لا تنتظروا رحيلهم… – بقلم صادق علي القطري

إلى كل ابنٍ ضائع في زحمة الحياة، وإلى كل ابنةٍ غافلة بين مشاغل الأيام، توقّفوا قليلًا، اصمتوا، أنصتوا…

فصوت أقدامهم في البيت وهم يتحركون، تنهيداتهم، دعاؤهم لكم في السحر، ونظراتهم الحانية حين تمرّون، أشياء ستفتقدونها ذات يوم، حين لا يعود في البيت سوى الصمت، والجدران تبكي “برفقتكم” الحنين.

أيها الابن…
يا من تظن أن الوقت طويل، وأن الوالدين باقون ما بقيت الشمس، اعلم أن الأيام تُسرق بسرٍ عجيب، وأن الرحيل لا يُمهل، وأن بعد الغياب لا تُجدي المكالمات، ولا تنفع الرسائل، ولا الصور، ولا حتى بكاء الندم.

وأنتِ يا ابنة القلب …
يا من تؤجلين الزيارة، والاتصال، والابتسامة، أتعلمين كم مرّة نظر أبوكِ إلى الباب في انتظاركِ؟ وكم مرّة مشت أمكِ إلى المطبخ لتجهز شيئًا تحبه ذاكرتكِ؟ ثم جلست دون أن تأتي…تذكّري أن قلب الوالدين، لا يُعوّض، وأن عناقًا واحدًا، قبل الرحيل، خيرٌ من ألف كلمةٍ على قبرٍ صامت.

ما زال الوقت، وإن كان ضيقًا، وما زالت أرواحهم تنبض في زوايا البيت، فلا تنتظروا أن يصير الفراش خاليًا، ولا أن تعلّقوا صورهم على الجدران وتقولوا: “آه، لو عدنا يومًا واحدًا فقط…” فذاك اليوم لن يعود.

برّوهم في حياتهم، واسقوا قلوبهم بالدعاء، والرعاية، والكلام الطيب، وقبّلوا أيديهم، فربما لا تُتاح لكم الفرصة مرةً أخرى. وإن كنتم بعيدين، اقتربوا… وإن كنتم مشغولين، تفرغوا… لأن الحياة لن ترحم من أدار ظهره للحنان حين كان قريبًا. فالندم على فقد الأحبة… وجع لا يزول، وصمت لا يُداوى.

فيا ربّ، يا من جعلت رضا الوالدين من رضاك، وجعلت الجنّة تحت أقدام الأمهات، يا من ترى الدمع إذا فاض من أعيننا على قبورهم، وترى الحنين حين تختنقه صدورنا كلما تذكرنا ملامحهم…

اغفر لهم، وارحم ضعفهم، كما رحمونا صغارًا. وأكرم نُزُلهم، كما أكرمونا حين كنّا بلا حول. وأطلّ بنورك على قبورهم، كما أطلّوا علينا في الليالي المظلمة بالدعاء، والسهر، والحب، والأمان.

اللهم إن كانوا أحياءً، فزِد في أعمارهم صحةً وعافيةً ورضا، واجعلنا قرة أعينهم، وبرًّا لا ينقطع. وإن كانوا تحت التراب، فأنزل عليهم رحماتك، وأبدلهم دارًا خيرًا من دارهم، وأكرمنا بصدق الدعاء لهم، وبرّهم في غيابهم كما كنّا نتمنّى في حضورهم.

يا الله…
لا تحرمنا لذّة النظر إليهم، وسماع أصواتهم، وعبارة: “رضيت عنك يا ولدي… رضيت عنكِ يا بنيّتي”. فإن رضوا… رضيت.

وخير الختام قول رب العزة والجلال في محكم كتابه: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء: 23].

وقوله تبارك وتعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [سورة لقمان، الآية 14].

وقوله تعالى: (وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حُسۡنٗاۖ وَإِن جَٰهَدَاكَ لِتُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَآۚ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ) [سورة العنكبوت، الآية 8].

المهندس صادق علي القطري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *