لا يبقى من المسوّرات سوى صداها في القلب
فالحجر ينهار، لكن الحكاية لا تموت…
كلّ جدارٍ تهدّم ترك خلفه معنى، وكلّ بابٍ فُتح حمل نغمة من زمنٍ آمنٍ بالمكان…
مسوّرة صفوى لم تكن جدارًا من طينٍ فقط، بل كانت سيرةً من انتماءٍ وطمأنينةٍ ووفاء
كلّ نخلةٍ قامت خلفها كانت شاهدًا على أن الحماية لا تُقاس بالأسوار،
بل بقدرة الناس على تذكّر ما وراءها.
هكذا تبقى صفوى، حتى حين تتلاشى جدرانها في الغبار،
تسوّر القلب بمعناها القديم “أن نحمي ما نحبّ… بالصمت، بالذاكرة، وبالحنين”

في التاريخ، لا يُقاس عمر المدن بما كُتب عنها، بل بما صمد فيها من رائحةٍ وحنين. وهناك مدنٌ لا تزال، رغم تبدّل الأزمنة، تحمل في طينها ما يشبه النبض القديم، وتخفي بين طبقاتها سرّ الإنسان الأول الذي بنى جدارًا لا ليحميه من الغزو، بل ليحفظ دفء بيته من ريح النسيان.
هكذا وُلدت مسوّرة صفوى، لا كحجارةٍ تُحيط بالمكان، بل كذاكرةٍ تلتفّ حول الإنسان. كانت الأسوار في جوهرها محاولةً نبيلة لأن تقول أنا هنا، ولست عابرة. كل لبنةٍ فيها كانت تنطق بإسمٍ أو ذكرى وكانت الطينة المجبولة بعرق البنّاء تحمل أثر كفٍّ طالَها العناء، لكنّها لم تنسَ أن ترفع جدارًا يحمي الآخرين. في تلك الجدران، لم تكن المادة تُقاوم الطبيعة، بل كان الإنسان يُقاوم الغياب.
في كل مدينةٍ مسوّرة، هناك ذاكرةٌ تقف على البوابة، تفتحها لأيام وتغلقها حين يحلّ المساء. في صفوى القديمة، لم يكن السورُ حدًّا بين الداخل والخارج، بل كان عتبةً بين زمنين، زمنٍ يُصغي إلى وقع الأقدام في الأزقة، وزمنٍ لم يتعلّم بعدُ كيف يُنصت إلى الماضي، وما كان السور ليمنع أحدًا من الدخول أو الخروج، إنما كان يحرس معنى الانتماء، ذلك الشعور الذي يربط الإنسان بمكانه كما تربط جذور النخلة جسدها بالأرض.
لم تكن المسوّرة جدارًا فحسب، بل كانت ذاكرةً جماعية اتّسعت فيها الحكايات مثلما تتسع الظلال في ظهيرة الصيف. كان الناس يبنونها بأيديهم، ثم يسكنونها بقلوبهم. كلّ بيتٍ فيها يشبه سيرةً مكتوبة على جدار، وكلّ نافذةٍ كانت كعينٍ ترقب الحياة وهي تمضي نحو البراحة. المدينة كانت تعرف أنها محاطة بالعالم، لكنها أرادت أن تظلّ وفيةً لملامحها الأولى، أن تحمي لغتها الخاصة قبل أن تبتلعها ضوضاء الأزمنة.
حين نقرأ التاريخ، نكتشف أن الأسوار كانت أكثر من بنيةٍ عمرانية؛ كانت فلسفة وجود. فما السور إلا إعلانٌ رمزيّ بأن الإنسان كائنٌ يخاف الفناء. يبني جدرانًا كي يُثبت وجوده، كي يقول للريح, لن تأخذيني هذه المرّة. وهكذا كانت صفوى المسوّرة، معقلًا صغيرًا من الطين، يقف في وجه العدم، ويُراهن على البقاء.
ومع أن الريح مرّت، والعمران تبدّل، إلا أنّ فكرة “المسوّرة” بقيت كامنةً في روح المكان، كأنّها ذاكرةٌ متوارية في أعماق كل بيتٍ جديد. الأسوار، في أحد معانيها العميقة، ليست سوى ذاكرةٍ متجسّدة في الطين. كلّ حجرٍ فيها يختزن شيئًا من خفقة القلب، وكلّ شقٍّ فيها يروي قصة عبورٍ أو فراق. لقد كانت المدن القديمة تعرف أن البقاء لا يُقاس بما تملكه من صروح، بل بما تحفظه من وجوهٍ وأسماء. ومن هنا صارت المسوّرة رمزًا لا لحماية المدينة، بل لحماية هويّتها.
تقع مدينة صفوى شمال محافظة القطيف في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، وتحدّها من الشرق مياه الخليج العربي، ومن الغرب امتدادات الصحراء، ووصفتها كتب الرحّالة في أواخر القرن 19 بأنها «قرية مسوّرة» تقارب في ذلك وصف لوريمر وغيرها من المصادر. وجود حصون وقلعة معروفة بإسم «قلعة صفوى» يعود بحسب تراجم ومراجع محلية إلى حقبة احتلال برتغالي للمنطقة في القرن السادس عشر، ثم أعاد العثمانيون أو الأهالي بناء أجزاء من السور لاحقًا. قلعة صفوى صارت علامةَ مكانٍ مهمةً لتحديد الموانئ والسواحل.
يُذكر أن مساحتها حوالي 336 هكتارًا في أحد المصادر. نُسبت إلى تسميات عدة عبر العصور: “داروش”، “صفوان”، “صفواء”، «الصفاء»، وربما تعود “داروش” إلى التسمية الفينيقية.
النشأة الأولى والمعالم التاريخية:
يُشير بعض الباحثين إلى أن صفوى قديمة جدًا، إذ وُجدت إشارات إلى وجودها في العصر العباسي، ومنها ما ذكر عام 579 هـ في سياق “الحرب العيونية”. كذلك، اختُرِقت المنطقة سلسلة من التغيرات التاريخية الكبرى، احتلال برتغالي ثم عثماني, وعلى سبيل المثال، ذُكر أن البرتغاليين انهم أنشأوا حصونًا وسورًا في صفوى عام 951 هـ تقريبًا. وبعد ذلك، أعاد العثمانيون بناء السور عام 958 هـ بمساعدة الأهالي.
“المسوّرة” في تاريخ صفوى:
يُذكر أن مدينة صفوى كانت مسوّرة في العصور التقليدية، بمعنى أنها كانت محاطة بأسوار وأبواب “درّاويز” للحراسة والمراقبة.
اضطلعت تلك الأسوار بدور دفاعي وحضاري في آن، إذ إنها لم تكن ما تبقى من جدار فقط، بل كانت تمثّل هيئة الحماية والمكانة العلامة على أن هذه القرية أو المدينة لها “داخل” وآفاق.
من الأبواب المسجلة: “دروازة البحر” ،البوابة التي كان يخرج منها أهل الصيد والخليج، وبعض البوابات الأخرى كما سميت “دروازة الصفافير” و”دروازة الديرة”. البرجان للحراسة أيضاً: مثلاً “برج العين” قرب عين داروش، و”برج البحر”.

أهم الأحداث المرتبطة بها:
في عام 1322 هـ تقريبًا (حوالي بداية القرن العشرين الميلادي) وقعت نزاعات بين سكان صفوى وسكان البادية المحيطة، مما دفع إلى إعادة بناء أو تعزيز السور مجدّداً. عند دخولها ضمن الدولة السعودية، ذُكر أن ذلك تمّ في 9/6/1331 هـ.
الطابع العمراني والموروثي:
تحتفظ صفوى بأحياء قديمة تحمل طابع “الديرة” داخل السور، حيث الأزقة، البيوت التقليدية، وحياة يومية كانت أكثر ارتباطًا بالبحر والنخيل والمزارع. ذكر أحد الباحثين أن الميناء القديم بصفوى يقع داخل سور كبير قُدّرت مساحته بحوالي 3600 متر مربع تقريبًا، ما يعكس كثافة الموقع التاريخي والعمل البحري.

ملاحظات وتحولات معاصرة:
رغم أن الأسوار المادية قد تلاشت أو تغيّرت كثيرا بفعل التطور والعمران، فإنّ أثر “المسوّرة” لا يزال حاضراً في ذاكرة المدينة وألسنة أهلها، كاستحقاق تاريخي وتراثي. أحد المصادر يشير إلى أنّ التقسيم العمراني الحديث جعل هناك تفريقًا بين “داخل المسوّرة” و”خارجها” عندما بدأ توسّع المدينة نحو الغرب. كما أنّ بعض أحياء المدينة العتيقة مهجورة أو مهددة بالاندثار، حسب مصوّر فوتوغرافي وثّق أكثر من 700 صورة لمباني وبيوت وصفها بالتاريخية.
في تلك الأيام، كان الأطفال يركضون بمحاذاة السور، لا ليتجاوزوه، بل ليتأمّلوا اتساع السماء خلفه. وكان الشيوخ يجلسون على عتباته، يروون القصص لمن يعبرون، وكأنهم يحرسون المكان بالرواية. فما كان السور يُغلق المدينة عن العالم، بل كان يجعلها عالَمًا داخل العالم، مكانًا يحتفي بالبساطة والسكينة، ويخشى الفقد.
كانت صفوى القديمة، في جوهرها، أشبه بقلبٍ يتنفّس في هدوء، لا يريد أن يتضخّم، ولا أن يتلاشى، بل أن يبقى كما عرف نفسه. إن فكرة المسوّرة، حين نتأملها الآن، تبدو وكأنها لغةُ الأمان الأولى. ففي مواجهة الفوضى، كان الإنسان يبحث دائمًا عن شكلٍ يطمئنه. جدارٌ يحميه، بابٌ يعرفه، ظلّ نخلةٍ يلوذ به. لكن مع اتّساع المدن الحديثة، تهدّمت تلك الأسوار، ليس لأن الطين لم يعد صالحًا للبناء، بل لأن الذاكرة لم تعد تجد ما تحميه.
اليوم، حين نسير في طرقات صفوى الجديدة، لا نرى السور، لكننا نشعر به. كأنّ الطين الذي انزاح من الجدران قد تحوّل إلى أثرٍ في اللغة، أو صدى في الوجدان. ما زالت المدينة، في عمقها، تبحث عن ذلك الشكل الذي يحمي روحها من التبعثر، وتحلم بالعودة إلى لحظةٍ كانت فيها البيوت تحتمي بالذاكرة، لا بالكهرباء والخرسانة. لقد اتّسع العمران، لكنّ المساحة الروحية تضيق كلّما فقدنا إحساسنا بالحدود التي كانت تمنحنا المعنى.
“مسوّرة صفوى” ليست أطلالًا إذًا، بل رمزًا للأصل. هي الحنين إلى زمنٍ كانت فيه العلاقة بين الإنسان والمكان حقيقية، تُبنى باليد والقلب معًا. هي الذكرى التي تُذكّرنا أن المدينة، قبل أن تكون عمرانًا، هي نسيجٌ من العواطف والمصائر المشتركة. وحين تهدم الأسوار، لا ينهار الطين وحده، بل ينهار شيءٌ من هوية الجماعة أيضًا.
لقد كانت الأسوار، في بعدها الإنساني، بيانًا ضدّ الغربة. كانت تقول إنّ للمدينة قلبًا يعرف أبناءه، وإنّ هناك حدودًا ليست للفصل بل للوصال؛ حدودًا تحافظ على شكل الأشياء كي لا تضيع ملامحها في زحام العالم. لذلك، حين نذكر “مسوّرة صفوى”، فنحن لا نعود إلى الماضي من باب النوستالجيا فقط، بل من باب المساءلة، هل ما زلنا قادرين على بناء أسوارٍ جديدة، لا من طينٍ وحجر، بل من قيمٍ وذاكرةٍ وانتماء؟
ربما لم يعد الزمن يسمح بعودة الجدران، لكنّه يسمح بعودة الوعي، الوعي بأنّ المكان ليس ما نسكنه فحسب، بل ما يسكننا. كلّ إنسانٍ يحمل في داخله “مسوّرةً صغيرة” تحفظ ملامحه من ذوبان الزمن، وتذكّره بأنّ البساطة كانت يومًا شكلًا من أشكال الكرامة.
صفوى، تلك المدينة التي عرفت كيف تجمع بين الأرض والماء والنخلة، كانت تعرف أيضًا أن السور ليس نهاية الطريق، بل بدايته. من داخله، خرجت الحكايات، وبدأت الرحلة نحو العالم. ولعلّ ما تبقّى من “المسوّرة” اليوم ليس سوى أثرٍ في النفوس، يذكّرنا بأنّ المدن التي تفقد ذاكرتها تفقد بوصلتها، وأنّ الحنين ليس ضعفًا، بل شكلًا من أشكال المقاومة ضدّ النسيان.
هكذا تبقى “مسوّرة صفوى” حاضرةً في الوجدان، كأنّها دعوةٌ مفتوحة إلى العودة نحو الأصل، إلى تلك البدايات الطينية التي كانت تصنع من البساطة مجدًا، ومن الجماعة معنى، ومن الجدار قصيدة. فكلّما اتّسعت المدينة الحديثة، ازداد حنيننا إلى السور القديم، إلى الباب الذي يُفتح برفق، إلى الزقاق الذي يعرف خطواتنا قبل أن نصل إليه.
[وقبل الحتام: حين تصير الأسوار ظلالًا في الذاكرة، لا يبقى من المسوّرات سوى صداها في القلب. فالحجر ينهار، لكن الحكاية لا تموت. وكلّ جدارٍ تهدّم ترك خلفه معنى، وكلّ بابٍ فُتح حمل نغمة من زمنٍ آمنٍ بالمكان].
مسوّرة صفوى لم تكن جدارًا من طينٍ فقط، بل كانت سيرةً من انتماءٍ وطمأنينةٍ ووفاء. كلّ نخلةٍ قامت خلفها كانت شاهدًا على أن الحماية لا تُقاس بالأسوار، بل بقدرة الناس على تذكّر ما وراءها. وهكذا تبقى صفوى، حتى حين تتلاشى جدرانها في الغبار، تسوّر القلب بمعناها القديم, أن نحمي ما نحبّ… بالصمت، بالذاكرة، وبالحنين.
“مسوّرة صفوى” ليست مجرد حكايةٍ عن مدينةٍ قديمةٍ التفّت حول نفسها لتصمد، بل هي رمزٌ إنسانيّ لحقّ المدن في أن تكون ذات ذاكرة. هي سؤالٌ معلّق على جدار الزمن، هل سنبقى نبني الجدران حول أجسادنا فقط، أم سنتعلّم أن نبنيها حول أرواحنا أيضًا؟
إنّ الطين الذي صنع المسوّرة الأولى لم يكن طين الأرض وحده، بل طين الوجدان، والقدرة على الحبّ، والإصرار على أن يكون للإنسان مكانٌ في وجه العدم. ولعلّ أجمل ما تبقّى من تلك المدينة المسوّرة هو أنها تُذكّرنا أن الهوية ليست شيئًا نملكه، بل شيئًا نحرسه. نحرسه كما حرس الطينُ قلوب الناس في صفوى القديمة، وكما تحرس الذاكرة الآن ما تبقّى من الضوء في حناياها.
ملاحظة: كثير من المعلومات عن «المسوّرة» في مصادر عربية متاحة على الإنترنت تأتي عبر مراصد محلية، مواقع تراثية، وصور ووثائق قديمة؛ أغلب هذه المصادر احتوت على معلومات متكررة (استشهاد بالماضي: برتغالي، عثماني، تحديثات في 1322-1324 هـ/قرن العشرين)، لذلك من المهم تأكيد هذه التواريخ عبر أرشيفات أوروبية (سجلات برتغالية/بريطانية)، وأرشيفات عثمانية ومحلية، وخرائط قديمة (لوّحات لوريمر / خرائط بحرية) لضمان الدقة.

المصادر/المراجع الفورية التي تم الإستناد عليها (نماذج):
• مدخل «صفوى» في مواقع موسوعية محلية (مَعرِفة / ويكي العربية) التي تذكر وصف لوريمر وصفوى «قرية مسوّرة».
• صفحة ومقالة عن «قلعة صفوى» (ملف واختصار تاريخي يذكر البرتغاليين والاعثمانيين وإعادة البناء).
• تقرير صحفي: «ميناء صفوى.. تاريخ يقاوم العوامل الجوية وينتظر الترميم» (اليوم)، عن بقايا الميناء داخل محيط المسوّرة.
• أرشيف ومقالات محلية وبلوغرافيا تصويرية توثّق السور والبوابات وحديث السكان عن أسماء البوابات وأبراج الحراسة (المواقع التراثية وملتقيات محلية).
فجوات معرفية رئيسية تحتاج تحقّقاً أرشيفيًا وميدانيًا:
• نصّ وروابط التأسيس الدقيق للسور: هل الوثيقة الأساسية تشير لتشييدٍ برتغالي محدّد سنةً ميلادية/هجرية؟ (المصادر تذكر «951هـ» ولكن يجب التشدّق إلى مصدر أوليّ, سجلات برتغالية، خرائط ملاحة، أو سجلات عثمانية).
• حدود السور ومخططه العمراني: لا توجد خريطة معمارية منشورة بالدقة توضح مسار السور/طوله/سمكه ومواقع البوابات والأبراج.
• حالة بقايا السور اليوم: مواقع محددة لما بقي من السور (أطوال، مواد البناء، حالات تدهور).
• العلاقة بين السور والميناء القديم: وثائق مرفئية/ملاّحية قد توضح تصميم الميناء وارتباطه بالدفاعات الساحلية.
• مصادر شفوية: توثيق روايات كبار السنّ عن أسماء البوابات/حكايات الهجرات/نزاعات 1322هـ وما صاحبها من تغييرات.
علوم القطيف مقالات علمية في شتى المجالات العلمية