بين سيوة والقطيف وشيجةً عميقةً من الذاكرة والماء والنخيل
سفرة سِيوَّة (١٥ إلى ٢١ اكتوبر ٢٠٢٥)
[(1) اليوم الأول والثاني]
{ اليوم الأول: المغادرة من القاهرة }
غادرنا القاهرة عند الساعة الحادية عشرة مساءً، متجهين شمالًا ثم غربًا حتى اقتربنا من الإسكندرية، ومن هناك واصلنا الطريق متجاوزين مرسى مطروح، قبل أن ننحرف جنوبًا وغربًا باتجاه سِيوَّة الواقعة في عمق الصحراء الغربية بالقرب من الحدود الليبية مع مصر.

استغرقت رحلتنا نحو أربع عشرة ساعة، شملت قرابة ثلاث ساعات قضيناها في الاستراحة وإصلاح عطل في إحدى عجلات الحافلة. فقد تعرضنا لعطب في أحد الإطارات الخلفية، لما يُعرف بالعامية بـ«بنشر» – وهي كلمة إنجليزية الأصل (puncture) وتعني «ثقب الإطار».
وقع العطل في منتصف الليل، ونحن نسير في طريق مقفر تحيط به الرمال من كل جانب، فكان الأمر مرهقًا ومربكًا. حاول السائق طويلًا أن يجد مكانًا لإصلاح الإطار، وبعد عناء تمكّن أخيرًا من العثور على ورشة صغيرة في منطقة صحراوية منعزلة. وكان اللافت أن صاحب الورشة ما زال يعمل في ذلك الوقت المتأخر من الليل.
لم تكن هناك كهرباء في المكان، وبالتالي لم تتوافر إنارة، فاستخدمنا جوّالاتنا كمصادر للضوء. حاول صاحب الورشة إصلاح العجلة بمساعدة السائق وعامل آخر، لكن حجمها الكبير – فهي عجلة حافلة تقل نحو خمسين راكبًا – جعل المهمة صعبة. وبعد محاولات عدة لفك الجزء المعدني عن الإطار المطاطي دون جدوى، اضطر السائق إلى إنزال العجلة الاحتياطية وتم تركيبها بدلًا منها.
وبعد أن تمّ الاستبدال، تنفّس الجميع الصعداء، واستأنفنا المسير بهدوء نحو وجهتنا، على أمل ألا يطرأ عطب أو عائق آخر.
{ اليوم الثاني: معالم سِيوَّة وقلعتها }
وصلنا إلى سِيوَّة متعبين عند الساعة الواحدة ظهرًا تقريبًا،
تقع سِيوَّة في الصحراء الغربية، وتبلغ مساحتها الكلية نحو 94,263 كم²، وتنخفض عن مستوى سطح البحر بنحو 18 مترًا. تشكل واحتها الخضراء مساحةً تقدر بـ1,088 كلم²، وتضم محمية طبيعية تبلغ نحو 7,800 كلم² فيها تنوعٍ نباتي وحيواني فريد. ويبدو إن المعلومات التي قالها لنا رضا، وهو من أبناء سيوة، توافق هذه التقديرات.
وبموقعها البعيد عن تلوث المدن وضجيجها، تغدو واحة سِيوَّة هادئة وتبدو بمناظرها كأنها لوحةً طبيعية من الصفاء والنقاء، تجعلها وجهة سياحية عالمية ذات طابع خاص، وقد تم إعلانها كمحمية طبيعية في عام 2002.
معالم سيوة البارزة
أول ما لفت انتباهنا عند الوصول هو منظر الجبال المنخفضة التي تحد سيوة من الجهة الشمالية. هذه الجبال أو الهضاب تبدو وكأنها “سلسلة من جبيلات” صخرية صغيرة، فهي أقرب إلى التلال منها إلى الجبال الشاهقة.
ولست متأكدًا من طبيعتها الجيولوجية، لكنها تبدو جيرية أو كلسية، تشبه إلى حدٍّ ما تلك الموجودة في منطقة الأحساء بالمملكة العربية السعودية.

تنتشر في بعض هذه الجبال كهوفٌ طبيعية يمكن رؤيتها من بعيد. ليست كهوفًا عميقة كالتي نراها في أماكن أخرى، لكنها تمنح المكان طابعًا غامضًا وجميلاً. ولا أعلم إن كانت قد استُخدمت من قبل الإنسان أو الحيوان، لكنها تُشكّل أول ملامح الجغرافيا السيوية التي تواجه الزائر، في مشهد يبدو كأنه لوحة فنية رسمتها يد الزمن، حيث تحمل الرياح الرمال من الكثبان الجنوبية لتنحت الصخر..
الميزة الثانية البارزة في معالم سيوة الجغرافية هي وجود بحيراتٍ كبيرة شديدة الملوحة، لا يمكن أن تعيش فيها الأسماك. ومع ذلك، فإن مواقعها الأربعة المتوزعة حول الواحة تضفي على سيوة جمالًا طبيعيًا وسحرًا خاصًا، وتمنحها طابعًا سياحيًا هادئًا بأجوائها النقية.

أما الميزة الثالثة فهي كثرة النخيل المنتشرة في الواحة. صحيح أن العناية بها ليست كما في القطيف أو الأحساء أو غيرهما من المناطق الزراعية في المملكة، لكنها جميلة بطبيعتها البكر.
وتحيط بالمزارع سياجات من السعف اليابس تُشبه «الحُضْران» (جمع حضار) مثل تلك التي كانت تُحيط بمزارع ونخيل القطيف قديمًا.

الميزة الرابعة في سِيوَّة هي كثرة عيون المياه الطبيعية. فعلى الرغم من وقوعها في قلب الصحراء، إلا أن المياه العذبة تنتشر في أرجائها بعدد كبير من الآبار والعيون، يُقدَّر بنحو مئتي عين، تُستخدم للري والشرب والعلاج وتعبئة المياه الطبيعية.
وتختلف كميات المياه وحرارتها من عين إلى أخرى، فمنها الساخن والبارد، والحلو والمالح، إضافة إلى العيون الكبريتية، رغم أن كثيرًا منها جفّ بمرور الزمن.

وتمنح القنوات والسواقي التي تنقل مياه العيون إلى بساتين النخيل ومزارع الزيتون منظرًا طبيعيًا بديعًا. وتنبع هذه المياه من مصادر تشبه إلى حدٍّ كبير تلك الموجودة في القطيف والأحساء.
الفندق
وصلنا إلى داخل سِيوَّة وتوقفت الحافلة عند أول فندق، حيث نزلت مجموعة من الركاب، بينما بقي الآخرون في مقاعدهم. كنا ستةً وأربعين شخصًا جئنا إلى سِيوَّة في مهمة سياحية فنية، إذ ضمّت مجموعتنا عددًا من الفنانين التشكيليين الذين اعتادوا القيام برحلات فنية إلى مناطق مختلفة من مصر، بتنظيم من الأستاذ الدكتور مصطفى غنيم، الذي يشرف على ورش فنية غير ربحية تهدف إلى تشجيع الفن والفنانين على ممارسة الرسم التشكيلي، وهو الفن الذي يهواه ويعمل على نشره بحماسٍ وتفانٍ.
نزل نصف المجموعة تقريبًا في أحد الفنادق، بينما اتجهنا نحن إلى فندق آخر يُسمّى «بريزي». وما إن دخلنا الفندق حتى أُعجبنا بتصميمه الفريد، فقد بُني على الطراز السيوي الأصيل المتناغم مع طبيعة الصحراء ومناخها، رغم حداثة إنشائه. وربما كنا نحن من أوائل النزلاء.

يتميّز الفندق بمعماره الجميل الذي يراعي الطابع البيئي للمنطقة، وغرفه الواسعة التي تضم شرفاتٍ تُطل على البحيرة الكبيرة المجاورة، إضافةً إلى بكة سباحة ومرافق خدمات فندقية. ففي باحة الفندق بركة سباحة أنيقة، وبجوارها مطعم جميل يضفي على المكان لمسة من الراحة والسكينة.
أُعجبنا أيضًا بحفاوة الاستقبال؛ فقد رحّب بنا موظفو الفندق بوجهٍ بشوش وكلماتٍ ودودة، وساعدنا عمال الفندق على نقل الأمتعة إلى الغرف، وقدّموا لنا عصير الكركديه البارد كتحية ترحيب. 
وبعد استلام الغرف واستراحةٍ قصيرة من عناء السفر، أخذنا قسطًا من النوم استعدادًا لجولتنا المسائية.
قلعة سِيوَّة (شالي القديمة)
في تمام الساعة الخامسة مساءً، انطلقنا بالحافلة متجهين إلى قلعة سِيوَّة القديمة، التي تُعرف محليًا باسم «شالي». كانت القلعة مدهشة بجمالها وقدمها، وقد أخبرونا أنها كانت تُشكّل نواة البلدة القديمة. تقع القلعة على إحدى الهضاب الرملية، وبُنيت من حجر الكرشيف وهو خليط من الطين والرمل والملح المعروف محليًا بـ«الكِسِّي».
لفت انتباهي اتساع القلعة نسبيًا، وكثرة بيوتها وممراتها المتشابكة. كانت الغرف صغيرة الحجم، تُشبه غرف البيوت القديمة في المملكة العربية السعودية، وربما أصغر قليلًا. وقد استُفيد من اختلاف ارتفاع الجبل لتوفير التهوية الطبيعية للمنازل، كما لاحظنا وجود أماكن مرتفعة كانت تُستخدم قديمًا كحمّامات.

تجوّلنا في أزقة القلعة المهجورة، فرأينا بعض كبار السن يجلسون عند أطرافها، بدت عليهم ملامح السكينة والأنس، كأنهم يأتون إلى المكان لاستعادة ذكريات الماضي أو لقضاء أوقاتٍ هادئة بعيدًا عن صخب الحياة الحديثة. كانوا يجلسون على البُسط يشربون الشاي والقهوة ويتبادلون الأحاديث والضحكات، فذكّرونا بجلسات الألفة والبساطة التي تجمع الناس حول ذكرياتهم القديمة.
وفي الطريق، صادفنا رجلًا يجلس على بساط صغير يصلح شيئًا بيده، فظنناه صاحب مقهى، لكنه أخبرنا بأنه حارس القلعة، وقد اتخذ تلك الزاوية موضعًا لراحته. كما رأينا في أطراف القلعة مقهًى صغيرًا يرتاده السياح، ومعظمهم من الشباب الآسيويين، بعضهم حديثو الزواج، كانوا يلتقطون الصور بفرحٍ ظاهر ويستمتعون بجمال المكان مثلنا تمامًا.
ورغم استعجال المرشد لضيق الوقت، تمنّينا لو استطعنا البقاء أيامًا أكثر في ذلك المكان المفعم بالتاريخ والسكينة. إنه حقًا موقع يناسب الباحثين في التراث وعشّاق التاريخ، إذ تروي حجارة القلعة حكاياتٍ تعود إلى قرونٍ بعيدة.
أخبرنا المرشد أن أصل سكان سِيوَّة يعود إلى موجاتٍ من الهجرة جاءت من شمال غرب إفريقيا قبل آلاف السنين، وأن القلعة القديمة بُنيت قبل نحو ثمانمائة عام، وسكنها الناس حتى منتصف القرن الماضي. وبعد الحرب العالمية الثانية بدأ الأهالي الانتقال إلى أطراف الواحة، حيث شيّدوا البلدة الجديدة التي نراها اليوم.

ويبلغ عدد سكان سِيوَّة حاليًا نحو خمسة وأربعين ألف نسمة. ومن المرجّح أن دخول الإسلام إليها كان قبل نهاية القرن الأول الهجري، وفي عام 969م استولت الجيوش الفاطمية على الواحة.
تسكن سيوة قبائل من أصول أمازيغية، وتشير أغلب الدراسات إلى أن أصل الأمازيغ إفريقي. وترجّح الحفائر الأثرية أن الأمازيغ دخلوا مصر في العصر الفرعوني المتأخر وكونوا فيها أسرهم، وأطلق عليهم المصريون القدماء اسم «المشوش».
وقد حكموا مصر على يد زعيمهم «شيشنق الأول»، ثم سقط حكمهم مع مرور الزمن وانحصروا في واحة سيوة واحتفظوا بعاداتهم وتقاليدهم ولغتهم.
ولكل قبيلة شيوخ وعوائل وأفراد، والشيخ هو رأس القبيلة، ويكون من أكبرهم سنًّا ومن الميسورين وحسن الخلق، وفي الغالب تكون المشيخة متوارثة، أما عوائل القبيلة فهم أعضاء مجلسها ويُشترط أن يتمتعوا بحسن السيرة.
ويرجع تاريخ تأسيس مدينة شالي إلى عام 1203م، واسمها يعني المدينة في اللغة السيوية. كان للمدينة باب واحد فقط بغرض تحصينها، وسُمّي «أنشال» أي «باب المدينة». وفي الجهة الشمالية من سورها يوجد الجامع القديم، ثم فُتح باب ثانٍ في الجهة الجنوبية سُمّي «أترات» أي «الباب الجديد»، وكان يستخدمه من يرغب في تجنب المرور أمام رؤساء العائلات. لم يكن يعرف مكان هذا الباب إلا أهل سيوة أنفسهم، فكانوا يستعملونه سرًا في حالات الحصار.
وبما أن العادات السيوية كانت تمنع خروج النساء إلا في أضيق الحدود ودون اختلاطٍ بالرجال، فُتح باب ثالث خُصِّص لهنّ سُمّي «قدوحة»، ولم يكن يُسمح لهنّ بالخروج أو الدخول إلا عبره.

وفي عام 1820م دخلت قوات محمد علي باشا سِيوَّة وأخضعتها لسلطة الحكومة، فعمّ الأمان، وسمح مجلس الأجواد سنة 1826م للأهالي ببناء منازلهم خارج أسوار المدينة. لكن في عام 1926م هطلت أمطار غزيرة تسببت في انهيار عدد كبير من منازل القلعة وتصدّع الباقي، فهجرها السكان وانتقلوا إلى أسفل الجبل، حيث بنوا منازل جديدة شكّلت نواة البلدة الحديثة.
السوق الشعبي
بعد أن أنهينا جولتنا في القلعة التاريخية الجميلة، انحدرنا إلى أسفلها حيث يقع السوق الشعبي. كان السوق يعجّ بمعروضات كثيرة وجميلة، جميعها من منتجات البيئة المحلية. لفت انتباهنا تنوّع الصناعات اليدوية، من الملابس النسائية والرجالية وملابس الأطفال، إلى التحف والأواني المصنوعة من منتجات النخيل ورمال الصحراء السيوية. كما شاهدنا نماذج صغيرة لعرباتٍ وجمالٍ وخيولٍ مصنوعةٍ بمهارةٍ عالية من مواد طبيعية بسيطة.

حتى الأثاث كان مدهشًا في تصميمه؛ من كراسٍ وطاولاتٍ مصنوعة من جذوع النخيل وسعفه، أُنجزت كلها بأسلوبٍ يدوي جميل ومتين. استمتعنا بتأمل هذه المصنوعات واقتناء بعضها كهدايا تذكارية تعبّر عن روح المكان.
بعد ذلك، اتجهنا إلى متجرٍ يبيع المنتجات الغذائية المحلية، وكان من أبرز ما تذوقناه هناك الزيتون السيوي الشهير بجودته العالية ونكهته المميزة. أخبرنا صاحب المتجر أن سكان سيوة يعتمدون في غذائهم على التمر والزيتون بشكل أساسي، وهما من أهم محاصيل الواحة. تذوقنا الزيتون المحلي فوجدناه فعلًا من أجود الأنواع، فاشترينا منه كمياتٍ للاحتفاظ بها كتذكارٍ من الطعم والمكان.

ثم قدّم لنا صاحب المتجر أنواعًا مختلفة من المربّى، وكان أكثرها غرابةً وجمالًا في الطعم مربّى الباذنجان — وكانت تلك المرة الأولى التي نرى فيها هذا النوع، فوجدناه لذيذًا وشهيًا على نحوٍ غير متوقّع.
بعدها استعجلنا المرشد للانطلاق، فعُدنا إلى الحافلة. وخلال الطريق لاحظنا أن حركة المواصلات في سيوة بسيطة جدًا؛ فعدد السيارات قليل، بينما تنتشر عربات صغيرة تُعرف باسم «التوك توك»، وهي شبيهة بالدراجات النارية ذات المقصورة الصغيرة. المدهش أن بعض سائقيها من الأطفال، لا يتجاوز عمر الواحد منهم اثنتي عشرة سنة أو أقل، ومع ذلك يقودونها بمهارةٍ وابتسامةٍ بريئة تُدخل السرور إلى النفس.
 في شوارع سيوة لم نلمس أي توترٍ أو فوضى؛ فالناس هناك يتعاملون بأدبٍ واحترام، سواء مع الزائرين أو فيما بينهم. إنهم شعب ودود كريم الخلق، طيب المعشر، يتحدثون ببساطةٍ دون تكلف، ويعملون بهدوءٍ واجتهاد دون استعجال أو جشع.
في شوارع سيوة لم نلمس أي توترٍ أو فوضى؛ فالناس هناك يتعاملون بأدبٍ واحترام، سواء مع الزائرين أو فيما بينهم. إنهم شعب ودود كريم الخلق، طيب المعشر، يتحدثون ببساطةٍ دون تكلف، ويعملون بهدوءٍ واجتهاد دون استعجال أو جشع.
أكثر ما أعجبنا هو نظامهم واهتمامهم بالتفاصيل: من موظف الاستقبال في الفندق، إلى المرشد السياحي، إلى الباعة في السوق الذين يستقبلون الزائر بابتسامةٍ رقيقة دون إلحاحٍ أو إزعاج، ويتركون له حرية الاختيار في الشراء.
المدينة فسيحة وهادئة، تمتاز بانفتاحها وبساطتها، وكثير من بيوتها ومحالها تبدو للوهلة الأولى مهجورة، لكنها في الحقيقة مأهولة، وأهلها يمارسون أعمالهم بروحٍ من الرضا والطمأنينة. وتشبه سيوة في طرازها المدن العربية القديمة شرقًا وغربًا؛ فهي مدينة ذات طرقات ضيقة ومتعرجة، بُنيت لتحصين البيوت والدفاع عنها في الأزمنة الماضية.

كم أن سيوة ليست مدينةً مكتظة بالمباني العالية، فعماراتها منخفضة الارتفاع؛ نادرًا ما ترى فيها مبنى يتجاوز ثلاثة طوابق، ومعظم بيوتها من طابقٍ واحد أو اثنين، مما يمنحها طابعًا ريفيًا بسيطًا متناغمًا مع طبيعتها الهادئة وسكونها الصحراوي الجميل.
وللمعمار السيوي طابعٌ خاص ومميز؛ فالمنازل التقليدية تُبنى بحجر الكرشيف المكوَّن من خليطٍ من الملح والرمال الناعمة والطين، والذي يصبح بعد الجفاف صلبًا كالإسمنت. أما الأبواب والنوافذ فتُصنع من أخشاب شجر الزيتون والنخيل. وتُستخدم مادة الطفلة للصق الأحجار بعد خلطها بالرمال، مما يجعل البيوت منسجمة مع الجو القاري للمكان: دافئة في الشتاء ورطبة في الصيف.
 هذه الأبواب والنوافذ البسيظة المصنوعة من أخشاب الزيتون والنخيل تضفي جمالا وانسجامًا تامًّا مع البيئة الطبيعية للواحة. ويحرص أصحاب الفنادق الحديثة على الحفاظ على هذا الطابع التراثي في المفروشات والتصاميم الداخلية، فتبدو الغرف كأنها امتدادٌ أنيقٌ للبيئة السيوية الأصيلة.
 هذه الأبواب والنوافذ البسيظة المصنوعة من أخشاب الزيتون والنخيل تضفي جمالا وانسجامًا تامًّا مع البيئة الطبيعية للواحة. ويحرص أصحاب الفنادق الحديثة على الحفاظ على هذا الطابع التراثي في المفروشات والتصاميم الداخلية، فتبدو الغرف كأنها امتدادٌ أنيقٌ للبيئة السيوية الأصيلة.
غير أن البناء التقليدي أخذ يتراجع في السنوات الأخيرة مع ازدياد استخدام الخرسانة الحديثة، بسبب احتياج أبنية الكرشيف إلى صيانةٍ سنوية نتيجة ارتفاع منسوب المياه في الواحة.
متحف سِيوَّة
أُنشئ متحف سيوة في حديقة مجلس المدينة على مساحة ثلاثة أفدنة، وبُني على الطراز السيوي التقليدي باستخدام الطوب اللبن وجذوع النخيل. يجمع المتحف بين أرجائه تاريخ الحياة السيوية وتطورها عبر مراحل زمنية مختلفة، ويحتوي على العديد من المقتنيات التي تُعبّر عن التراث السيوي الأصيل، جمعت بجهودٍ ذاتية من أهالي الواحة.
ومن أبرز معروضاته: المجوهرات الفضية، الآلات الموسيقية، أزياء الأفراح، السلال، الأواني الفخارية، وأدوات الزراعة، وكلها تُجسّد حياة الإنسان السيوي بكل تفاصيلها اليومية.
ولا يخضع المتحف لإشراف وزارة الثقافة، بل يشرف عليه مجلس مدينة سيوة، وتتولى الإشراف الفني عليه لجنةٌ مكوَّنة من شيوخ القبائل وعددٍ من أبناء سيوة الجامعيين. ويموّل المتحف نفسه من خلال رسم الدخول الذي يُفرض على الزوار.
فطناس
بعد زيارتنا للسوق المحلي في سِيوَّة، ركبنا الحافلة متجهين إلى منطقة تُسمّى فُطناس، تبعد نحو ست كيلومترات غرب سيوة، وهي من الأماكن التي يحرص السائحون على زيارتها، إذ تُعد من أجمل المناطق الطبيعية في الواحة، وبخاصةٍ لمشاهدة غروب الشمس، وهو ما كان هدفنا الأساسي من زيارتها.

تحيط بفطناس من ثلاث جهات إحدى البحيرات المالحة الكبيرة، وتنبع فيها عينٌ للمياه العذبة، وتنتشر حولها أشجار النخيل والزيتون. وإلى الغرب منها يقع جبل جعفر، أحد أشهر جبال سيوة، حيث يتجمع السائحون عند ضفاف شبه الجزيرة الصغيرة ليستمتعوا بمشهد الغروب البديع.
استغرقت رحلتنا من وسط المدينة إلى مدخل المنتزه البحري نحو عشر إلى خمس عشرة دقيقة. كان السائق يقود بمهارة على طرق ضيقة جدًا، تحفّها من الجانبين قنوات مياه وبحيرات ضحلة، ومع ذلك كان يقود بثقة واحتراف لافتين.
عند وصولنا إلى المدخل، ترجّلنا من الحافلة وسرنا حتى البوابة التي تعلوها لافتة كبيرة كُتب عليها: “منتزه فطناس”. من هناك بدأنا التجوال في المكان، فمررنا بعينٍ طبيعية دائرية الشكل تحيط بها جلسات حجرية منظمة، تشبه في طرازها العيون القديمة في القطيف التي كانت تنتشر قديمًا قبل أن تندثر. قال أحد الزملاء إن عمق هذه العين لا يتجاوز ثلاثة أمتار، وماؤها صافٍ رقراق.

واصلنا السير حتى وصلنا إلى الساحة المطلة على البحيرة، حيث تجمع الناس استعدادًا لمشاهدة غروب الشمس.
جلسنا هناك في مقهى مطلّ على البحيرة، وقد ازدحم بالمصطافين؛ بعضنا جلس على المقاعد الخشبية، وآخرون افترشوا الأرض في جلسة عربية بسيطة. تبادلنا الأحاديث والتقطنا الصور، والعيون شاخصة نحو الأفق الغربي تتابع القرص الذهبي وهو يهبط ببطء نحو خط الماء.
تذوقنا عصائر محلية لذيذة — من المانجو بالريحان والنعناع والجوافة — ونحن نتابع المشهد المهيب:
بدأت الشمس تتوارى شيئًا فشيئًا خلف الأفق، وحول قرصها تشكّلت هالة شفافة تميل إلى السواد الخفيف، فيما راحت ألوان السماء تتبدّل في لوحةٍ عجيبةٍ من البرتقالي والأصفر والأحمر والأبيض، تمتزج وتتدرج والضوء يخفت شيئًا فشيئًا.

ومع آخر لحظة من الغروب، غمر الصمت المكان، ثم انطلقت فرحة الناس — لا أدري أهي فرحة بجمال المنظر أم بحضورهم تلك اللحظة العابرة من عمر النهار. ربما هي بهجة الإنسان أمام دورة الحياة المستمرة؛ فكل مغيب يحمل وعدًا بميلاد فجر جديد. وكأن الشمس — بعد غسق الشفق — تعود لتتنفس الفجر مبتهجةً بإشراقة يومٍ جديدٍ يمنح الحياة ديمومتها بمشيئة الله.
بعد الغروب نهضنا متجهين نحو الحافلة، ونحن في غاية السرور، نتبادل الأحاديث ونتأمل روعة المشهد الذي غمرنا ببهائه وهدوئه.
قال أحد الزملاء إن في مشاهدة الغروب أو الشروق صفاءً للنفس وتجددًا للروح، وقد يكون ذلك صحيحًا؛ فهذه اللحظات الكونية تفتح في داخل الإنسان نافذةً نحو خالقه، وتدعوه إلى التأمل والسكينة. إن الجمال في مثل هذه المشاهد له أثر عميق في النفس، لأنه يذكّر الإنسان بوجوده ومعناه في هذا الكون الفسيح.
واصلنا السير، وفي الطريق رأينا كيف تلتقي اليابسة بالبحر في عناقٍ صامتٍ وساحر. على أطراف الشاطئ انتصبت نخيل شامخة تُطل على الماء كأنها تناجي البحر فيهمس لها بصوت أمواجه الهادئة. كانت البحيرة رقراقة ساكنة، بلا أمواج، يلفّها سكونٌ يبعث الطمأنينة في النفس.

تلك المناظر أعادت إلى ذاكرتي سحر القطيف في ستينات القرن الماضي، حين كانت النخيل هناك تقف شامخة على ضفاف البحر كأنها تخاطبه قائلة: “منك اللؤلؤ والمرجان، ومني الرطب والسعف والبنيان”.
يا لها من نعمةٍ مزدوجةٍ — نعمة البحر ونعمة النخيل — جمعت بين الخصب والعطاء والجمال. كم أعشق هذا التراث، وكم أعتز بهذه الثقافة التي تربط الإنسان بأرضه ومائه وشجره.
وهكذا، عندما رأيت سيوة، شعرت بأن بين سيوة والقطيف وشيجةً عميقةً من الذاكرة والماء والنخيل؛ كلاهما يروي حكاية الإنسان الذي عاش بين الصحراء والبحر، فجمع بين القسوة والعذوبة، وبين الجدب والخصب في آنٍ واحد.
عدنا إلى الفندق متعبين أشد التعب، فقد امتد بنا الوقت أكثر من سبع عشرة ساعة متواصلة بلا نوم تقريبًا. كان همّنا الأول هو الراحة، غفوة قصيرة تزيح عنّا تعب الجسد وترمّم أطرافنا المنهكة.
كنّا قد تناولنا آخر وجبة لنا في القاهرة قبل السفر عند الرابعة مساءً، ثم واصلنا الطريق حتى وصلنا إلى سيوة دون طعام يُذكر. حتى في الاستراحات لم تكن لنا رغبة في الأكل، إذ يسبب الطعام أثناء السفر أحيانًا اضطرابًا في المعدة، خاصةً في الليل.
عند الفجر، جاءنا منسّق الرحلة بصندوق الإفطار الورقي، وقد كنا نأمل أن نجد فيه شيئًا مشبعًا. فتحناه فوجدناه يحوي كرواسون وكعكًا وعلبة عصير وسندويشات بالنقانق واللحم المجفف. لم تكن مما نشتهيه، فاكتفينا بالكرواسون الجاف والكعك، وشربتُ كوبًا من القهوة الأمريكية بالحليب. وهكذا مضى يومنا الأول في سيوة على الجوع والتعب والجمال في آنٍ واحد.
وحين عدنا إلى الفندق بعد المغيب، توجهنا مباشرة إلى مطعم الفندق دون أن نذهب إلى غرفنا.
كان المشهد رائعًا؛ جلسنا إلى طاولاتنا والعمال يستقبلوننا بابتسامة وترحيب. جاء الطعام منظمًا وجميل التقديم: طبق من السلطة، وآخر من الشمندر، وثالث من الطحينية، مع أطباق خضار وملوخية لذيذة وخبز محمّر طازج. ثم جاء الطبق الرئيسي: رز وخضار ودجاج بلدي مطهو بطريقة تشبه تمامًا ما كانت تطبخه لنا أمي — رحمها الله — في صبانا. غمرتنا الذكرى والامتنان، وشعرنا أن هذه الوجبة كانت مكافأة لنا بعد عناء اليوم الطويل.

كان المطعم على تلة مرتفعة تحيط بها السواقي والمساحات الخضراء، فكنّا نأكل ونستمتع بصوت الماء ونسيم الليل وضحكات رفقاء الرحلة ودندنتهم الخافتة، وهم مبتهجون بالمكان وفعاليات اليوم الأول من الرحلة.
وفجأة انقطعت الكهرباء! لكن الحظ حالفنا، إذ كنا قد أوشكنا على إنهاء طعامنا. ساد المكان ظلام هادئ جميل، وظهرت النجوم اللامعة في سماء سيوة تبدو قريبة كأنها تنادينا وتؤنسنا بنورها المتلألئ. قلنا ونحن نتأملها: “أين هذه النجوم من مدننا اليوم؟ لقد غابت عنّا خلف أضواء الكهرباء وضجيج الحياة، ولم تعد تُرى إلا في الصحراء”.
[حقًا، ما أجمل سيوة بنجومها وهدوئها وصفاء ليلها].
ثم ما لبثت الكهرباء أن عادت، فأضاء المكان، وعدنا إلى غرفنا. وبعد استحمامٍ قصيرٍ غمرنا النوم العميق حتى الصباح.

قريبا (الجزء الثاني)….2….
 علوم القطيف مقالات علمية في شتى المجالات العلمية
علوم القطيف مقالات علمية في شتى المجالات العلمية
				 
		
ما شاء الله سرد جميل ممتع واندمجت مع الطرح والوصف وكاني معكم في،الرحلة
شكرا لك ابوحسن
أشكرك جزيل الشكر يابو حسن على مقالك الجميل والمحفز، فقد كان السرد ممتعًا وموفقًا في نقل ملامح مدينة سيوة المصرية، وما تحمله من تشابه في الروح والعمق مع القطيف، بقلعتها العريقة وتفاصيل حياتها اليومية.
لقد كانت كلماتك بمثابة توثيق حيّ لمدينة تنبض بالأصالة والجمال، وسردك أعادنا إلى زمنٍ تتلاقى فيه المدن عبر التاريخ والثقافة.
كل التقدير لهذا الجهد الذي يحمل محبة للمكان وأهله، ويجعلنا نُعيد اكتشاف ذاكرتنا الجمعية من خلاله. تحياتي