الإجهاد العقلي والعاطفي القاتل الصامت الذي يفتك بالجسد في خفاء – بقلم صادق علي القطري

إلى القارئ الذي أنهكه الصمت والتفكير..!
قد لا يكون الجرح مرئيًا، لكن الوجع حاضر.
وقد تبتسم عضلات وجهك، لكن جهازك العصبي يئنّ من الداخل…
هذا النص لا يشرح المرض فقط، بل يحاول أن يلمس وجدانك ويقول لك: أنت لست وحدك.

في زمنٍ يتسارع فيه كل شيء، ويتعاظم فيه الضغط النفسي والعاطفي على الإنسان المعاصر، لم يعد الألم حكرًا على الجسد، بل امتد إلى الروح والفكر والمشاعر. وتشير الأدبيات النفسية الحديثة إلى أن الإجهاد العقلي والعاطفي المزمن أصبح من أخطر العوامل الصامتة التي تؤثر على الإنسان، ليس فقط على المستوى النفسي، بل على المستوى العضوي أيضًا، حتى إن بعض الباحثين يعدّونه البوابة التي تفتح الطريق أمام أمراض مزمنة وخطيرة كأمراض القلب والسرطان.

ما هو الإجهاد العقلي والعاطفي؟
يعرف الإجهاد (Stress) بأنه استجابة الجسم الفسيولوجية والنفسية لأي ضغط خارجي يُشعر الفرد بعدم الأمان أو العجز أو التهديد، سواء كان هذا التهديد فعليًا أو متخيّلًا.
ويتمثل الإجهاد العقلي والعاطفي تحديدًا في:
• الضغط الفكري المستمر (القلق، التفكير الزائد، تحمل المسؤوليات الثقيلة).
• الانفعالات الكامنة (كبت الغضب، الحزن، الإحباط، أو الشعور بالذنب).
• التوتر العاطفي المزمن الناتج عن علاقات سامة أو بيئة مهنية ضاغطة أو تجارب صادمة.

كيف يدمّر الإجهاد الجهاز المناعي؟
عند التعرض للإجهاد، يفرز الجسم هرمونات التوتر مثل الكورتيزول (Cortisol) والأدرينالين. هذه الهرمونات مفيدة على المدى القصير، لكنها مدمّرة على المدى الطويل. فالكورتيزول، حين يفرز بكمية مفرطة ولمدد طويلة، يؤدي إلى:
• إضعاف جهاز المناعة وتقليل فاعليته في مواجهة الفيروسات والبكتيريا.
• زيادة الالتهاب المزمن، وهو بيئة خصبة لتطور العديد من الأمراض المزمنة.
• تثبيط عملية التجدد الخلوي، مما يعرقل شفاء الأنسجة والأعضاء.
• اضطراب إفراز الأنسولين، وبالتالي رفع خطر الإصابة بالسكري.
ووفقًا لدراسة منشورة في مجلة (Psychosomatic Medicine) عام 2004، تبين أن الأفراد الذين يعانون من ضغوط نفسية مزمنة يُظهرون ضعفًا واضحًا في استجابتهم المناعية حتى بعد تلقي لقاح الإنفلونزا، مقارنة بأقرانهم.

من التوتر إلى السرطان: ما الذي يحدث في الخفاء؟
أشارت العديد من الدراسات إلى وجود رابط محتمل بين الإجهاد المزمن والسرطان، ليس باعتباره السبب المباشر، بل كعامل مساهم في:
• تعطيل أنظمة إصلاح الحمض النووي.
• تعطيل الموت الخلوي المبرمج (Apoptosis).
• تحفيز نمو الخلايا السرطانية في بيئة عالية الالتهاب.
• زيادة فرص الانتشار النقلي (Metastasis) لبعض أنواع السرطان.
وقد أكد الطبيب الألماني د. ليونارد كولدويل (Leonard Coldwell)، المتخصص في الطب النفسي والطبيعي، أن السرطان لا يولد فقط من عوامل بيئية وجينية، بل من كبت المشاعر، والإجهاد النفسي غير المعالج، والحرمان العاطفي طويل الأمد.

يقول كولدويل: “لا أحد يشفى من السرطان إذا لم يشفَ من مشاعره أولًا. لا دواء يفيد جسدًا يصرخ من الداخل”.

الأمراض النفسجسدية: حين يتكلم الجسد بلسان الروح
يُعرّف الطب الحديث ما يُعرف بـ الأمراض النفسجسدية (Psychosomatic Disorders)، وهي أمراض عضوية منشأها نفسي، مثل:
• القولون العصبي.
• الصداع النصفي المزمن.
• اضطرابات الغدة الدرقية.
• التهابات المفاصل.
• الأرق المزمن، والاضطرابات الهضمية.
وقد أكد الطبيب النفسي الشهير فرانز ألكسندر أن الجسد حين يُعاني، فهو غالبًا يترجم مشاعر لم تجد من يستمع إليها.

لماذا نهمل هذا القاتل الصامت؟
السبب ببساطة أننا نعيش في مجتمعات تُمجّد الإنجاز وتُحقّر الاستراحة، ونُربّى على الصبر والتحمل إلى حدّ الإنهاك، ونُوصم (بما هو غير مريح) حين نشكو أو نطلب المساعدة.
لكن الحقيقة أن:
• القوة ليست في التحمل الأعمى، بل في الاعتراف بالتعب.
• الشجاعة ليست في الصمت، بل في طلب النجدة قبل الانهيار.
• النجاح الحقيقي لا يُقاس بكم أنجزت، بل بكم بقي منك حيًا بعد الإنجاز.

هل من سبيل إلى الوقاية؟
والجواب نعم ولعل أهم سُبل الوقاية تكمن في:
• إعادة الاعتبار للراحة النفسية كجزء أصيل من الصحة.
• ممارسة التأمل والتنفس الواعي والرياضة اليومية.
• العلاقات الآمنة التي تتيح الحديث والتنفيس دون خوف من الحكم.
• طلب المساعدة النفسية المتخصصة عند الحاجة دون خجل.
• كتابة المشاعر، أو التعبير عنها بالفن أو الكلمة.
• تعلّم قول “لا” دون شعور بالذنب.
• الابتعاد عن البيئات السامة، قدر المستطاع.

وفي الختام:
لم نُخلق لنُنهك. ولم تُصمّم أرواحنا لتعيش في حالة إنذار دائم. الإجهاد العقلي والعاطفي ليس عرضًا عابرًا… إنه جرس إنذار، إذا أُهمل، قادنا إلى ما لا يُحمد عقباه. فلنصغِ إلى أجسادنا، إلى أرواحنا، قبل أن تتكلم لغات المرض والخسارة.

المهندس صادق علي القطري

المصادر:
• Psychosomatic Medicine Journal — Cohen, S., et al. (2004). Chronic stress, immunity, and susceptibility to infectious disease.
• National Cancer Institute — Stress and Cancer: What the Research Really Shows.
• Leonard Coldwell — “The Only Answer to Cancer” (2010).
• Mayo Clinic — Stress management and its effects on the immune system.
• Harvard Health Publishing — How stress affects the body.
• American Psychological Association (APA) — The mind-body connection.
• Franz Alexander, Psychosomatic Medicine: Its Principles and Applications (1950).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *