بين سيوة والقطيف وشيجةً عميقةً من الذاكرة والماء والنخيل (الجزء الثاني) – بقلم علي الجشي

بين سيوة والقطيف وشيجةً عميقةً من الذاكرة والماء والنخيل
سفرة سِيوَّة (١٥ إلى ٢١ اكتوبر ٢٠٢٥)
[(2) اليوم الثالث والرابع]

{ اليوم الثالث: عين كليوباترا والعشاء في ساحتها }

في اليوم التالي، استيقظنا على فطورٍ شهيٍّ لا يقل جمالًا عن عشاء الأمس: مائدة عامرة بالفلافل والخضروات والفلفل الحار والطماطم المقطعة والجبن والبطاطس، وبيض مسلوق لكل ضيف، مع الزبادي والموز والفول الساخن المزيَّن بالليمون والزيتون.

كان الفطور لذيذًا ومغذيًا حتى إنني تناولت حصة زميلي من الفول لأنه لا يحبه — ولا أدري كيف يمكن لأحد ألا يحب هذا الطبق الشعبي الأصيل! ، أما أنا، فلم أكن أرغب في تناول طبق قصب السكر الممزوج بالطحينية، فتناوله أحد الزملاء ضاحكًا وقال: “هذا ممتاز للحلق وبحة الصوت!”.

لقد كانت وجبة الإفطار تلك من أشهى الوجبات التي ذقتها منذ زمن في الفنادق التي نرتادها، واختُتم صباحنا بحمدٍ وشكرٍ لله على الخير الوفير، استعدادًا ليومٍ جديدٍ في هذه الرحلة المباركة.

عين كليوباترا:

بعد الإفطار أخذنا استراحة قصيرة، بينما انشغل الفنانون التشكيليون برسم لوحاتهم التي عبّرت معظمها عن مظاهر الحياة في سيوة، وعن طبيعتها الزراعية والجبلية والمائية. فهذا رسّام يرسم سواحل البحيرة في الواحة، وآخر يصوّر مسجدًا بديع البناء يجمع في طرازه بين المعمار الإسلامي والمغربي، وذاك يرسم جبلًا تعلوه منازل قديمة، وآخر يصوّر عين ماءٍ تجري مياهها لتسقي المزارع وتخدم الناس.

وهناك من رسم نخيلًا مثمرًا تتدلّى منه عذوق الرطب بألوانها البديعة، وآخر رسم فلاحًا يحرث أرضه، وبنّاءً يشيد عمارةً يسكنها الناس، وصبيًا يساعد والده في الدكان ينظمه ويرتبه.


كما رسم بعضهم عرباتٍ يجرّها الحمار، وآخرون عرباتٍ صغيرةً يحرّكها الموتوسيكل، وغيرهم صوّروا سيارات نقلٍ تحمل منتجات زراعية متجهة إلى السوق للتسويق.

وبعد أداء صلاة الجمعة، اجتمع المشاركون في الرحلة وركبوا الحافلة متجهين إلى منطقة جميلة تُسمّى عين كليوباترا.

سار الباص عبر الواحة مخترقًا بساتينها الغنّاء حتى وصل إلى ساحة فيها دكاكين تبيع الهدايا والمنتوجات المحلية من أطعمة ومنتوجات حرفية.

وفي ساحة قريبة من السوق كانت سيارات النقل تنتظر لتحميل البضائع ونقلها إلى وجهاتها.
واصلنا السير متجهين إلى منتزه كليوباترا، وعلى الطريق شاهدنا المحالّ التجارية البسيطة مفتوحة الأبواب، وأصحابها منهمكون في أعمالهم؛ بعضهم يبيع، وبعضهم ينظم البضائع، وبعضهم يخدم الزبائن بابتسامةٍ ورضا.

وبعد أن ابتعدنا عن مركز المدينة، دخلنا وسط مزارع النخيل، حيث الأشجار الشاهقة المنتظمة.
ويبدو أن المنطقة المؤدية إلى عين كليوباترا من أجمل مناطق سيوة، بما تزخر به من مزارع مثمرة ومياهٍ غزيرةٍ عذبة، وقد حظيت باهتمام المزارعين وعنايتهم المستمرة.

سارت الحافلة بسرعة خفيفة نحو نصف ساعة حتى وصلنا إلى ساحة كليوباترا، حيث العين المشهورة، وحولها متنزّهات كثيرة تقدّم المشروبات والمأكولات. وهي من أشهر الأماكن التي يقصدها السياح القادمين إلى الواحة وأجملها.

وتشبه هذه العين، شأنها شأن غيرها من عيون سيوة، عيون السيح في القطيف والأحساء. وهي عبارة عن حوض سباحة دائري عميق، بُنيت جدرانه من الحجر وبه دكّة بطول محيطه تسمح للسباحين بالجلوس والاسترخاء.

إن تصميم عيون سيوة يطابق تمامًا مثيله في عيون القطيف التي رُدم معظمها، ويُقال إن الملكة المصرية كليوباترا سبحت فيها خلال زيارتها لسيوة، فسُمّيت هذه العين باسمها — والله أعلم بذلك. وربما يكون ذلك من باب كسب الشهرة، حيث إن البعض يقول إن هذه القصة لم تحدث من الأساس.

نزل بعض الإخوة وسبحوا في العين واستمتعوا بالماء الدافئ، ويُقال إن مياهها كبريتية نافعة.
غير أن بعضنا امتنع عن السباحة بسبب وجود شوائب بسيطة في الماء، لكنّ كثيرًا من الزوّار، ومنهم أجانب، كانوا يسبحون فيها بفرحٍ واطمئنان.

بعد جولة بين أشجار الزيتون والليمون، حلّ وقت العشاء. صعدنا إلى الدور الثاني من أحد المطاعم، وجلسنا في مكان مريح يطل على عين كليوباترا من جهة، وعلى البساتين من الجهة الأخرى.
قدّموا لنا وجبةً شهية كانت تتكوّن من ثلاثة أطباق رئيسية: لحم الضأن، والبط، والدجاج، ومعها مقبّلات من السلطة، وشوربة الكوارع، والخضار المطبوخة، وخبز التنور العربي، والحمص، وقنينة ماء لكل شخص.

كانت الوجبة لذيذة، وكلٌّ منّا أثنى على ما اختاره؛ فمن أكل اللحم قال إنه ممتاز، ومن تناول البط قال إنه لذيذ، ومن أكل الدجاج وصفه بالخفة. وللمطبخ السيوي أكلاته المميزة مثل «السلق» و«المخمخ» و«أبو مقدم».

بعد العشاء قُدّم الشاي والقهوة للضيوف، وكان الجو رائعًا والهواء نقيًّا عليلًا. ويسمى الشاي السيوي «شاي زردة». وفي تلك الليلة احتفلنا بعيد ميلاد أحد المشاركين، فكانت أجواء الفرح والمودّة تملأ المكان.

وعندما أقبل الليل، سمعنا صوت أبي جنيدب – ذلك الحيوان الصغير الذي يُصدر صفيرًا خافتًا في سكون الليل، وهو لا يظهر إلا حين يهدأ كل شيء، فإذا سمع حركةً أو صوتًا سكت.
كان مثل هذا المخلوق الصغير مألوفًا في بيوت ومزارع القطيف قديمًا، أما اليوم فلا يُسمع صوته كثيرًا بسبب الضجيج المستمر ليلًا ونهارًا.

بعد ذلك قمنا بجولة في محلات بيع الهدايا والملابس الشعبية، فكانت البضائع جميلة ومتنوعة: مجسّمات للحمير والخيول والجمال، وبعض التحف الصغيرة، ومعظمها – إن لم تكن كلها – مصنوعة محليًا.

وتشتهر سيوة بمنتجاتها الحرفية اليدوية مثل السجاد والأثاث الذي يُصنع من جذوع النخيل وسعفها، ومن جذوع أشجار الزيتون وغصونها، كما تُعرف نساؤها بمهارتهن في الخياطة وصناعة المشغولات التقليدية. وتبيع هذه المتاجر أيضًا الأعشاب الطبيعية، والملح الصخري، والصابون المصنوع من مواد طبيعية محلية.

كما تُعرض التمور بأنواعها الكثيرة التي تشتهر بها سيوة، وهي تختلف عن تمر منطقتنا في الشكل والطعم. وتُنتج الواحة أصنافًا عالية الجودة مثل البرحي والمجدول، إلى جانب أنواع محلية شهيرة أخرى.

حدّثنا مختار، وهو أحد أصحاب متاجر الهدايا والتمور مقابل عين كليوباترا، ويعمل معه ولده كريم الذي لا يتجاوز العاشرة من عمره، عن أنواع التمر في سيوة فقال:

“توجد في سيوة أنواع عديدة من التمور، أشهرها الصعيدي، ويُعرف أيضًا بـ بتنين تاسوتنت، وهناك الفريحي أو الكاك، إضافة إلى أنواع أخرى مثل طقطقت، وأمينزوه، وأغرام مغزال، وبرحي، ومجدول”.

وأضاف مختار أن هذه الأنواع تختلف في المذاق والقوام ودرجة النضج؛ بعضها نادر وبعضها شائع للتعبئة والتصدير. ورغم هذا الكم من التمور السيوية، إلا أننا وجدنا تمورًا مستوردة من المملكة العربية السعودية تباع هناك.

جاء مختار من أسوان إلى سيوة قبل ثلاثة عشر عامًا، وتزوّج هناك وله ولدان – عمر وكريم – وبنات، بينما انتقلت زوجته إلى الإسكندرية لتقيم مع الأبناء من أجل تعليمٍ أفضل. وقد اكتسب مختار خبرة واسعة في التمور نتيجة خلفيته الفلاحية وتجربته الطويلة في زراعتها وتجارتها، ويقول إن الاهتمام بالتمور وتصنيعها أكسبها مكانةً متقدمة في عالم الغذاء.

ومن الملاحظ أن البائعين كانوا لطفاء جدًا مع الزبائن، يعرضون بضاعتهم بأمانة وابتسامة دون مبالغة أو غش. وقد حدّثني أحد الزملاء المصريين قائلًا إن سيوة تُعرف بأمانة أهلها وطيبتهم، فهم لا يسرقون ولا يعتدون على أحد، ونادرًا ما تُسمع فيها الجرائم.

كما لاحظنا أن المرأة لا تظهر كثيرًا في الأسواق، إذ تتركّز حياتها في البيت والعائلة. وتلتزم غالبية النساء بعدم الخروج من المنزل بمفردهن بعد سن البلوغ، وتحرص التقاليد المحلية على ارتداء الملابس المحتشمة واحترام خصوصية المجتمع السيوي المحافظ، فهم مثلُا لا يقبلون لبس الرجال للشورت ولكنهم يتفهمون ثقافة الأجانب.

ومن الملاحظات اللافتة أن كثيرًا من أهالي سيوة يرتدون الثياب الفضفاضة البيضاء المشابهة لما هو شائع في بعض مناطق الجزيرة العربية، أو الأقرب في طرازها إلى أزياء النوبيين. كما أن ارتداء القميص والبنطلون ليس شائعًا هناك، إذ يغلب الطابع التقليدي على الملبس اليومي.

وقد لفت انتباهي أحد أصحاب المحلات وهو يرتدي الثوب مع شماغٍ أحمر، في مشهدٍ يعبّر عن تداخلٍ جميلٍ في العادات والأنماط بين أهل الصحراء في مصر والجزيرة العربية.

ركبنا الباص عائدين إلى الفندق ليلًا، وعلى الطريق شاهدنا المقاهي والمحالّ مضاءةً بالحياة.
وعندما وصلنا إلى الفندق، كنا متعبين لكن سعداء. ذهب كلٌّ منا إلى غرفته ليستلقي على سريره، وأغمض عينيه على ليلةٍ هادئةٍ هانئة. غير أن بعض الإخوة واصلوا سهرهم في جوٍّ أخويٍّ مرح حتى ساعةٍ متأخرة من الليل.

{ اليوم الرابع: البحيرات المالحة والعين الكبريتية }

في صباح اليوم الرابع، حوالي الساعة الثامنة والنصف، توجّهنا إلى مطعم الفندق لتناول الفطور.
كان مشرف الفندق قد وعدنا بأن يكون الفطور كل يوم مختلفًا، غنيًّا بالأصناف المحلية، حتى لا يتسلّل الملل إلى الضيوف، وقد وفى بوعده حقًا.

كان الإفطار رائعًا ومتنوّعًا، ومن ألذ ما قدّموه هذا الصباح طبق من البيض على قاعدة من التمر المحمّص بالزبدة، يشبه ما نعرفه في القطيف باسم “العفوسة”، إلا أن هذا التمر كان محمّصًا أكثر، وهو ما نسميه عندنا “الدليچة”.

كما شمل الفطور العسل المحلي، والقشطة، وطبق الفول المميّز بطعمه الغني، إضافةً إلى خليط من العسل والبيض، وهو طبق غريب لكنه لذيذ. كانت الأصناف كثيرة ومتنوعة، وكلها طازجة وشهيّة.

لاحظت أن أهالي سيوة يستفيدون من منتجاتهم المحلية إلى أقصى حد. قد يكون السبب توافر المواد الخام في المنطقة، أو ربما الظروف الاقتصادية، لكن النتيجة واحدة: كل شيء محلي الصنع — من التمور والزيتون إلى اللحوم بأنواعها. وأخبرونا أنهم لا يستخدمون المجمّدات إطلاقًا؛ فكل ما يُطهى يوميًا طازج، ولهذا يتميّز طعامهم بمذاق طيب وتأثير صحيّ خفيف لا يسبّب انتفاخًا أو ثِقلاً.

بعد الفطور أخذنا جولة على ساحل البحيرة المجاورة للفندق، حيث تنتشر مبانٍ جميلة تطلّ على المياه، أغلبها مبنية من الطين المحلي على طراز جميل من دورٍ أو دورين، يتقدّمها عريش بسقف مفتوح تدعمه جسور متباعدة تمنح المكان جمالًا وقوة في البناء. ومن ساحة الفندق المطلة على البحر رأينا عمارة من خمسة طوابق تقريبًا، وهي الوحيدة التي رأيناها في المنطقة.

بعد الجولة، عدنا إلى الفندق للسباحة قليلًا، ثم أخذنا قسطًا من الراحة استعدادًا للخروج في جولة جديدة.

البحيرات المالحة

كانت وجهتنا في عصر هذا اليوم نحو البحيرات المالحة الواقعة غرب المدينة، وتبعد عن الفندق نحو 40 دقيقة بالحافلة. كان الهدف من الرحلة الاستمتاع بالسباحة في الأحواض الكبيرة ذات المياه المالحة التي تشبه مياه البحر الميت.

في الطريق مررنا بين أحياء المدينة، وبدأنا نرى جمالها يتكشف شيئًا فشيئًا. أغلب شوارع سيوة غير مُعبَّدة، عدا بعض الطرق الرئيسة، فكانت الحافلة تسير بين ارتفاعاتٍ وانخفاضاتٍ حتى خرجنا من الأحياء إلى طرق المزارع.

وتوقّفنا عند بقالة صغيرة لشراء بعض الحاجيات الشخصية مثل الماء والبسكويت والعصير وشرائح البطاطا المقلية المعلّبة. كنا مجموعة كبيرة، وكلٌّ يريد أن ينتهي أولًا — كالعادة!

هناك لفت انتباهي هدوء صاحب البقالة الذي لم يتحرك من مكانه؛ كان يجيب عن الأسئلة والاستفسارات بهدوء، ويوجّه الزبائن إلى أماكن حاجاتهم ليأخذوها بأنفسهم ويضعوها في الأكياس، ثم يخبرونه بما اشتروا، فيُخبرهم بالمبلغ المطلوب دون أن يتحقق مما وضعوه.

بل إن بعضهم كان يقول له: “حسابي كذا”، فيجيبه بابتسامة: “طيب”، ويأخذ منه المبلغ بثقة كاملة.
وهكذا أكّد لنا صاحب البقالة أن من طبع الناس هنا التعامل بالأمانة والثقة، وهو أمر مريح للنفس حقًا.

كان المنظر بعد ذلك رائعًا؛ مزارع النخيل تمتد على مدّ البصر، تحيط بها أسوار من سعف النخيل وأغصانه، وبعضها مثبت بأعمدة خشبية.


النخيل مثقلة بالرطب، غير أن العناية بها تتفاوت من مزرعة إلى أخرى — فبعضها يُعتنى به لإنتاج التمر الجيد للاستهلاك الآدمي، وبعضها يُترك كموردٍ للحيوانات أو لتقليل كلفة العمل والعمالة.

واصلنا السير وسط هذه المزارع الجميلة التي تذكّرنا بطرق القطيف الزراعية، حتى دخلنا منطقة مملّحة واسعة، هي أرض هشّة فيها أحواض لتجميع الملح تُعرف محليًا باسم «الملاحات».
ومن هناك وصلنا إلى بركة كبيرة تشبه اللاجون، يُقدّر عرضها بمئة متر وطولها بقرابة مئتين وخمسين مترًا.

نزلنا من الحافلة، وبدأ الزوّار يتهيّأون للسباحة. كانت المياه صافية بلون أزرق غامق، والسباحة فيها ممتعة حقًا، إذ تطفو الأجسام بسهولة ولا يمكن الغوص إلا بصعوبة، تمامًا كما في البحر الميت.
أغلب السباحين تجنّبوا غمر رؤوسهم لأن الماء مالح جدًا وقد يؤذي العينين، لكنهم استمتعوا بالسباحة قرابة ساعة كاملة، والضحك والمزاح يملأ الأجواء.

لم يكن المكان مجهّزًا جيدًا؛ فلا درج للنزول أو الصعود، ولا أماكن للاستحمام بعد السباحة. لكن منظّم الرحلة أحضر خزان ماء بلاستيكيًا كبيرًا مع خرطوم استخدمه السياح لغسل أجسادهم من الملح.
وقد أخبرنا أحدهم أن جسمه في الليل شعر كأنه مغطّى بطبقة من المسامير الصغيرة من شدة تركيز الملح! رغم ذلك، كانت التجربة ممتعة وغريبة.

عند المسابح المالحة

المكان — أي المسابح المالحة — لم يكن مجهزًا تجهيزًا جيدًا، لكن القائمين عليه حاولوا قدر استطاعتهم أن يجعلوه مريحًا للزوار. لا أدري تمامًا كيف تُدار الأمور هناك، لكنهم وضعوا بعض الكراسي في أحد زوايا البحيرة للجلوس، حتى يتمكّن من لا يرغب في السباحة من الاستراحة ومشاهدة الآخرين.

جلس بعضنا على تلك الكراسي، وقدّم العاملون لنا الشاي ونحن نراقب زملاءنا وهم يسبحون في الحوض. لم تكن هناك مظلات تقي الجالسين من الشمس، فاستُخدم الباص كحاجز للظل، وجلسنا في ظلاله نتبادل الأحاديث ونستمتع بالمشهد.

وبعد أن انتهى السباحون من وقتهم في الماء، قدّم لهم العاملون أيضًا الشاي الساخن، في لفتة لطيفة تعبّر عن كرم أهل سيوة. وفي نهاية الزيارة جرى استيفاء مبلغ رمزي من كل من نزل إلى المسبح، وقدره خمسون جنيهًا مصريًا، أي ما يعادل نحو أربع ريالات سعودية فقط — مبلغ بسيط جدًا لا يكاد يُذكر.

حقًا، إن أهل سيوة قوم كرماء بطبعهم. أتذكّر أنني في تلك الرحلة نسيت نظّارتي الشمسية، فأصرّ يوسف، ابن الأستاذ أسامة، على أن أرتدي نظارته الخاصة، وقال مبتسمًا:

“لا يهم يا عم، المهم أنت ترتاح”. كان موقفًا لطيفًا عبّر عن طيبته وكرمه.

أما الشاي الذي قدّموه فكان من النوع المصري التقليدي، يختلف قليلًا في لونه وطعمه عمّا نعرفه، لكنه كان لذيذًا بحق، يحمل نكهة خاصة تعبّر عن دفء المكان وأصالته.

قصة اكتشاف البحيرات المالحة

تنتشر في سيوة الملاحات والمحاجر التي تنتج أنواعًا مختلفة من الملح لأغراض الاستخدام المحلي والتصدير، وأصبحت اليوم وجهة سياحية واقتصادية مهمة تشرف عليها الجهات المحلية.

روى لنا والد المرشد الأستاذ أسامة (أبو يوسف) قصة اكتشاف هذه البحيرات. قال إن أحد رجال الأعمال من سيوة، ويدعى بلال، اشترى نحو 15 فدانًا في تلك المنطقة بقصد الزراعة. لكن عندما بدأ الفلاحين  عملهم، اكتشفوا أن الأرض مغمورة بالمياه المالحة ولا تصلح للزراعة.

لم يغضب بلال، بل قرّر أن يستفيد من الوضع، فبدأ بالحفر ووجد طبقات من الملح على عمق قريب من السطح. أخذ عينة منها إلى معامل القاهرة لتحليلها، فكانت المفاجأة: الملح نقيّ بنسبة 98% وصالح للطعام مباشرة.

عاد بلال وبدأ يستثمر أرضه بحفر أحواض كبيرة، فصار لها فائدتان: الأولى أنها أصبحت أحواض سباحة مالحة يرتادها السياح من داخل مصر وخارجها، والثانية أنها تحوّلت إلى مصدر لاستخراج الملح بعد جفاف المياه صيفًا.

زيارة العين الكبريتية

بعد أن أنهت المجموعة استعدادها، ركبنا الحافلة متوجهين إلى عين كبريتية تقع ضمن منتجع جوبيتروه أحد المنتجعات السياحية الكثيرة في هذا المكان. وفي الطريق إلى ذلك المنتجع، مررنا بالمناطق التي تنتشر فيها الملاحات ومسابح المياه المالحة.

لاحظنا أن هذه المنطقة أصبحت مركزًا رئيسًا لإنتاج الملح وتصديره، فالشاحنات الكبيرة المحمّلة بالملح تسير ذهابًا وإيابًا من مواقع الإنتاج إلى مناطق النقل والتوزيع، كما شاهدنا عربات صغيرة وجرّارات تحمل صناديق الملح، في مشهدٍ يعكس نشاطًا اقتصاديًا متواصلًا وحركة عملٍ لا تهدأ.

تحدث بعض الزملاء أثناء الرحلة عن إمكانات هذه المنطقة، وقالوا إنها يمكن أن تصبح وجهة سياحية رائعة لو حظيت بمزيد من الاهتمام والخدمات — كالمقاهي المنظمة ودورات المياه والمرافق الترفيهية. وفعلاً، ما شاء الله، خيرات مصر لا تنتهي.

غادرنا منطقة الملاحات ودخلنا طرق المزارع الممتدة وسط النخيل، وسرنا مسافة لا بأس بها حتى وصلنا إلى منتجع صغير يقع على طريق زراعي واسع. في هذا المنتجع توجد عين كبريتية طبيعية قُسّمت إلى قسمين: أحدهما مخصص للعائلات، والآخر عام للزوار.

نزل بعضنا للسباحة في العين، وكان الماء فيها ساخنًا وغنيًا بالكبريت، ويُقال إن له فوائد صحية لجسم الإنسان وعضلاته، ويُستخدم كنوع من العلاج الطبيعي. وكان معنا أحد المرافقين يشكو من ألم في رقبته، فجلس عند مخرج الماء ليستفيد من حرارته ومكوناته المعدنية.

ولا أعلم مدى صحة هذه الفوائد من الناحية الطبية، لكن من المعروف في بلدان كثيرة وجود منتجعات علاجية بالمياه الكبريتية يقصدها الناس لهذا الغرض.

قضينا وقتًا جميلًا في المنتجع بين النخيل والأشجار، نتجول ونقطف بعض أنواع البلح، بينما جلس آخرون على الكراسي المصنوعة من سعف النخيل يشربون القهوة والشاي في أجواء هادئة ولطيفة.

كانت الخدمة ممتازة مقابل مبلغ رمزي، وعند انتهاء السباحة في العين تم تحصيل خمسين جنيهًا مصريًا من كل من استخدم المسبح، وهو مبلغ بسيط جدًا.

كان المكان جميلًا للغاية، وذكّرني كثيرًا ببيئتنا في القطيف؛ فهناك تشابه بين سيوة والقطيف من حيث انتشار النخيل ووجود البحيرات أو المسطحات المائية. ورغم أن بحيرات سيوة أصغر بكثير من خليجنا، فإن الإحساس بالمكان متقارب، وكأن روح الواحة تجمع بينهما.

بعد أن انتهينا من الزيارة، ركبنا الحافلة عائدين إلى الفندق. سألت المرشد عن المسافة، فقال إنها تستغرق نحو أربعين دقيقة — وهي مسافة طويلة نسبيًا بين المنتجع الواقع وسط المزارع والفندق المطل على البحيرة.

لفت انتباهي خلال الطريق وجود محلات جميلة ومنظمة مضاءة بالكهرباء رغم أن الوقت كان ليلًا؛ بعضها يبيع المنتجات المحلية، وبعضها الآخر مخصص للسكن والخدمات، في مشهدٍ يعكس نموًا اقتصاديًا ملحوظًا في سيوة.

عدنا إلى الفندق مساءً، وتناولنا عشاءً فاخرًا كان من أطيب ما ذقناه في الرحلة، بل من أفضل الأطعمة التي تناولناها في رحلات سابقة إلى دول عديدة.

وبعد العشاء، أُقيمت أمسية تراثية قدّمت فيها فرقة محلية من أبناء سيوة بعض الأهازيج والرقصات الشعبية الجميلة التي نالت إعجاب الجميع، وتخلل الحفل أيضًا إلقاء بعض القصائد الشعرية من المشاركين في الرحلة. كانت ليلة ختام رائعة بحق، تُوّجت بها أيام رحلتنا الجميلة في سيوة.

المهندس علي الجشي

لقراءة الجزء الأول: https://www.qatifscience.com/?p=31861

قريبا (الجزء الثالث والأخير)….3….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *