إلى كل باحث عن ملامح الحضارات المدفونة تحت رمال الخليج…
إلى من يؤمن أن كل حجر صامت كان ذات يوم قلبًا نابضًا…

مدخل إلى الأسطورة
في خرائطٍ أكلتها العصور، وخطوطٍ بحرية رسمها الملاحون اليونان على ألواح البرونز والجلد، تتكرّر أسماء مدنٍ ومرافئ لم تعد موجودة على خرائطنا الحديثة. من بين تلك الأسماء، يسطع نجم موضعٍ غامض يُدعى “ليانيتي” (Leaniti أو Leanitai)، ورد ذكره في سجلات الجغرافيين الإغريق، ومنهم بطليموس في مؤلفه “الجغرافيا”، بوصفه مرفأً هامًا يقع شرق شبه الجزيرة العربية، على ضفاف الساحل المقابل لفارس، في منطقة يُرجَّح أنها قريبة من القطيف أو ما جاورها في الزمن المعاصر.
الاسم والمعنى: هل تكشف اللغة أسرار الأرض؟
الاسم “Leanitai” باليونانية (Λεανῖται) قد يكون تصغيرًا أو اشتقاقًا من جذر يشير إلى جماعة أو شعب محلي. يرى بعض الباحثين أن الاسم ربما يرتبط بجذور سامية أو ما قبل ساميّة، حيث يُحتمل أن يكون مُعرّبًا من اسم قبيلة أو مستوطنة محلّية، أُعيدت كتابته بالحروف الإغريقية.
في هذا السياق، تقارن بعض الدراسات الحديثة بين “لينيتاي ” ومستوطنة في شرق الجزيرة كانت تنشط في تجارة البخور واللؤلؤ، وهو ما يُعزّز من فرضية قربها من القطيف أو سواحل جزيرة تاروت، حيث ازدهرت موانئ قديمة مثل “جرهاء”، و”ثارو”، و”ثيرميدوس”.
بين الأسطورة والجغرافيا: أين كانت ليانيتي؟
الخرائط الإغريقية تضع “ليانيتي” في موقع استراتيجي بين الخليج العربي (الخليج الفارسي) وطرق التجارة البحرية المؤدية إلى الهند وشرق أفريقيا. وقد ورد ذكرها ضمن سلسلة من المحطات الساحلية التي تُمثّل مرافئ محلية تتعامل مع التجار القادمين من الجنوب (اليمن والهند) والشمال (بلاد فارس وبلاد الرافدين).
الاحتمالات الجغرافية لموقع “ليانيتي” تشمل:
• جزيرة دارين أو تاروت في الساحل الشرقي للسعودية.
• المنطقة المعروفة حاليًا باسم العوامية أو القطيف، نظرًا لوجود بقايا ميناءٍ أثري وعيون مائية قديمة.
• بعض الباحثين يربطون الاسم بمرافئ قديمة تقع شمال الأحساء.
الوظيفة والدور الحضاري
من المرجّح أن “ليانيتي” لم تكن مجرد نقطة على خارطة، بل كانت مرفأً نشطًا في شبكة التجارة البحرية الإقليمية، تستقبل السفن التي تحمل التوابل، البخور، العاج، الحرير، واللؤلؤ، وتُعيد تصديرها إلى الموانئ الكبرى مثل “أوبار”، و”سيراف”، و”الصحار”، وحتى “السويس” و”رودس”.
وجود اسم “ليانيتي” إلى جانب مدن شهيرة في مدوّنات الإغريق يدل على أهميتها، لا سيما وأن خرائط بطليموس لم تكن تُدرج إلا المرافئ ذات الشأن الاقتصادي أو الجغرافي أو الديني. ومن هنا يُمكننا القول إن ليانيتي كانت صلة وصلٍ بحرية بين حضاراتٍ مختلفة، تركت أثرها في الخليج حتى لو اندثرت آثارها.
الغياب الغامض: لماذا اختفت ليانيتي؟
كغيرها من المدن القديمة، ربما اختفت “ليانيتي” نتيجة لتحولات جيولوجية، أو بسبب تغير في مسارات التجارة، أو انهيار شبكات الري والعيون، أو حتى بسبب اجتياحات سياسية واجتماعية. وربما غمرتها مياه البحر، كما حدث مع أجزاء من “أور”، و”دلمون”، و”الجرهاء”, لكن اختفاء الاسم لا يعني نهاية الوجود؛ فقد تكون آثار “ليانيتي” باقية في نقوش صامتة، في تربةٍ لم تُحفَر بعد، أو في ذاكرة أسماء القرى التي نعيش فيها اليوم.
في الختام: نداءٌ للباحثين
“ليانيتي” ليست مجرد لغزٍ تاريخي، بل مرآة لحقبةٍ كانت فيها سواحل الجزيرة العربية محجًّا للتجارة العالمية، ومفترق طرق للثقافات. نحتاج إلى دراسات ميدانية وأثرية متعمّقة، تجمع بين علم الخرائط القديمة، والجيولوجيا، وعلم اللغات، وعلم الآثار، لتُزيح النقاب عن تلك المدينة الساحلية التي قد تكون ترقد بصمتٍ تحت ترابٍ يعرف الحقيقة.

مصادر مقترحة للبحث المتعمق:
• بطليموس، “الجغرافيا” (Ptolemy’s Geographia)
• كتاب “الطواف حول البحر الإريتري” (Periplus of the Erythraean Sea)
• Wilhelm Tomaschek: Historical Topography of Arabia
• H. W. Vincent: Commerce and Navigation in the Ancient Arabian Gulf
• J. Innes Miller: The Spice Trade of the Roman Empire
• دراسات حول الخرائط الهلنستية للجزيرة العربية من قبل معهد الدراسات الشرقية في جامعة شيكاغو.
في كل مرة تأخذنا في رحلة تغوص ونغوص معك وترينا من المعالم والاثار الدفينة في هذه الأرض الطيبة الضاربة في القدم نكاد نراها ونلمسها ..
يالك من بارع رائع.. شكراً لك عزيزنا أبى حسام
الف شكر عزيزي ابو مازن على الاطراء الجميل ومثلك وامثالك يشجعني ان اقدم الافضل وتاريخ ارضنا فيها من الكنوز التاريخية ما لا نهاية له وتبحث عمن يستكشفها ويظهرها وينظف التراب واغبار عنها ويظهرها الى العلن. تحيات من القلب لك عزيز ابا مازن