الطنطل من اساطير المخيّلة القطيفية الشعبية القديمة – بقلم صادق علي القطري

لم يكن “الطنطل” مجرّد كائن أسطوري يُروى في الليالي القروية، بل كان تمثّلًا حيًّا لرهبةٍ قديمة تسكن الوجدان الجمعي لأهالي القطيف؛ رهبةٍ نحتتها الصحراء، ونفخت فيها العزلة روحًا هائمة، فخرج منها هذا العملاق الذي لا يُرى كاملًا، ولا يُدرك إلا بوصفه ظلًا طويلاً يتهادى بين كثبان الرمال.

إنه الكائن الذي لا يُمسك، ولا يتحدّث، ولا يترك أثرًا إلا في الخيال، لكنه كان حاضرًا بما يكفي ليُحدّد سلوك الناس، ويضبط خطوات المسافر، ويُعيد تشكيل معنى الليل والصحراء في ذاكرتهم.

الصحراء كأصل للحكاية
في القطيف القديمة، قبل الكهرباء، وقبل أن تُروّض المدينة ظلامها، كانت الصحراء أقرب إلى عالمٍ غيبيّ يعيش على أطراف الحاضرة. هناك، في الامتداد الموحش، يتوارى الضوء وتتعاظم الأصوات، وتصبح كل حركةٍ مجهولة دافعًا لصناعة أسطورة. من رحم ذلك الفراغ خرج “الطنطل”, خرج ليكون صورة مكثفة للخوف الذي لا يُسمّى، وللغريب الذي يقترب دون أن يُعرف، وللظل الذي يطول حتى يتجاوز قدرة العين على تفسيره.

هيئة الكائن عملاق بلا ملامح
يُصوَّر الطنطل في الرواية القطيفية على أنه عملاق هائل الطول، لا تُرى ملامحه بوضوح، وكأن الرمال تصنعه ثم تبتلعه متى شاءت. لم يُقدَّم يومًا كشخص، ولا كجنّيّ واضح الملامح، بل كـهيكل طيفيّ يشبه العمود المتحرك، أو شبحًا مُفرط الطول ينصبّ في عتمة الليل كما لو أنه جزء من السماء انحنى إلى الأرض. هذا الغموض المتعمّد ليس جزءًا من الخيال الشعبي فقط، بل هو عنصر رمزي يعكس عجز الإنسان القديم عن تفسير الظواهر البعيدة. فالملامح تُقرّب، أمّا غيابها فيُبقي المسافة شاهقة، ويُطلق الخوف حرًّا بلا حدود.

سلوكه مطاردة لا تُفضي إلى فتك
على عكس كثير من الكائنات الأسطورية العربية التي تُعرف بالافتراس، لم يكن الطنطل قاتلًا بالضرورة. لكنه كان ملاحقًا لا يرحم. يظهر للمسافر المنفرد، خصوصًا من يقطع البرّ ليلًا، ويجعله يعيش رعبًا كافيًا لإفقاد العقل اتزانه. فمجرد رؤيته، كما ورد في الحكايات، قد تُسبب الجنون أو الانهيار، وقد يُعثر على المسافر في الصباح تائهًا أو فاقد الوعي، دون جرحٍ ظاهر. كانت الفكرة أن الطنطل لا يقتلك بجسده، بل بخوفك.

الطنطل كمرآة للخوف الجمعي
في التحليل الرمزي، يظهر الطنطل بوصفه انعكاسًا للقلق الوجودي الذي يسكن الإنسان حين يقف أمام المجهول. فالقطيف، رغم أنها واحة بحرية زراعية، كانت تُعاني من تماسٍ دائم مع الصحراء، ومع طرق السفر التي تعبر البراري المظلمة نحو الأحساء أو البادية أو الهجر القديمة. وهذا الاحتكاك ولّد خوفًا متجددًا من:
• السفر ليلًا
• العزلة
• الغياب الطويل
• المسارات التي لا علامات فيها
• الظلال التي تصنعها النار أو القمر على الرمال
وكان الطنطل تجسيدًا لكل ذلك. وأسطورةٌ تُشكِّل الخوف وتُعطيه اسمًا، حتى لا يبقى هائمًا بلا هيئة.

الطنطل والوجدان القطيفي لماذا ترسّخ؟
ما يميّز الحكاية القطيفية أن الطنطل لم يكن جزءًا من “القصص للتسلية”، بل كان حاضرًا في:
• نصائح الآباء لأبنائهم بعدم السفر ليلًا
• حكايات النساء حول المواقد
• قصص الصيادين العائدين من البرّ
• أساطير البادية التي انتقلت عبر طرق التجارة
كما ساهمت طبيعة المكان في ترسيخ الأسطورة. فالقطيف قديمًا كانت محاطة بأرضٍ مفتوحة تمتد شمالًا نحو برّ الدمام والجبيل، وغربًا نحو الظهران والصمان. هذه المساحات صنعت تصوّرًا بأن “شيئًا” يتحرك فيها، شيئًا أطول من أن يكون بشرًا، وأكثر هدوءًا من أن تكون حيوانًا.

بين الخيال والحماية الوظيفة غير المعلنة للطنطل
الأسطورة ليست مجرد خوف، إنها أيضًا وسيلة ضبط اجتماعي. لقد منحت القطيفيين سببًا واضحًا لعدم التجوال ليلًا في البراري أو الاقتراب من أماكن خطرة. فوجود كائن أسطوري يطاردك كان أسلوبًا شعبيًا لحماية:
• المسافرين من الضياع،
• الأطفال من مغادرة القرى بمفردهم،
• النساء من الابتعاد في الليالي المظلمة،
• القوافل من المخاطرة بسلوك طرق مجهولة.
• الطنطل كان “الحدّ الخفي” الذي يحرس المجتمع قديمًا.

الطنطل بين الحقيقة والرمز
اليوم، نقرأ الحكاية بوصفها جزءًا من التراث السردي القطيفي، لكنها تبقى أكثر من مجرد قصة. إنها وثيقة نفسية عن مجتمع كان يتفاعل مع المكان بكل خشوع. وكان يرى في الصحراء معنًى أكبر من الجغرافيا؛ كان يرى فيها امتحانًا للإنسان، ومعبرًا بين العالم المرئي وعالم الخفاء. ومن هنا، يصبح الطنطل استعارة لرهبة المجهول، ولتلك اللحظة التي يواجه فيها الإنسان ضعفَه أمام اتساعٍ لا يمكن الإمساك به.

لماذا يستحق الطنطل إعادة القراءة اليوم؟
لأن الأسطورة ليست مجرد ماضٍ. بل هي مرآة للخيال، وفهمها يعني فهم الإنسان الذي صنعها. وعندما ننظر إلى الطنطل في سياقه القطيفي، فإننا لا نرى كائنًا مخيفًا فقط، بل نرى:
• علاقة الإنسان بالمكان
• خوفه من الانفراد
• صراعه مع الليل
• حاجته إلى تفسير العالم
• ورغبته في تحويل الخوف إلى حكاية قابلة للسيطرة.

وفي الختام:
الطنطل، بما يحمله من غموض وهيبة، ليس كائنًا خرافيًا فحسب، بل هو ظلّ الإنسان نفسه حين يواجه فضاءً أوسع من طاقته على الفهم. هو خوفٌ منسوج من رمال الصحراء، وامتداد الليل، وصمت البراري التي لا تضمّ أحدًا. وفي المخيّلة القطيفية، بقي الطنطل شاهدًا على زمن كان فيه الظلام عالمًا كاملًا، وكان الخيال يحرس الحقيقة من الانهيار.

المهندس صادق علي القطري

تعليق واحد

  1. ‫فياض العمران‬‎

    سردية جميلة وممتعة وتوصيف جداً رائع لشخصية الطنطل الاسطورية
    مع إن هذه المفردة كانت تعني لي( في قاموسي) تسمية للشخص الطويل فقط واليوم يبين لنا الأستاذ أبى حسام بهذا التوصيف الجميل لهذه الأسطورة.. لكم كل الشكر والتقدير عزيزي أبى حسام👍🌹👌

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *