بحسب معتقد المصريين القدماء، ولذلك كان مقصدًا للناس في العصور الفرعونية طلبًا للاستشارة في شؤون حياتهم وتنبؤاتهم بالمستقبل.

وفي العهد المملوكي، بُني داخل المعبد مسجد صغير على الطراز الإسلامي بمحرابه وأروقته وسقوفه المصنوعة من جذوع النخل، في مشهدٍ يعكس التداخل الجميل بين العمارة الدينية القديمة والإسلامية.

ويُعد المعبد اليوم معلمًا تراثيًا بارزًا يقصده الزوّار من أنحاء مختلفة، حيث يصحبهم المرشدون في جولات تعريفية بما تبقّى من معالمه بعد أن تعرّض عبر الزمن للهدم والتخريب من قِبَل بعض الغزاة.

وحول المعبد تنتشر محال صغيرة لبيع الهدايا والمنتجات المحلية، كما يقف فتيان وفتيات صغار يعرضون منتجاتٍ يدوية بسيطة مثل المهفات والمسابح، ويجدون في ذلك متعة اللقاء بالزوار، فيضفون على المكان ببراءتهم جوًّا من الألفة والبهجة. وبعد هذه الجولة المفعمة بالتاريخ، ركبنا الحافلة متوجهين إلى جبل الدكرور.

جبل الدكرور

ولهذا الجبل أهمية تاريخية واجتماعية كبيرة، كونه المكان الذي عُقد فيه الصلح بين قبائل سِيوَّة عام 1975م، بحضور شيوخ من السعودية وليبيا ومصر، كما أشار إلى ذلك المرشد السياحي يوسف. وقد أنهى هذا الصلح صراعًا امتد لأكثر من مائة عام، نشبت خلاله حروب ومعارك بسبب النزاع على الأراضي وموارد المياه بين قبائل سِيوَّة الغربيين الذين كانوا يسكنون السهل، وقبائل سِيوَّة الشرقيين الذين كانوا يقيمون في جبل الدكرور.

ومنذ توقيع الصلح في جبل الدكرور، أصبح هذا المكان أيقونة لأهالي سِيوَّة، إذ يجتمعون فيه كل عام للاحتفال بذكرى الصلح في يومٍ تراثي توارثوه أبًا عن جد. ويستمر هذا الاحتفال ثلاثة أيام متتالية، تُقام عادة في الليالي البيض من شهر أكتوبر من كل عام، عقب موسم حصاد البلح والزيتون. ولذلك يُطلق عليه أيضًا عيد الحصاد أو عيد المصالحة، ويُعرف في اللغة الأمازيغية باسم إسياحت، أي السياحة في حب الله.

وفي هذا الاحتفال يجتمع أهالي سِيوَّة جميعًا رجالًا ونساءً، حيث يُقيم الشيوخ والأعيان في قمة الجبل، بينما ينزل عامة الناس في سفحه. ويشارك الأهالي، وخصوصًا الشباب والأطفال، في إعداد الساحات وأماكن الإقامة، ونحر الذبائح، وطهي الطعام في العراء باستخدام الحطب في أحد السفوح العليا للجبل.


وتُقدَّم وجبة الغداء الجماعية يوميًا خلال الأيام الثلاثة، حيث يبدأ الجميع الأكل في وقتٍ واحد بعد أن يُعطي شيخ القبائل إشارة البدء. ويحضر هذا الاحتفال عدد كبير من الشخصيات والزوار من داخل مصر وخارجها، ممن يتوافدون على الواحة في هذه الفترة لمعايشة طقوس الاحتفال الفريدة التي تميز سِيوَّة عن غيرها.

ويحرص الأهالي على إحياء هذا التقليد سنويًا، إذ يترك جميع الرجال منازلهم وأعمالهم للصعود إلى جبل الدكرور وسط الواحة، والإقامة في البيوت القديمة أو داخل الخيام طوال فترة الاحتفال، حيث تُصفّى الخلافات بينهم ويتصالح المتخاصمون، في مشهدٍ يعكس روح المحبة والوئام التي توارثها أهل الواحة جيلًا بعد جيل.

وفي المساء عدنا إلى الفندق، ثم استقلينا أحد القوارب الذي أبحر بنا نحو جزيرة مرتفعة تقع في وسط البحيرة، لا يستغرق الوصول إليها أكثر من عشر دقائق. كانت الجزيرة تطل على سواحل البحيرة بإطلالاتٍ خلابة، فتجولنا بين جنباتها الصغيرة، وشاهدنا غروب الشمس هناك في مشهدٍ آسرٍ هادئ.

وبعد أن خيّم الظلام، عدنا إلى الفندق على متن القارب نفسه، الذي لم يكن مزوّدًا بأي ضوءٍ يُشير إلى وجوده، في مخالفةٍ لقواعد الإبحار المعروفة، غير أن الأمر بدا آمنًا، إذ لم يكن في البحيرة أي قاربٍ آخر، كما لا يُحتمل وجود قوارب صيدٍ فيها، لأن مياه البحيرة شديدة الملوحة ولا تعيش فيها الأسماك.

وفي الوقت نفسه، كانت مجموعة أخرى من المشاركين قد ذهبت في رحلة سفاري إلى الصحراء الرملية في برّ سِيوَّة، حيث تُقام هناك جولات التطعيس باستخدام سيارات الدفع الرباعي التي يقودها سائقون متمرّسون في هذا النوع من القيادة فوق الكثبان الرملية.


وتُعدّ هذه الرحلات من الأنشطة المحببة التي يقصدها الزوّار للاستمتاع بمناظر الصحراء الخلابة ومشاهدة غروب الشمس الساحر، وقضاء ليلة سمرٍ وسط طبيعةٍ بكر فريدة.

كما تشتهر سِيوَّة أيضًا بـالسياحة العلاجية، إذ تتوفر فيها الرمال الصفراء الناعمة الصالحة لعلاج أمراض الروماتيزم والتهابات المفاصل بالطرق الطبيعية. ويُعد الحمام الرملي الطريقة المتبعة للاستشفاء في وقت الضحى أو قبل غروب الشمس.

ومن المعالم السياحية الشهيرة في سِيوَّة كذلك جبل الموتى، إلا أننا لم نتمكن من زيارته، وكنا نكتفي بمشاهدته من بعيد، حيث نرى على سفحه مجموعاتٍ من السيّاح في كل مرة تمرّ فيها الحافلة بالقرب منه.

{ اليوم السادس: التجول في السوق }

بعد تناول الإفطار ، خرجنا في نزهة قصيرة إلى سوق سِيوَّة. السوق جميل ببساطته، يشبه أسواق المملكة العربية السعودية كما كانت قبل خمسين إلى سبعين عامًا.

كل شيء فيه يعيدك إلى زمن الطيبة والهدوء؛ المحلات صغيرة وبسيطة، لا واجهات زجاجية لها، وأبوابها من ألواح خشبية متراكبة يمكن طيّها إلى الجانبين عند فتح الدكان.

داخل الدكاكين مراوح هواء، لكن لا وجود للمكيفات، فجو الواحة لطيف نسبيًا. السوق يقع في مركز المدينة، أي في قلب سِيوَّة، التي يعتمد اقتصادها على موارد محلية متنوعة.

تجولنا بين الدكاكين، فوجدنا التمور بأنواعها وألوانها ومنتجاتها المتعددة كالدبس والبسكويت والحلويات، وزيت الزيتون المعبأة بأحجام مختلفة، وأنواعًا كثيرة من المربيات مثل مربى الزيتون، مربى الباذنجان، ومربى الكركم — جميعها بطعم لذيذ ومميز.

ويُنتج في سِيوَّة أيضًا البهارات المتنوعة وخليط الشاي بالأعشاب الطبيعية مثل النعناع والريحان والليمون المجفف، وهي مشروبات محلية محبوبة لدى أهل الواحة وزوارها. كما تتوفر المنسوجات القطنية، والملابس المطرزة، والهدايا المصنوعة من القماش على شكل جمال وحمير وطيور وغيرها من الأشكال الجميلة.

وفي السوق أيضًا مقاهٍ شعبية لتقديم القهوة والشاي، وأركان لبيع الأعشاب والبهارات والعطور التقليدية، وأخرى للعصائر والمشروبات الباردة. وقد أنشأت البلدية حديقة بسيطة في أحد أطراف السوق تُضفي لمسة جمالية على المكان.

ما يميز السوق حقًا هو الناس — الباعة بوجوههم الودودة، وأسلوبهم الصادق في البيع، فهم لا يغالون في الأسعار؛ يحددون سعرًا واحدًا منذ البداية، وإن حاولت المساومة، غالبًا ما يبتسم البائع ويقول: خذها هدية مني.

إن التسوق في سِيوَّة تجربة ممتعة، تجمع بين الطيبة والصدق وبساطة المكان. فالسوق يمثل قلب النشاط التجاري في الواحة، حيث تلتقي الزراعة بالحرف اليدوية والتجارة المحلية في لوحة جميلة تُبهج القلب.

بعد التسوق وشراء منتجات متنوعة مثل الصابون الطبيعي المصنوع من زيت الزيتون، والأقلام الخشبية اليدوية، وزيت الزيتون النقي، جلسنا لنحتسي الشاي والقهوة ونتذوق بعض الحلويات المحلية في أحد المقاهي الجميلة داخل السوق.

كانت الخدمة رائعة ومميزة، تشعر وكأنك بين إخوتك، فالناس يبذلون كل ما يستطيعون ليجعلوا تجربة الزائر دافئة وممتعة.

مع غروب الشمس، خرجنا من السوق متجهين إلى الفندق، حيث كانت وجبة العشاء في انتظارنا — مائدة عامرة بالمشويات: لحم البط، الحمام، الدجاج، واللحم البلدي، وكلها من إنتاج المزارع المحلية، طازجة مباشرة دون تجميد، مما يمنحها طعمًا طبيعيًا غنيًا ومميزًا.

كما كانت السلطات والمقبلات حاضرة بألوانها الزاهية: السلطة الخضراء، الطحينية، البابا غنوج، الحمص، المتبل، وسلطة الشمندر، إلى جانب شوربة الخضار اللذيذة. المائدة كانت غنية ومتنوعة، تعبّر عن الكرم السيوي الريفي الصحراوي الأصيل.

بعد العشاء، توجّهنا إلى المركز الثقافي في المدينة، حيث أُقيم معرض فني لعرض لوحات ورسومات الفنانين. افتتح المعرض وكيل وزارة السياحة بحضور مدير مركز المدينة وعدد من مشايخ سِيوَّة.

كان الاحتفال مبهجًا يملؤه الفخر بالتراث المحلي، وتضمّن المعرض أعمالًا فنية تمثل تراث سِيوَّة ومنتجاتها وثقافتها، كما أُلقيت كلمات وخطب تُبرز مكانتها التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والإنسانية.


وتخلّل الحفل إلقاء قصائد شعرية حماسية أثارت إعجاب الحضور، وكان التصفيق يتعالى بعد كل قصيدة. وفي ختام الأمسية، تبادلنا التحية والتعارف مع المشاركين والزوار، وكانت اللحظات مليئة بالود والابتسامات.

وهكذا اختُتم اليوم السادس من رحلتنا في سِيوَّة؛ رحلة جمعت بين جمال الطبيعة، وكرم الضيافة، وعبق التاريخ، لتبقى تجربة لا تُنسى.

وبناءً على مشاهداتنا خلال الأيام الماضية، يمكن تلخيص ركائز اقتصاد سِيوَّة كالتالي:
1. الزراعة: وخاصة إنتاج التمور والزيتون، التي تعتمد على المياه الجوفية. أول هذه الموارد زراعة النخيل وإنتاج التمور، وتصنيعها إلى منتجات متعددة مثل الدبس (عسل التمر)، والبسكويت، والحلويات المحلية.
ثم يأتي الزيتون، أحد أشهر منتجات سِيوَّة، حيث يُنتج بكميات كبيرة وبجودة ممتازة. يُستخرج منه زيت الزيتون النقي، كما تُصنّع منه أنواع متعددة من الزيتون الأخضر والبني والأحمر، تُنقع في الماء وتُضاف إليها التوابل لتكتسب نكهات مميزة مرغوبة لدى المستهلكين.
وبفضل جودة التمور العالية، اجتذبت سِيوَّة عدة استثمارات لمصانع إنتاج وتعبئة التمور بجميع أنواعها، بالإضافة لإنتاج الخل والدبس والخميرة الطازجة والعلف الحيواني. أما الزيتون، فيُعدّ من أهم منتجات الواحة، إذ تُزرع أصناف متعددة مثل المراقي والزيتون الإسباني المكثّف، وتنتج زيوتًا عالية الجودة تُصدَّر للخارج. وقد ذكر الأستاذ أسامة أن الأشجار تتوزع بنسبة تقارب 50٪ للنخيل و50٪ للزيتون، فكلاهما يحتل مكانة مهمة في اقتصاد المنطقة.
2. إنتاج الملح: ومن الموارد المهمة أيضًا الملح، فهناك بحيرات ومياه مالحة تُترك لتجف في الصيف، فيُجمع منها الملح الصافي بكميات تجارية كبيرة تُصدَّر إلى أنحاء مصر، وهو ملح معروف بجودته العالية. يصدر الملح من الملاحات بكميات تجارية كبيرة، ويتميز ملح سِيوَّة بمقاييس عالمية منافسة، ويُستخدم للأغراض الغذائية والصناعية المتنوعة، بما في ذلك صناعة الصابون، والغزل والنسيج، ومعجون الأسنان، والمنظفات، وحتى بعض الصناعات الخاصة مثل الوقود والبارود والطوب الحراري.
3. السياحة: فالواحة وجهة مميزة بهدوئها، وجمال طبيعتها، ونقاء هوائها. الجو في الشتاء معتدل، الشمس هادئة، والنسيم عليل، والبحيرات تضيف شيئًا من الرطوبة اللطيفة. كما يتميز أهلها بالكرم والأخلاق الطيبة، مما يجعل الزائر يشعر بالراحة والود. موقع سِيوَّة النائي ساعد في الحفاظ على طابعها الثقافي الأصيل، الذي يجمع بين ثقافة القبائل الأمازيغية والبدو العرب.
4. المنتوجات الحرفية: أبرزها الصناعات الفخارية اليدوية مثل صحون الطاجين، أواني الطهي الصحراوية المزخرفة، وصناعة الحلي من الذهب والفضة والأحجار الكريمة والجلود والخيوط بتصميمات دقيقة وجميلة. كما يتميز أهل سِيوَّة بمهاراتهم في استغلال النخيل والزيتون لصنع التحف والهدايا اليدوية، إضافة إلى صناعة السجاد اليدوي المميز برسوماته الصحراوية الجميلة.

5. تعبئة المياه: تحتوي سِيوَّة على أكبر خزان مياه جوفية في مصر، يتغذّى من الخزان النوبي في النوبة وأسوان، ويمر عبر ممرات تحت الصحراء ليصل إلى الواحة. تُستخدم هذه المياه لتوفير المياه الصالحة للشرب، وقد أنشئت عدة مصانع لتعبئة المياه الطبيعية والمعدنية، مما يجعل الواحة واعدة للاستصلاح الزراعي نظرًا لمواردها المائية الوفيرة.

ملامح الحياة في سِيوَّة

تحدّث أسامة عن الحالة الاجتماعية في سِيوَّة قائلًا: في الماضي كان الماء العذب نادرًا جدًا، وكان القادم من خارج الواحة يحمل معه قليلًا منه كهديّة ثمينة لأهلها. أما اليوم، فبفضل مشاريع الحفر والتنقية، أصبحت سِيوَّة تنعم بمياه حلوة صالحة للشرب.

من الناحية الاجتماعية، أغلب سكان سِيوَّة من الأمازيغ ويقيمون في مركز المدينة، بينما تنتشر حولها أربع قرى صغيرة بعيدة نسبيًا عن المركز، تسكن إحداها قبائل من البدو العرب. وقد احتفظت هذه القرية بعدد ثابت من السكان على مرّ السنين، لا يزيدون ولا ينقصون.

الحياة في سِيوَّة تقوم على الترابط والهدوء، والشيخ هو المرجع الأساسي في حلّ الخلافات والمشكلات. فإذا حدثت أي مشكلة بين الأهالي، يلجؤون أولًا إلى شيخهم لفضّ النزاع، وحتى الشرطة تطلب من الأطراف مراجعة الشيخ قبل التدخّل الرسمي.

أما إذا وقعت مشكلة بين أحد الغرباء وأحد أبناء سِيوَّة، تطلب الشرطة من الغريب مراجعة عائلة الشخص أو شيخه لحل المسألة وديًا، وغالبًا ما تُحل بهذه الطريقة دون الحاجة لإجراءات رسمية.

وفي الماضي، كان التعليم في سِيوَّة يتوقف عند المرحلة الإعدادية، ثم يُرسل الأبناء إلى مرسى مطروح أو الإسكندرية لإكمال الدراسة. ورغم صعوبة السفر والتكاليف، حرص الأهالي على التعليم، فخرج منهم أطباء ومهندسون كثيرون، حتى أن أغلب الطبيبات والصيدليات في سِيوَّة اليوم من بناتها، وهو ما يناسب متطلبات الناس الاجتماعية هناك.

في البداية كان هناك تحفّظ على تعليم البنات، لكن مع مرور الوقت تغيّر الحال، وازداد الوعي، وأثبتت الفتيات جدارتهن، حتى أصبحت لهن ممثلة في مجلس الشعب، وهو أمر يبعث على الفخر. اليوم، تشمل مراحل التعليم في سِيوَّة الابتدائي، الإعدادي، والثانوي المتفرع إلى ثانويات عامة، فنية، وزراعية.

{ اليوم السابع: مسك الختام }

كان هذا آخر أيام رحلتنا في سِيوَّة. تناولنا الإفطار صباحًا، ثم عدنا إلى أماكننا لتحضير حقائب السفر. كانت الحقائب كثيرة؛ فبعضنا جاء بحقيبة واحدة وأصبح عنده حقيبتان أو أكثر، وذلك بسبب ما اشتراه من المنتجات المحلية، التي تمتاز بطابعها الطبيعي الأصيل، حتى ما يُستورد منها يكون قريبًا من الإنتاج المحلي، مما يجعلها محببة للسياح.

بعد جمع الحقائب، وُضعت في الحافلة بصعوبة لكثرتها، كما أن عدد الركاب بلغ نحو خمسين شخصًا، فامتلأت المقاعد والممرات. تأخرنا قليلًا بسبب ترتيب الأمتعة، حتى انطلقنا حوالي الساعة الحادية عشرة صباحًا متجهين نحو مرسى مطروح.

بعد مسيرة ساعتين تقريبًا، توقفنا في إحدى المحطات للاستراحة، حيث جرى تزويد الحافلة بالوقود، ونزل الركاب لتناول القهوة أو الشاي وبعض المأكولات الخفيفة، وأدّينا الصلاة في المسجد بالمحطة. استغرقت الاستراحة نحو ساعة، ثم واصلنا الرحلة إلى مدينة مرسى مطروح.

تقع مرسى مطروح على الساحل الشمالي الغربي لمصر، وتُعدّ عاصمة محافظة مطروح، تبعد نحو 300 كيلومترًا غرب الإسكندرية، وتمتد على شاطئ بطول يقارب سبعة كيلومترات يطل على مياه البحر الأبيض المتوسط الفيروزية.

تشتهر بطبيعتها الخلابة وشواطئها الساحرة مثل: عجيبة، الأبيض، الغرام، وروميل، ومياهها الصافية جعلتها من أبرز المقاصد السياحية في مصر. كما تمتاز بطابعها الهادئ ومزيجها الثقافي الذي يجمع بين العادات البدوية الأصيلة والتراث الساحلي.

يعتمد اقتصاد مرسى مطروح على السياحة، وصيد الأسماك، والزراعة المحدودة، والتجارة، كما تُعدّ بوابة رئيسية إلى واحة سِيوَّة غربًا والحدود الليبية، وهي اليوم من أبرز الوجهات الصيفية للسياح المصريين والعرب لما تتمتع به من طبيعة بكر وسحر خاص يجمع بين البحر والصحراء.

في مرسى مطروح، اتجهنا إلى مبنى المحافظة، حيث كان في استقبالنا اللواء خالد شعيب، محافظ المدينة، الذي رحّب بجميع المشاركين في ملتقى مؤسسة الفنون، وتحدث عن الجهود المبذولة لتطوير السياحة بالمحافظة. رغم قصر اللقاء، كان وديًا ومثمرًا.

بعد اللقاء، توجهنا لتناول الغداء. وبما أننا لم نتناول السمك في سِيوَّة — إذ نادرًا ما توجد مطاعم متخصصة به هناك — وقع الاختيار على مطعم مجدي الشهير بتقديم أشهى أطباق البحر الأبيض المتوسط.

كانت الخدمة ممتازة رغم كثرة عددنا، وتنوّعت الأطباق بين البوري المشوي، الربيان الأبيض، طاجن الربيان الأحمر، وطاجن السبيط. تشتهر مطروح بأسماكها الطازجة والمتنوعة مثل: الدنيس، القاروص، الوقار، البربون، البوري، الموزة، الجمبري، والسبيط، إضافة إلى أنواع موسمية كالميرا والأناشي، وأحيانًا تُصاد التونة الكبيرة في سواحلها.

بعد الغداء تناولنا القهوة والشاي، ثم خرجنا لزيارة سوق مرسى مطروح، سوق عامر بالحركة، يُشبه إلى حد ما سوق وسط الدمام. اشترينا بعض التذكارات، ثم ركبنا الحافلة متجهين نحو القاهرة.

استغرقت الرحلة من مرسى مطروح إلى القاهرة نحو سبع ساعات شاملة الاستراحات، حيث توقفنا لأداء صلاتي المغرب والعشاء وتناول بعض المرطبات، ثم واصلنا المسير حتى وصلنا القاهرة بعد منتصف الليل. توقفت الحافلة أولًا عند نقطة التجمع الرئيسية، ثم في حي المهندسين حيث نزلنا وأخذنا حقائبنا، واستأجرنا سيارة أجرة أقلتنا إلى الفندق في حي الدقي، وكانت الساعة قد قاربت الثانية صباحًا.

وهكذا اختُتمت رحلتنا مع الإخوة الفنانين التشكيليين، كانت رحلة جميلة مليئة بالتجارب الثقافية والإنسانية الثرية، تركت في القلب ذكريات دافئة عن سِيوَّة، وعن مطروح، والبساطة الأصيلة للمكان والناس.

المهندس علي الجشي
لقراءة الجزء الأول: https://www.qatifscience.com/?p=31861
لقراءة الجزء الثاني: https://www.qatifscience.com/?p=31861
مقالات دات علاقة: https://www.qatifscience.com/?p=17751

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *