ومضات معرفية من كتاب: كيف نتعلم: لماذا تتعلم الأدمغة بشكل أفضل من أي آلة… حتى الآن – ترجمة* عبدالله سلمان العوامي

إسم الكتاب: 
“كيف نتعلم: لماذا تتعلم الأدمغة بشكل أفضل من أي آلة… حتى الآن”
[How We Learn: Why Brains Learn Better Than Any Machine . . . for Now]

تنصل:
هذه الترجمات لا تعكس بالضرورة تأييدًا أو معارضةً للأفكار والآراء الواردة في النصوص الأصلية، بل تهدف إلى إثراء المحتوى العربي بتقديم معارف ووجهات نظر متنوعة من مصادر متعددة مع مراعاة نقل المعنى والسياق بدقة قدر الإمكان. وقد تتضمن هذه المواد رؤى أو معلومات لا تتوافق مع بعض القناعات الشخصية، إلا أن نشرها يأتي كجسر للتواصل الثقافي والفكري وفتح المجال للنقاش الموضوعي في مجالات كالصحة والتقنية والاقتصاد وغيرها. ونأمل أن تسهم هذه الترجمات في توسيع آفاق القارئ العربي وتعزيز الحوار البنّاء حول مختلف القضايا، مع التأكيد على حق كل قارئ في انتقاء الأفكار أو نقدها بوعي واحترام.

تعريف مختصر بالكتاب من شركة أمازون (Amazon):
في مراجعة صحيفة نيويورك تايمز (The New York Times Book Review) لهذا الكتاب تقول: “هناك كلمات مألوفة لدرجة أنها تحجب المعنى أكثر مما توضح الشيء الذي تشير إليه، وكلمة ‘التعلم’ واحدة من هذه الكلمات. تبدو عادية للغاية، فالجميع يمارسها. لكنها في الواقع أشبه بصندوق أسود، وقد تمكن مؤلف الكتاب السيد ديهان (Dehaene) من فتحه ليكشف عن أسراره المذهلة الكامنة بداخله”.
هذا الكتاب بمثابة غوصٌ كاشف في أحدث ما توصل إليه العلم حول القدرات الاستثنائية لأدمغتنا في التعلم، وإمكانات الآلات التي نبرمجها لتقليد هذه القدرات.
الدماغ البشري آلة تعلم استثنائية. قدرته على إعادة برمجة نفسه لا مثيل لها، ولا يزال يمثل المصدر الأفضل للإلهام في التطورات الحديثة بمجال الذكاء الاصطناعي. لكن كيف نتعلم؟ ما هي الأسس البيولوجية الفطرية التي تدعم قدرتنا على اكتساب معلومات جديدة، وما هي المبادئ التي تتحكم في كفاءتها؟
في هذا الكتاب “كيف نتعلم (How We Learn)”، يستكشف مؤلف الكتاب البروفسور ستانيسلاس ديهان (Stanislas Dehaene) تقاطع علوم الحاسوب، وعلم الأعصاب، وعلم النفس المعرفي ليشرح كيف يعمل التعلم فعليًا، وكيف يمكن الاستفادة المثلى من خوارزميات التعلم في الدماغ في مدارسنا وجامعاتنا، وكذلك في الحياة اليومية وفي أي عمر.

مؤلف الكتاب:

البروفيسور ستانيسلاس ديهان (Stanislas Dehaene) يعد من أحد أبرز علماء الأعصاب الإدراكية في أوروبا، كما أنه يُعتبر سلطة عالمية في مجال تعلم الدماغ. يشغل منصب كرسي علم النفس الإدراكي التجريبي في كلية فرنسا في باريس (Collège de France in Paris)، ويدير وحدة التصوير العصبي الإدراكي التابعة للمعهد الوطني الفرنسي للصحة والبحث الطبي (INSERM-CEA) في مركز نيرو سبين (NeuroSpin)، الذي يُعد المركز الأول في فرنسا لأبحاث تصوير الدماغ. كما يرأس المجلس العلمي للتعليم في وزارة التربية والتعليم الفرنسية.
اشتهرالبروفسور ديهان بأبحاثه الرائدة حول “حاسة العدد” (number sense) — أي الأساس العصبي الفطري لفهم الأرقام والرياضيات — وكذلك باكتشافه منطقة التعرف البصري على الكلمات، وهي منطقة متخصصة في الدماغ تتطور مع تعلم القراءة. تغطي أبحاثه موضوعات محورية مثل اللغة عند الرضع، وتأثير التعليم على الدماغ، والبصمات العصبية للوعي.
نال البروفيسور ديهان العديد من الجوائز المرموقة، منها جائزة الدماغ من مؤسسة غريت لوندبيك (Grete Lundbeck Brain Prize) عام 2014، وهو عضو في ثماني أكاديميات وطنية ودولية، من بينها الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم (US National Academy of Sciences) والأكاديمية الفرنسية للعلوم (Académie des Sciences). ويُعتبر من أكثر الباحثين تأثيرًا واستشهادًا بهم في مجال علم الأعصاب، بمؤشر (h-index) يبلغ 173.
تجمع أعمال البروفيسور ستانيسلاس ديهان (Stanislas Dehaene) بين البحث العلمي والتعليم، مقدّمةً رؤى رائدة حول كيفية القراءة والتفكير والتعلم. وقد ألّف أكثر من 400 بحث علمي وعدة كتب مؤثرة، تُرجمت إلى أكثر من 15 لغة، مما جعل إسهاماته مرجعًا أساسيًا في علوم الدماغ والتعليم عالميًا. ومن أبرز أعماله:
• حاسة العدد (The Number Sense, 1999) – حائز على جائزة جان روستاند
• القراءة في الدماغ (Reading in the Brain, 2009) – كتاب العام في العلوم حسب صحيفة واشنطن بوست
• الوعي والدماغ (Consciousness and the Brain, 2013) – الجائزة الكبرى من (RTL-Lire).
• كيف نتعلم (How We Learn, 2020) – كتاب العام لجمعية الأعصاب الفرنسية
• رؤية العقل (Seeing the Mind, 2023، صدر عن MIT Press)

منصة الوميض** (Blinkist) قامت بتلخيص الكتاب في “خمس ومضات” معرفية ومقدمة وخلاصة نهائية، وتعتبر كل ومضة تلخيصا لفصل كامل من الكتاب وهي كالتالي:

مقدمة – اكتشف خوارزميات التعلم في الدماغ
هل تساءلت يومًا عما يحدث فعليًا داخل دماغك عندما تتعلم شيئًا جديدًا؟ قد يبدو مفهوم التعلم بسيطًا، لكنه في الواقع عملية معقدة وديناميكية غالبًا ما تمر دون أن نلاحظها في حياتنا اليومية.
قليلون هم من يمتلكون القدرة على إلقاء الضوء على هذه العملية مثل عالم النفس المعرفي البروفسور ستانيسلاس ديهان. في هذه الومضات المعرفية، سنغوص في تقاطعات علم الأعصاب وعلم النفس والتكنولوجيا لنكشف كيف تعمل أدمغتنا كآلات تعلم عالية الكفاءة. وخلال ذلك، سنتعرف على الفروقات بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي، وكذلك على ما يمكننا فعله لتعزيز النمو العقلي لأطفالنا.

الومضة الأولى – التعلم يحوّل الإدراك إلى معرفة
فهم “التعلم” يتطلب تقدير الطريقة التي يبني بها دماغنا نماذج داخلية للعالم من حولنا ويصقلها باستمرار. هذه النماذج واسعة ومتنوعة، تغطي كل شيء من تخطيط بيئاتنا المحلية إلى هياكل اللغة المعقدة وحتى الفروق الدقيقة في سلوكيات الآخرين. هذه النماذج الداخلية ليست تمثيلات ثابتة؛ بل هي أطر ديناميكية تُحدَّث باستمرار وتساعدنا على تفسير التجارب اليومية والتنقل بينها.

عندما نتعلم، نقوم بشكل أساسي بتدريب أدمغتنا على محاكاة حقائق محتملة. على سبيل المثال، فكر في الخرائط الذهنية التي نحملها لأماكن مثل مجتمعاتنا السكنية أو منازلنا. هذه ليست مجرد خرائط بسيطة؛ إنها محاكاة غنية وتفاعلية تسمح لنا بالتنقل في هذه المساحات ذهنيًا دون الحاجة لوجودنا الجسدي. وتمتد هذه القدرة إلى اللغة، حيث يستطيع دماغنا تمييز الكلمات المألوفة عن غير المنطقية، وكذلك إلى التنسيق الجسدي، كما في التوازن المعقد المطلوب لركوب الدراجة الهوائية.

قدرة الدماغ على الحلم تمثل جانبًا آخر مثيرًا للاهتمام من قدراته في بناء النماذج الداخلية. فالأحلام ليست مجرد صور عشوائية؛ بل هي سرديات معقدة يصوغها الدماغ من خلال نماذجه الداخلية. إنها تتيح لنا تجربة حقائق غير موجودة ولعب سيناريوهات لم تحدث من قبل. وبطريقة ما، تُجسد قدرتنا على الحلم كيف يواصل الدماغ التدرب والاستكشاف وصقل نماذجه باستمرار.

تلعب أدمغتنا أيضًا دورًا كبيرًا في كيفية إدراكنا للعالم أثناء اليقظة. فكل مدخل حسي يتطلب من الدماغ تفسيره والتنبؤ به بناءً على المعرفة والخبرة والسياق السابق، مما يحول المعلومات البصرية الغامضة إلى إدراك متكامل وواضح. هذه العملية تبرز جانبًا جوهريًا من التعلم: فالأمر لا يقتصر على اكتساب الحقائق، بل يتعداه إلى تعزيز قدرتنا على تفسير بيئتنا والاستجابة لها بفعالية.

يتعلق التعلم أيضًا بإجراء تعديلات مستمرة. فعندما تظهر معلومات جديدة أو يحدث أمر غير متوقع، يقوم الدماغ بسرعة بدمج هذه البيانات الجديدة في النماذج القائمة. يظهر ذلك بوضوح في كيفية تأقلمنا مع التغيرات الجسدية، مثل التكيف مع الرؤية المشوهة عند استخدام المناشير أو النظارات، وكيف يمكن لهذه التعديلات أن تعيد ضبط إدراكنا حتى بعد إزالة تلك الأدوات. تسمح لنا هذه الخاصية التكيفية بالتنقل في العالم بشكل أكثر فعالية وتصحيح الأخطاء في فهمنا وتصرفاتنا.

بعبارة أخرى، التعلم لا يقتصر على جمع المعلومات فقط، بل يشمل بناء النماذج الذهنية واختبارها وتحسينها، مما يمكننا من فهم العالم والتفاعل معه بفعالية أكبر. ومع تقدمنا في الحياة، تحدد قدرتنا على تكييف عمليات التعلم مدى نجاحنا في مواجهة التحديات الجديدة وفهم الآخرين وإدراك العالم من حولنا.

الومضة الثانية – التعلم البشري يتفوق على الذكاء الاصطناعي في التعقيد والكفاءة
يُعد التعلم قدرة معقدة متعددة الأبعاد متجذرة بعمق في التجربة الإنسانية، ومختلفة جوهريًا عما تستطيع أن تحققه حتى أكثر أنظمة الذكاء الاصطناعي تقدمًا اليوم. ورغم أن الذكاء الاصطناعي أحرز تقدمًا كبيرًا، خصوصًا في مجالات مثل التعرف على الأنماط ومعالجة البيانات، إلا أنه لا يزال يفتقر إلى عدة خصائص أساسية تميز التعلم البشري.
يتميز التعلم البشري بكفاءة عالية، خاصة في كيفية تعامله مع البيانات. فعلى عكس الذكاء الاصطناعي الذي يحتاج إلى كميات هائلة من المعلومات ليطور مهارات أساسية، يمكن للبشر أن يتعلموا من عدد قليل جدًا من النقاط البيانية.

على سبيل المثال، يستطيع الأطفال استيعاب لغة جديدة بعد تعرض محدود للغاية لها، مقارنة بما تتطلبه أكثر خوارزميات اللغة تطورًا، ما يبرز قدرة أدمغتنا على تحقيق قفزات معرفية كبيرة من الحد الأدنى من البيانات.
مجال رئيسي آخر يتفوق فيه التعلم البشري هو فهم المفاهيم المجردة. فالبشر قادرون على التعرف على الأشياء والأفكار وفهمها بأشكال وسياقات متنوعة، وهو ما لا يزال يمثل تحديًا أمام الذكاء الاصطناعي. إذ أن نماذج التعلم الآلي، وخاصة الشبكات العميقة للتعلم، غالبًا ما تسيء تفسير الأشياء إذا تغيرت بعض السمات البسيطة فيها. هذا القيد يبرز اعتماد الذكاء الاصطناعي على أنماط بيانات محددة بدلًا من الفهم الشامل للمفاهيم.

تتجلى مرونة الإدراك البشري أيضًا بشكل واضح مقابل الذكاء الاصطناعي. فالبشر يمكنهم الانتقال من الأحكام السريعة البديهية إلى اتخاذ قرارات متأنية مدروسة، ويبنون تمثيلات رمزية معقدة للعالم يمكن مشاركتها ومناقشتها مع الآخرين من خلال اللغة. وهذه القدرة على الانخراط في التفكير الرمزي العميق، ونقل هذه الأفكار بفعالية، تبقى سمة فريدة للبشر.

يُعد التعلم الاجتماعي مجالًا آخر يتفوق فيه البشر بوضوح على الذكاء الاصطناعي. فمنذ سن مبكرة، يتعلم البشر من الإشارات الاجتماعية، ويفهمون نوايا وعواطف الآخرين ويستجيبون لها. تتيح هذه القدرة نقل المعرفة بطريقة دقيقة من خلال اللغة، حيث يمكن لنظرة بسيطة أو إيماءة أن تثري التواصل. وفي هذا الجانب أيضًا، لا يزال الذكاء الاصطناعي يواجه صعوبة في محاكاة الإدراك البشري.

ورغم استمرار تطور الذكاء الاصطناعي، إلا أنه لا يزال يفتقر إلى عمق ومرونة التعلم البشري وقدرته على التكيف. فمن معالجة أقل قدر من البيانات إلى الانخراط في تفاعلات اجتماعية معقدة، يُظهر البشر قدرة مذهلة على التعلم لم تتمكن الآلات من مضاهاتها بعد. ولا تبرز هذه المقارنة نقاط قوة الإدراك البشري فحسب، بل تشير أيضًا إلى المجالات التي قد يتطور فيها الذكاء الاصطناعي مستقبلًا لتعزيز قدراته.

الومضة الثالثة – التعليم يحول الإمكانات البشرية الأساسية إلى قدرات معرفية معقدة
يعد التعليم أداة قوية تحول القدرات البشرية الأساسية إلى مهارات معرفية عالية التعقيد. من المثير أن البشر، الذين لا يحملون برمجة جينية (مبرمجين وراثيًا) مسبقة لمهام عصرية معينة، يمكنهم تعلم مهارات معقدة مثل القراءة والرياضيات. وتبرز هذه القدرة مدى تكيف الدماغ البشري وقوة التحول التي يحملها التعليم.

تأثير التعليم على محو الأمية (القدرة على القراءة والكتابة) عميق جدًا. فقد أظهرت دراسات على بالغين أميين في مناطق مختلفة من العالم أن غياب التعليم لا يؤثر فقط على القدرة على التعرف على الحروف، بل يضعف أيضًا القدرة على تمييز الأشكال، وحفظ الكلمات المنطوقة، والقدرة على التمييز بين الصور المعكوسة. وعلى عكس المعتقدات القديمة بأن القراءة قد تضعف الذاكرة بسبب الاعتماد على مصادر خارجية، فإن التعليم والقدرة على القراءة والكتابة يعززان الوظائف المعرفية. وغالبًا ما يُظهر الأفراد المتعلمون قدرة أفضل على التذكر مقارنة بأولئك الذين لم يلتحقوا بالمدارس مطلقًا.

في مجال الرياضيات، يظهر تأثير التعليم بشكل لافت أيضًا. فكثير من الشعوب الأصلية التي لم تتلقَ تعليمًا رسميًا، مثل العديد من المجموعات الهندية في الأمازون، لديهم فقط تصورات رياضية بدائية. غالباً ما تفتقر هذه المجموعات إلى نظام عد رسمي، وقد يقتصر تمييزها على كميات غامضة مثل “قليل” و”كثير”. ويكون فهمهم للأرقام والحساب مختلفًا جذريًا عن فهم المجتمعات المتعلمة. فعلى سبيل المثال، قد لا يدركون وجود فاصل ثابت بين كل عدد والذي يليه (الأعداد المتتالية)، وهو مفهوم يبدو بديهيًا لدى العقول المدربة.

لا يقتصر دور التعليم على سد هذه الفجوات فحسب، بل يعمل أيضًا على توسيع التصورات العددية الأساسية بشكل هائل. فمن خلال التعلم، يدرك الفرد أن لكل عدد من يخلفه، ويؤدي هذا الإدراك إلى إعادة تنظيم مفهومية لخط الأعداد. هذا التحول من الفهم التقريبي إلى الفهم الدقيق للأرقام يمهد الطريق لتطور التفكير الرياضي المتقدم، وهي مجموعة مهارات ضرورية في العالم الحديث وتشكل أساسًا للتقدم العلمي والتقني المستقبلي.

تُبرز الفروقات الملحوظة بين الأفراد المتعلمين وغير المتعلمين الدور المحوري للتعليم في التطور المعرفي. فالتعليم لا يعزز القدرات الفطرية فحسب، بل يمكّن الأفراد أيضًا من التفاعل مع العالم والمساهمة فيه بطرق أكثر عمقًا وفاعلية.

الومضة الرابعة – التعليم البشري متجذر بشكل فريد في فهمنا للعقول
يتميز التعليم البشري بتعقيده الفريد مقارنة بأي سلوك معروف عند الحيوانات، وذلك بفضل قدرتنا على فهم عقول الآخرين والتأمل فيها. تتيح هذه القدرة للمعلمين أن يصيغوا تعليماتهم بعناية، مع مراعاة ما لا يعرفه الطلاب بعد، وبالتالي تحسين تجارب التعلم. إن هذا الفهم العميق للفجوات المعرفية لدى الآخرين وكيفية معالجتهم للمعلومات هو ما يميز المنهج التعليمي البشري.

في مجال التدريس، يقوم البشر باستمرار بتعديل استراتيجياتهم التعليمية بناءً على فهم ديناميكي لعقل المتعلم. يختار المعلمون أمثلة وشروحات محددة مع وعيهم بأن الطلاب يدركون أن هذه الجهود موجَّهة لهم كوسائل للتعلم. هذا “الإدراك التكراري” – أي أن المعلم يعرف أن الطالب يعرف أن المعلم يفهم جهله – يثري العملية التعليمية ويجعلها سمة إنسانية فريدة.

لا يبدو أن هذا التفاعل المعقد ينعكس في عالم الحيوان، رغم وجود سلوكيات قد تبدو ظاهريًا مشابهة للتعليم. فعلى سبيل المثال، يظهر حيوان السرقاط (الميركات meerkats) سلوكًا مثيرًا للاهتمام؛ حيث يساعد البالغون صغارهم في التعامل مع الفرائس مثل العقارب، فيقومون أولًا بإزالة الإبرة السامة ثم يقدمون لهم مهامًا أكثر تحديًا تدريجيًا. ورغم أن هذا السلوك يحقق بعض معايير التعليم، مثل التكلفة التي يتحملها المعلم وتسريع التعلم لدى المتعلم، إلا أنه يفتقر إلى دليل على وجود اعتراف متبادل بحالات المعرفة — ما يمكن تسميته “نظرية العقل”.

إن التعليم الذي يُلاحظ عند حيوانات السرقاط وغيرها غالبًا ما يبدو مبرمجًا مسبقًا ومحددًا بسلوكيات البقاء، ويفتقر إلى النهج العام والقابل للتكيف الموجود في التعليم البشري. فالمعلمون من البشر لا يكتفون بنقل المعرفة، بل يتفاعلون مع الطلاب ذهنيًا، ويعدلون أساليبهم وفقًا للفهم والإدراك والحالة العاطفية التي يستشعرونها لدى الطلاب. تتضمن هذه العملية تبادلًا مستمرًا للاهتمام والاحترام والثقة المتبادلة، وهي عناصر غائبة في السلوكيات التعليمية الغريزية التي تُلاحظ في الطبيعة.

علاوة على ذلك، فإن التعليم البشري الفعّال يتجاوز مجرد نقل المعلومات؛ فهو يشمل تصميم دروس تتوافق مع مستوى معرفة الطلاب الحالية وقدراتهم الإدراكية وتتكيف معها. إن هذا التدفق الثنائي للفهم والتعديل أمر جوهري لتحقيق تجارب تعلم عميقة، وهو ما لا تزال أنظمة التعليم الاصطناعي المتقدمة تجد صعوبة في محاكاته.

الومضة الخامسة – البيئات التعليمية المثلى تطلق العنان للقدرات الإدراكية لدى الأطفال
تتأثر قدرة الدماغ البشري على النمو والتعلم بشكل عميق بالبيئة المحيطة به. وللأسف، فإن العديد من الأطفال لا يحققون كامل إمكاناتهم بسبب عدم توفر ظروف تعلم مثالية في المنزل أو في المدرسة. وتُظهر المقارنات بين نتائج التعليم عالميًا وجود فروقات كبيرة، حيث تسجل بعض الدول تراجعًا في الأداء الأكاديمي، مما يبرز الحاجة الملحة إلى استراتيجيات تعليمية أفضل.

توفر التطورات في علم التعلم رؤى قابلة للتنفيذ يمكن أن تساعد في عكس اتجاهات تراجع التحصيل التعليمي. تؤكد هذه الرؤى على أهمية عدم الاستهانة بقدرات الأطفال. فحتى عند الولادة، يكون لدى الأطفال مهارات أساسية وفهم أولي للأشياء والأرقام واللغة. ويجب أن ترتكز الأساليب التعليمية على هذه القدرات الفطرية، من خلال ربط المفاهيم الجديدة بمعرفة الأطفال السابقة لتعزيز التعلم.

تُعد السنوات الأولى من العمر حاسمة نظرًا لارتفاع مرونة الدماغ خلال هذه الفترة. ففي هذا الوقت، يمر دماغ الأطفال بتغيرات سريعة تُسهّل امتصاص المعلومات الجديدة، لا سيما في اكتساب اللغة. ويمكن أن يؤدي إدخال لغة ثانية في وقت مبكر أن يُشكّل التطور المعرفي بشكل كبير. علاوة على ذلك، تمتد هذه المرونة إلى فترة مرحلة المراهقة، مما يشير إلى أن التعرض المكثف للغات يمكن أن يكون مفيدًا حتى بعد السنوات المبكرة.

يعد إثراء بيئة الطفل أمرًا بالغ الأهمية. فوجود بيئة محفزة تتضمن استخدامًا معقدًا للغة، والألغاز، والألعاب يمكن أن يعزز التطور المعرفي بشكل كبير ويمدد من مرونة الدماغ. وتعد الحوارات التي تدفع الأطفال للتفكير في أفكار معقدة ذات فائدة خاصة.

لقد دحضت تقنيات تصوير الدماغ خرافة أنماط التعلم الفردية، حيث أظهرت أن الدوائر العصبية المشاركة في القراءة والرياضيات متشابهة بين الأفراد. صحيح أن لكل طفل دوافعه الخاصة وسرعته في التعلم، إلا أن العمليات الأساسية لتعلم الدماغ متشابهة إلى حد كبير. ينبغي على المربين والمعلمين التركيز على فهم المستوى المعرفي الحالي لكل طفل لتكييف الأساليب التعليمية بفعالية، ولكن عليهم ضمان اتقان المهارات الأساسية في اللغة، القراءة والكتابة، والرياضيات بشكل متين.

كما أن الانتباه عنصر بالغ الأهمية في عملية التعلم؛ إذ يجب أن يتمكن الطلاب من التركيز على المادة دون تشتيت. لذلك، يجب أن تُهيأ البيئات التعليمية للحد من المشتتات المحتملة وضمان عدم تشتت انتباه الأطفال. علاوة على ذلك، يتم تعزيز التعلم عن طريق ارتكاب الأخطاء وتصحيحها؛ فالتعلم الفعال يتطلب التعرف على الأخطاء ومعالجتها بسرعة من خلال تغذية راجعة بناءة، وهو أمر أساسي لتعديل النماذج الذهنية وتعميق الفهم.

يمكن أن يؤدي الاستفادة من هذه المبادئ في التعلم إلى تحويل الممارسات التعليمية بشكل جذري. فمن خلال التعرف على القدرات الفطرية لدى الأطفال وتنميتها، وتوفير بيئات غنية ومركزة، واستخدام استراتيجيات تعزز الانتباه وتصحيح الأخطاء، يمكن للمربين والآباء تحسين نتائج التعليم بشكل ملحوظ. إن تبني هذه المبادئ يمكن أن يساعد جميع الأطفال على بلوغ أقصى إمكاناتهم، وأن يسهم في بناء مستقبل يكون فيه لكل طفل فرصة للنجاح أكاديميًا ومعرفيًا.

خلاصة نهائية
في هذه الومضات المعرفية، تعرفت على أن التعلم البشري يتجاوز الذكاء الاصطناعي من خلال قدرته على معالجة الحد الأدنى من البيانات بكفاءة لتكوين مفاهيم معقدة وتفاعلات اجتماعية غنية. يعزز التعليم هذا الإمكان الفطري، خاصة عندما يُكيف وفق المستويات الإدراكية الفردية ويدعمه بيئة غنية ومحفزة. ويتطلب التعليم الفعّال فهم عقول الطلاب، ما يجعل المنهجية التعليمية من البشر قابلة للتكيف بشكل فريد وتتمتع بعمق تفاعلي مميز.

*تمت الترجمة بتصرف.

**المصدر: منصة الوميض (Blinkist) وهي منصة تقوم بتلخيص الكتب ، ومكتبتها تحتوي على آلاف الكتب ويشترك في هذه المنصة الملايين من القراء.

الأستاذ عبدالله سلمان العوامي

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *