هل تبحث عن فرصة عمل؟ – بقلم د. عبد الجليل عبد الله الخليفه

عند قراءة هذا العنوان يتبادر الى ذهن القارئ مباشرةً البحث بسرعةٍ فائقةٍ عن قائمة بفرصٍ وظيفية في شركاتٍ ومؤسساتٍ ذوات رواتب وعوائد مجزية تستحق أن يشاركها الفرد مع بعض الخريجين والخريجات، هذا مثالٌ على التفكير المادي السريع الذي خطف الذهن البشري في السنوات الأخيرة،،،

والحقيقة أن هذا هو الطابع العام على البشر منذ بدء الخليقة، فالإنسان عجولٌ يهتم بظواهر الأمور دون أن يغوص عميقًا في محتوياتها، غير أنّه أزداد سوءًا في السنوات الأخيرة نتيجة التدفق المعلوماتي الهائل عبر وسائل التواصل.

وحين نعرف أن المستقبل مرهونٌ بطرق التفكير الحالية، فالتفكير هو أساس القرارات ومنبع الإرادات، يتبين لنا أهمية معرفة طرق التفكير وأثرها على كل جوانب حياتنا ومنها فرص العمل وتحدياته.

أنواع التفكير:
حين تعرض الى ذهن الإنسان فكرةٌ معينةٌ او يرى منظرًا معينًا او يسمع خبرًا ما، فمن الطبيعي أن يأخذ الأمور على ظواهرها ويحسب أثرها المادي السريع أوّلًا، لكن هنا يوجد خياران:
• أن يقفز الذهن الى صنع قرارٍ والتصرف بناءً عليه وهذا هو التفكير المادي السريع،
• أن يتريث الفرد ويبحث عن بواطن الأمور الغير محسوسة وأثرها البعيد الغير سريع ثم يصنع قراره وهذا هو التفكير الحكيم.

وهنا نضرب أمثلةً من واقع الحياة على هذين النوعين من التفكير:
• عند تقييم أيّ شركةٍ او مؤسسة، يركز التفكير المادي السريع فقط على الأصول المادية التي نحس بها مثل المباني والأجهزة والمخزون، أما التفكير الحكيم فيحسب أيضًا الأصول الغير مادية او الغير محسوسة مثل السمعة والثقة والعملاء والقوة الناعمة وهذا ما يسمى العلامة التجارية والتي قد تصل قيمتها الى عشرات البلايين من الدولارات. لذا فإن السوق اليوم لا يمكن أن يغفل قيمة الأمور الغير محسوسة لأنها قد تمثل أكثر من نصف قيمة الشركة خاصةً في الشركات التقنية والمعلوماتية،

• عند تعيين أيّ رئيسٍ لشركة او مديرٍ لمؤسسة، يركز التفكير المادي السريع على كفاءته الإدارية وخبرته الفنية فقط، بينما يشمل التفكير الحكيم الى جانب ذلك استقامته ومصداقيته وقدرته على إدارة الأزمات وصناعة القرارات المصيرية وهذا هو العامل المهم في تعيين المناصب المهمة جدًا،

• عند النظر الى الحضارة الغربية، يشتغل التفكير المادي السريع بالقوة المادية الخشنة المحسوسة مثل الاقتصاد بينما يشمل التفكير الحكيم القوة الناعمة الغير مادية والغير محسوسة مباشرةً مثل وسائل الهندسة الثقافية كالدعاية وأفلام الهوليوود وغيرهم،

• عند التفكير في الزواج، يظن البعض بتفكيرهم المادي السريع أن الزواج يلبي حاجةً غريزيةً بحتةً وينجب أطفالًا فقط فهو ينتهي عند أوّل خلافٍ فكري او تحدي مادي، بينما يعتقد التفكير الحكيم بحق أنّ الزوجين روحٌ واحدةٌ في جسدين يجمعهما مستقبلٌ واحدٌ فهما يعملان يدًا بيد على تذليل صعوبات المستقبل وحل الخلافات العارضة وبناء أسرةٍ ترفرف عليها روح المودة والرحمة والسعادة والطمأنينة،

• عند أداء أيّ عبادة، ينشغل التفكير المادي السريع بالطقوس والحركات الجسدية التي تؤدي الواجب الشرعي، بينما ينطلق التفكير الحكيم في آفاقٍ واسعةٍ من التأمل والتسامي الروحي وخدمة الخلق وهذا ما يمثل روح العبادة وجوانبها الغير محسوسة،

• عند عقد أيّ علاقة صداقة او زمالة مع فردٍ آخر، يكون همّ التفكير المادي السريع الفائدة المادية الأنانية من الطرف الآخر فإن لم تتوفر، لا يهتم بهذه العلاقة ولا يوطّدها، بينما يرى التفكير الحكيم في هذه العلاقة بابًا ينفتح على مئات الفرص المادية والمعنوية التي تمتد الى عشرات السنين فهو المبادر الى توثيق العلاقة مهما ازدادت المشاغل،

• عند النظر الى أيّ فرصة عملٍ متاحة، يسرع التفكير المادي الى الحكم عليها بالفوائد المادية السريعة فما هي الوظيفة وكم هو الراتب وأين مكان العمل وغير ذلك من الأمور المادية المهمة فهو يقبل الوظيفة او ينتقل من وظيفته الى وظيفةٍ أخرى بناءً على هذه الأمور المادية المحسوسة، أما التفكير الحكيم فلا يغفل هذه الأمور بل يدرسها جيدًا لكن يضيف اليها الجوانب الغير مادية والغير محسوسة، مثل:

o بيئة العمل وشخصية المسؤول الذي سيتعامل معه هذا الموظف، هل هي إنسانية او مادية بحتة،
o الفرص الغير مادية التي توفرها الوظيفة الجديدة مثل التعرف على مجتمعٍ جديد، العيش في مدينةٍ أخرى، الاطلاع على خبراتٍ جديدة، الانفتاح على موردين وعملاء جدد، الأثر الاجتماعي والإنساني الذي يحققه العمل الجديد،
o المستقبل الوظيفي بعد خمس او عشر سنوات، فهل هناك تدرّج وظيفي وهل هذه الوظيفة تنفتح على فرص أعمالٍ حرة، وهل تشمل خدمةً اجتماعية وغير ذلك.


التفكير الحكيم ورجال الأعمال:

يمكن استثمار الأموال في جوانب عديدة تعكس نوع تفكير رجل الأعمال، فالتفكير المادي السريع يحتم على المستثمر البحث عن فوائد ماديةٍ سريعةٍ ومأمونة من أمثلة ودائع البنوك والاستثمار العقاري، بينما يرى التفكير الحكيم أنّ الاستثمار يجب أن يكون متوازنًا فمنه المأمون قصير المدى ومنه التجاري والصناعي والتقني البعيد المدى الذي يوفر فرص عملٍ للجيل الجديد وينطلق عالميًا ليؤسّس شركاتٍ تحمل بصمة هذا الوطن العزيز وطموح أبنائه وبناته.

وخير مثالٍ على ذلك الحاج عبدالله المطرود رحمه الله الذي أسس قبل ستين عامًا تقريبًا أولّ مغسلة آلية وأوّل مخبز آلي ومصنع ألبان وأوّل دار رعاية لكبار السن مع زملائه ومحبيه، وتبقى جمعية سيهات الخيرية مثالًا ناصعًا يجسّد أعمال الحاج وطموحاته العظيمة.

وكذلك الحاج طاهر الجنوبي رحمه الله الذي أسّس قبل ثمانين عامًا أوّل مصنع طابوق في الأحساء وبعدها اسّس مصنع مياه الشفاء الذي وفّر مئات الفرص الوظيفية. وهناك الكثير من رجال هذا الوطن من عوائل الجبر و الموسى و غيرهم في الأحساء و آخرون أعزاء في مدن هذا الوطن و أريافه الذين أسسوا أعمالهم الحرة فنمت و أثمرت الآلاف من الفرص الوظيفية.

التفكير الحكيم وخيارات المستقبل الوظيفي:

العمل جزءٌ مهمٌ من كينونة الإنسان فبه يتمكن من توفير لقمة العيش والمسكن والملبس والصحة والتعليم، وبالعمل تتأصل ثقته بكيانه ووجوده ويمارس دوره في بناء مجتمعه وتنمية وطنه. ولذلك يبدأ التفكير في العمل قبل تحديد التخصص الدراسي أي في سنٍ مبكرةٍ وقبل الالتحاق بالدراسة الجامعية وبما يتناسب مع ميوله الذهنية ومواهبه الفنية وطموحه المستقبلي.

وهنا أودّ أن أذكر كيف أن التفكير الحكيم يفتح آفاقًا غير ملموسة على الجانب الوظيفي:
• الوظيفة نعمةٌ عظيمةٌ يجب أن يحافظ عليها الفرد مهما كانت بعيدة المكان او ظروفها قاسية فكلّ خطوةٍ يخطوها الى عمله ولو كان في مدينةٍ بعيدة هي خطوةٌ تقربه الى الرحمة وكلّ حركةٍ يؤديها في عمله يكسب بها منزلةً عظيمةً، لذا يجب أن يكون فيها المثال الرائع في الجدّ والإخلاص. والوظيفة بابٌ ينفتح على خيراتٍ عظيمةٍ فهي تثري كفاءته وتوثّق علاقته بمديره وعملائه وزملائه ويخدم بها مجتمعه وينمي بها وطنه ويكسب منها خبرةً قد تفتح له بابًا الى أعمالٍ حرةٍ في المستقبل،
• الشهادة مفتاحٌ للعمل وليس من الضرورة أن يعمل الإنسان في مجال دراسته او تخصصه، بل لعلّ عمله خارج تخصصه يثري مهاراته ويدله على فرصٍ عظيمةٍ يخبئها له القدر المكتوب،
• تتعرض الأسواق والشركات الى موجاتٍ من التوسع والانكماش وهكذا سوق العمل، فحين يعمل الفرد يجب أن يخطط لمستقبلٍ مفتوحٍ على كل الاحتمالات فلا يحمّل نفسه قروضًا مرهقةً او يسرف في مصروفاته، بل يجب أن يضع في حسبانه تدبير شؤونه لو خسر وظيفته الحالية والى حين حصوله على وظيفةٍ أخرى،
• حين لا يحصل الفرد على وظيفةٍ، يقف بين خيار الإحباط او خيار الأمل والطموح، فقد ييأس ويبقى يراوح مكانه في انتظارٍ طويل، والأفضل له أن يسعى للمستقبل بنفسٍ مطمئنةٍ فيختار أن يواصل دراسته الى مراحل أعلى، أو أن يلتحق بدوراتٍ تأهيلية تمكنه من تجسير دراسته السابقة الى تخصصٍ آخر تتوفر له فرص عملٍ مناسبة،
• المهارات والحرف الفنية والتسويق الالكتروني والأعمال الحرة حتى لو كانت بسيطة مجالٌ مفتوحٌ قد يفتح أبوابًا واسعةً من الرزق في المستقبل المنظور.

قبل النهاية:
إنّ سرعة وتيرة الحياة وتدافع المصالح والتدفق الثقافي الغربي عبر وسائل التواصل يدفع لا شعوريا الى التفكير المادي السريع الذي يؤثر سلبًا على قرارات الفرد وخياراته في التخصص والمستقبل الوظيفي ونوع الاستثمار، وقد يسبب له قرارات مؤسفة في حياته الزوجية والاجتماعية وتجعله حبيس قراراته المادية البحتة.

[لذا يجب على الفرد في هذه الأجواء السريعة أن يدرّب نفسه على التفكير الحكيم البعيد المدى في كلّ جوانب حياته الأسرية والاجتماعية والعبادية والاقتصادية والوظيفية، مما يعطي لحياته طعمًا خاصًا وطمأنينةً غامرة وسعادةً عامرة وعيشًا رغيدًا وفرصًا واعدةً].

هذا التفكير الحكيم يحقق لرجال الأعمال هدفهم الاستثماري مثل تأسيس شركات رائدة تنافس على مستوى العالم، ويوفر للأبناء والبنات فرص عملٍ مثمرة وآفاقًا مستقبليةً واعدةً، والحمد لله ربّ العالمين.

د. عبدالجليل الخليفه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *