[إلى كل من ظنّ أن البحر مجرد ماء، لا مرآةً للغيب]
في ليلٍ قطيفيٍّ قديم، حين كانت السواحل تنام على همهمة الموج، وتستيقظ على نداء الغواصين، وُلدت أسطورة “اللؤلؤة المسحورة”. لم تكن حكايةً عن لؤلؤةٍ بيضاء من بحرٍ بعيد فحسب، بل كانت قصةً عن الرغبة والخوف والقدر، عن الإنسان الذي ينزل إلى أعماقٍ لا يعرفها إلا ليجد فيها نفسه.

أصل الحكاية
يُقال إنّ أحد الغواصين القدماء، وكان يُدعى بو ناصر، نزل ذات فجرٍ إلى البحر، فوجد في قاعه لؤلؤةً لا تشبه سائر اللآلئ. كانت مضيئةً من داخلها، كأنّ فيها قلبًا نابضًا بالنور. حين لمسها بيده، سمع همسًا خافتًا يشبه أنين امرأة. أفزعه الصوت، فتركها، لكنها عادت فظهرت في صدفة له أخرى.
عندها فهم أن البحر لم يمنحها له، بل اختار أن يمتحنه بها. منذ تلك الليلة تغيّر حاله حيث صار يسمع في نومه صوتًا أنثويًا يناديه من الأعماق، يطلب منه أن يُعيد اللؤلؤة إلى مكانها، لأنها ليست كنزًا بل روحًا مسحورة. وعندما رفض، بدأت الرياح تُغرق مراكب القرية واحدًا تلو الآخر، حتى أعادها بيديه إلى البحر، فانطفأت العاصفة، وعاد البحر إلى سكينته القديمة.
البحر ككائنٍ واعٍ
في المخيلة القطيفية، لم يكن البحر فضاءً جامدًا، بل كائنٌ حيّ له ذاكرة وغضب، يسمع ويعاقب ويُكافئ. و”اللؤلؤة المسحورة” هي تجلّي هذا الوعي الشعبي العميق بعلاقة الإنسان بالبحر، علاقة احترامٍ وخشوعٍ لا استغلالٍ واستعلاء. فكل غواصٍ، حين يربط حبله وينزل، لم يكن يبحث فقط عن الرزق، بل كان يدخل في طقسٍ روحيٍّ مهيب.
وكانت اللؤلؤة رمزًا لذلك الحلم الكبير الذي لا يُنال إلا بالتضحية والخطر — لكنها أيضًا رمزٌ للحدّ الذي لا ينبغي تجاوزه.
المعنى الرمزي
في القراءة الرمزية، يمكن القول إن اللؤلؤة المسحورة هي صورة الروح؛ جميلة، نادرة، لكنها إذا أُخذت بغير طهرٍ، تنقلب نقمةً على صاحبها. هي رمزٌ للحكمة الباطنية التي لا يُسمح لكلّ أحدٍ بامتلاكها. لذلك كانت الحكاية تحذّر الغواصين ان “لا تلتقط كل ما يلمع في البحر… بعض الضوء له مالكٌ غائب”.
والأسطورة هنا تُعبّر عن وعيٍ فلسفيٍّ بالحدّ الأخلاقي للإنسان، وعن فهمٍ غريزيٍّ بأنّ الطبيعة تُعاقب من ينتهك أسرارها.

بين الأسطورة والذاكرة
كان أهل الساحل يروون هذه القصة في ليالي الصيف الطويلة، حين يجلسون قرب البحر بعد عودة الغواصين. كانت الجدّات يقلن: “في البحر لآلئ كثيرة، لكن واحدة منها مسحورة، لا يراها إلا من اقترب من نهايته”.
هكذا غدت الحكاية مرثيةً رمزيةً لروح الغوّاص القطيفي، الذي ظلّ يهب البحر عمره بحثًا عن جوهرةٍ لا تُقتنى.
الرمز الختامي
“اللؤلؤة المسحورة” ليست مجرد أسطورة عن كنزٍ غارق، بل هي قصيدة عن الجشع والندم والصفاء. فهي تقول، بلسان البحر: “كل ما يُنتزع من عمقٍ بغير إذنٍ، يعود إلى عمقه”.
إنها تذكيرٌ بأنّ أجمل ما في الوجود لا يُشترى ولا يُمتلك، بل يُؤمن به ويُترك في مكانه.
لهذا، ظلّت الأسطورة حيةً في وجدان القطيفيين, لا لأنهم يخافون من اللؤلؤة، بل لأنهم يعرفون أن البحر ما يزال هناك، يحتفظ بسرّه الأخير في عمقٍ لا يصل إليه إلا من صدق في الغوص إلى داخله هو، لا إلى الداخل المائي فقط.

علوم القطيف مقالات علمية في شتى المجالات العلمية