مستوطنة بلبانا … حين تنبض الرمال بحكاية حضارة منسية – بقلم صادق علي القطري

إلى أولئك الذين يظنون أن التاريخ غبار، والحجارة صمت، والقبور فراغ…
هنا، في ركنٍ منسيٍّ من شرق الجزيرة، تنبض الحجارة، تُصلّي القبور، ويتكلّم الرماد.

في هذا الموقع الذي يدعوه العلماء بـ”عين جاوان” شمال غرب مدينة صفوى بالقطيف، حيث يُرجّح أنه هو ذاته الملقب بمستوطنة بلبانا [Bilbana Settlement] المشار اليها في خرائط بطليموس، حيث لا تجد أطلالًا بكماء، بل قصائد مدفونة، وأناشيد عن العمارة والطقوس التي خاضها الإنسان في رحلته الطويلة نحو الخلود.

https://www.loc.gov/resource/gdcwdl.wdl_02923/?r=0.346,0.186,0.443,0.277,0 خريطة الجزيرة العربية (1720) – “Arabiae Veteris Typus” خريطة من القرن الثامن عشر تستخدم أسماء بطليموس، وتُظهِر تقسيمات الجزيرة القديمة (Felix – Deserta – Petraea).

المعمار… حكاية الإنسان في الحجر
في مستوطنة بلبانا “Bilbana Settlemen”، لا تُبنى البيوت كعلبٍ سكنية، بل كأجسادٍ تستوعب الحياة والموت معًا. تكشف التنقيبات عن مبانٍ شُيّدت بأحجارٍ جيرية متوفرة محليًا، تُكدّ بعناية تُشبه تراتيل، وتُغطّى بالجص الأبيض، كأنما أراد الإنسان أن يُهندس الضوء داخل الجدران. المنازل كانت ذات غرف مستطيلة، تتصل ببعضها البعض عبر باحاتٍ داخلية، تدور حولها الحياة اليومية من طبخ، وتخزين، واجتماع. وفي بعض الزوايا، ترتفع المنصّات أو المواقد الحجرية، تُشير إلى طقوس دينية أو استخدامات جنائزية. وما يثير العجب أن المباني لم تكن لحماية الإنسان من البيئة فقط، بل كانت جزءًا من روحه… طريقة للبقاء، وطريقة للرحيل أيضًا.

الاسم بلبانا “Bilbana”
• قد يكون اسما لمستوطنة قديمة لم يُوثّق جيدًا أو طُمست معالمها.
• قد يكون من الأسماء المركبة مثل (Bil + bana)، حيث “Bil” تعني مدينة أو مكان في بعض اللغات القديمة (مثل الأكادية أو الحثّية)، و”bana” ربما تكون مشتقة من “بناء” أو “بانا” اليونانية بمعنى “كلّي” أو “عالمي”.
• في بعض اللغات الرومانية أو الجذر السامي، قد تدل الكلمة على مكان مخصص للعبور أو التجارة.

السياق التاريخي والجغرافي

يقع موقع “عين جاوان” في “القطيف / صفوى” بمحافظة المنطقة الشرقيّة في المملكة العربية السعودية، على بعد حوالي 3 كلم من ساحل الخليج العربي، شمال غرب مدينة صفوى . يمتد الموقع على مساحة تقدّر بحوالي  [200 هكتار]، وهو من أكبر المستوطنات الأثرية المعروفة في المنطقة .

موقع مدفن عين جاوان من الجو مأخود من قوقل أيرث

التاريخ والتسلسل الطبقي

تشير الدراسات إلى أن الموقع شهد “سبع طبقات آثار” ضمن ثلاث مراحل زمنيّة رئيسية:
• المرحلة الأولى تعود إلى ما قبل القرن الرابع قبل الميلاد.
• تليها فترات تعود إلى العصر الهلنستي، والروماني، والبيزنطي، تمتد حتى القرن السادس الميلادي.
• يُعتقد أن هذا الموقع هو ذاته الذي أشار إليه بطليموس باسم مستوطنة بلبانا “Bilbana”، وهو ما يُعزّز ارتباطه بالتجارة والتواصل بين الخليج ومناطق البحر المتوسط .

المعالم الأثرية والاكتشافات
المدفن الحجري “Jawan Tomb”: يضم المدفن الحجري المعروف باسم مدفن عين جاوان (Jawan Chamber Tomb) رفات تتراوح من ستة إلى تسعة عشر شخصًا ممدّدين في قاعات حجرية، تتميز ببنية معمارية محكمة من الحجر الجيري المحلي، وتمتلئ بعظام بشرية، أجزاء فخارية، أدوات من البرونز والزجاج، وأوانٍ صغيرة. وأكثر ما يدهشك في هذا الموقع، ليس فقط معمار البيوت، بل معمار الموت ذاته. في قلب مستوطنة بلبانا “Bilbana Settlemen”، تقع “غرفة الدفن الصخرية” ذلك البناء الذي يُمكن أن يُصنّف بأنه “معبد للرحيل”.

موقع مدفن عين جاوان

غرفٌ تحت الأرض، محفورة ومبطّنة بعناية، تحوي مدافن جماعية لنساء ورجال، من أعمار متعددة، وكأن الموت هنا لم يكن نهاية، بل اجتماعًا. دفن الناس على هيئة الامتداد، لا الجلوس. الأجساد تُوجَّه باتجاه محدد، كما تشير بعض التحليلات، مما يوحي بنظام اعتقادي يربط بين الاتجاه والخلود. حول الأجساد، وُضعت الجرار الفخارية الصغيرة، وأوانٍ زجاجية دقيقة الصنع، بعضها مملوء بزيوت عطرية، أو رماد، أو تراب مقدّس، كما لو كانت الهدايا الأخيرة من الأحبّة للأبدية.

تركت الحضارات المختلفة منشآت حجرية ومباني طينية مخلوطة ومغطاة بطبقة من الجبس الأبيض، بالإضافة إلى مقابر صغيرة، وقطع فخارية فريدة، وبعض النصوص المكتشفة بالخط المسند القديم (Musnad), ومن بينها نقش قبر امرأة تدعى (Jashm Bint Amrah Bin Tahiyu) “جشم بنت عمرة”، نُقش اسمها بالخط المسند، مُذيّلاً باسم القبيلة: “شدّوب”. والسؤال ما الذي يجعل إنسانًا ينقش اسم امرأة على حجر، ويتركه عبر الدهور؟ إنها ليست لحظة حداد، بل إعلانٌ أن الإنسان، حتى وهو يرحل، يُريد أن يُروى اسمه.

الرؤية العلمية الإنسانية
هذا الموقع يجسد قصة تواصل حضاري بين الشرق والغرب، يتجاوز حدود الزمان والمكان. إنه ليس مجرد حصيلة صخرية مضى عليها الزمن؛ بل (توراة تراثية) منفتحة على ألوان الإنسان وكل ما صنعه. حيث جمعت في طوابقها الأولى إرهاصات حضارة الخليج ما قبل الميلاد، وانتقلت عبر أزمنة الفتوحات الهلنستية إلى تبنّي ثيمات الاستقرار الروماني، حتى بزوغ العصر المسيحي المتأثر بالبيزنطيين. تكشف البقايا المدفونة بين الرمل عن قصة امرأة، “جشم” (Jashm)، إبنة من قبيلة محلية، مدونة بنقش من معنى أسطر تاريخها في قلب هذا المكان؛ وهو دليل أنّ الأنثى كان لها وجود ووجودها على الرماد الذي لم يندثر.

في مستوطنة بلبانا “Bilbana”، لا حدود فاصلة بين “المعمار والطقس”. الجدران تحتفظ بأثر الملبس، بدخان الطعام، وأقدام الأطفال، لكنها أيضًا تحفظ أثر التبخير، والنداء، وتراكماتها الرمزية. لقد بُنيت الأماكن كما لو كانت مرايا للسماء، بحيث يكون السقف مفتوحًا في مواضع محددة، يُمكن من خلالها أن تنزل الشمس إلى قلب المنزل، أو تُشاهد النجوم أثناء الطقس. نُقلت بعض الأحجار بعناية من مناطق بعيدة، دلالة على أهمية شعائرية أو سياسية لذلك الحجر. حتى اختيار مادة البناء نفسها كان فعلًا ذا وعي ديني أو أسطوري، وليس مجرد مسألة تقنية.

الروح في ظل المعمار
لا يمكن قراءة مستوطنة بلبانا “Bilbana” على أنها موقع أثري فقط، بل إنها نصّ روحي مادي. يتقاطع فيه المعمار مع الطقس، وتتداخل فيه الممارسات اليومية مع الأسطورة. هنا، تقرأ كيف تعامل الإنسان القديم مع الفقد، كيف واجه الفناء، وكيف حوّل موته إلى بناء، واسمه إلى نقش، وسكونه إلى فخارٍ يتكلّم

الرؤى المستقبلية والبحثية
• من الضروري استمرار الحفريات العلمية المنهجية لاستكشاف الطبقات الأعمق وربطها بطبقات الحضارات المتعاقبة.
• تحليل الفخار والنصوص والخزف الزجاجي يمكن أن يوفر أدلة حول شبكات التبادل التجاري، خصوصاً بين الخليج ومنطقة البحر المتوسط.
• ترسيخ الهوية الإقليمية من خلال تسليط الضوء على [Bilbana Settlement] كمحطة رئيسية في الثقافة المائية والتجارية للمنطقة.

في الختام،،،

مستوطنة بلبانا “Bilbana Settlemen” (عين جاوان) ليست مجرد بقايا أثرية، ولم تكن مجرد مستوطنة، بل كانت مدينة صغيرة تُصلّي، تتزيّن، تحبّ، وتودّع. كانت قصةً من لحم وتراب، من نور وحجارة.

وإذا كان الجغرافيون القدامى سجّلوها على الخرائط، فذلك لأنهم أحسّوا أن في هذه البقعة شيءٌ لا يموت، شيء يستحقّ أن يُذكر. وكانت نصٌّ من الماضي يحكي عن الإنسان وتواصله.

على مساحة تمتد بكبرياء، حيث يحمل الموقع في طياته حلم الإنسان القديم بخريطة الحياة: المدافن، المباني، الكتابات، والفخار، كلُّها تعزف نغمة حضارة قابلة للاستئناف والنهوض من جديد.

طريق الحفريات لم ينتهِ بعد، والقصة لم تُكمل بعد، حيث أن مستوطنة بلبانا “Bilbana”، تقف شاهداً على امتداد الإنسان عبر الأزمنة، وعلى إلتقاء الشرق والغرب في قلب الجزيرة.

المهندس صادق علي القطري

المصادر العربية والإنجليزية الرئيسية:
• Ain Jawan Archaeological Site – مدوّنة Saudipedia مرجع غني يقدّم لمحة شاملة عن الموقع، موقعه في القطيف، التاريخ الزمني (من القرن الرابع قبل الميلاد حتى القرن السادس الميلادي) ، الاكتشافات وخاصة المدفن المكتشَف (Jawan Tomb)، والربط بالمستوطنة المعروفة باسم Bilbana Settlement عبر المخطوطات الجغرافية القديمة.
• Jawan Tomb (مدفن جاوان) – مقالة Wikipedia الإنجليزية تشرح تفاصيل المدفن الحجري (Jawan Chamber Tomb)، وتربط الأسم التاريخي للموقع بـBilbana Settlement حسب ما ورد في خرائط بطليموس، وتقدّر امتداد موقع Ain Jawan ويشمل عدة فترات تاريخية .

مقالات وسياق أوسع للأبحاث الأثرية في المنطقة
• Antiquities in the Eastern Province – ملف Saudipedia حول الآثار في المنطقة الشرقية يضمن ذكر Ain Jawan ضمن قائمة المواقع الأثرية في المنطقة الشرقية، اهتماماً بالمواقع التاريخية التي تمتد إلى آلاف السنين، منها التي ترجع إلى ما قبل الإسلام
• UNESCO World Heritage Centre – Prehistoric Stone Structures in Saudi Arabia يتناول التحولات الثقافية خلال العصر النحاسي والعصر البرونزي في شبه الجزيرة العربية، مما يوفر سياقًا أوسع لفهم زمنية Ain Jawan وتطور الاستيطان الإقليمي whc.unesco.org
أبحاث أكاديمية وصحف أثرية حديثة
• Proceedings of the Seminar for Arabian Studies مجموعة مقالات حول الاستيطان النيوليتي والعصر البرونزي في جزيرة العرب، والتي تساهم في توفير خلفية علمية للتحولات المستوطنة بما فيها Ain Jawan
• Bronze Age town discovered in Khaybar Oasis – صحيفة Saudi Gazette خبر عن اكتشاف بلدة برونزية في واحة خيبر، يقدم رؤية عن مبادرات البحث الحالية في المملكة، ويمكنه أن يساعد في فهم الأطر الزمانية والمكانية للمواقع الأثرية التابعة للعصور القديمة
• https://saudipedia.com/en/article/2206/history/landmarks-and-monuments/ain-jawan-archaeological-site?utm_source=chatgpt.com “Ain Jawan Archaeological Site – Saudipedia”
• https://en.wikipedia.org/wiki/Jawan_Tomb?utm_source=chatgpt.com “Jawan Tomb”

مقالات للمؤلف:
• https://www.qatifscience.com/?p=18295
• https://www.qatifscience.com/?p=21999

تعليق واحد

  1. المهندس صادق القطري
    مقال علمي وتاريخي رائع وشيق امل من الباحثين المتخصصين كتابة تراث القطيف وخاصة حرثة البناء وأشهر البنائين وهل استفادوا من الحضارات السابقه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *