الميكروبلاستيك: الغزو الصامت من أعماق المحيطات إلى المشيمة – بقلم الصيدلي غسان علي بوخمسين

في العقود الأخيرة، أصبح التلوث البلاستيكي أحد أخطر التحديات البيئية التي تواجه الكوكب، حيث يقدر الإنتاج العالمي منه حوالي 350 مليون طن سنوياً وهو رقم كبير جداً. مشكلة البلاستك انه يحتاج زمناً طويلاً جداً للتحلل قد يصل لقرون، وهذا يشكل تهديداً بيئياً محدقاً.

من أحد أمثلة هذا الإسراف والإجرام بحق كوكبنا الأزرق الجميل، هو وجود بقعة هائلة المساحة،  يمكن تسميتها قارة ثامنة ل (نفايات البلاستك) في شمال المحيط الهادي بين كاليفورنيا وهاواي مساحتها تقدر ب 1.6 مليون كيلومتر مربع، وتتراكم فيها النفايات البلاستيكية مشكّلة دوامة نفايات تتكون من كميات هائلة من الحطام البلاستيكي الذي قادته التيارات المحيطية إلى هناك، تحتوي على 1.8 مليار قطعة من البلاستيك العائم الذي يقتل آلاف الحيوانات البحرية كل عام. تتكون من العبوات والشبكات والأسلاك والأكياس التي تطفو على سطح الماء.

واكتشف الباحثون في هذه النفايات أنواعًا من الحيوانات الساحلية القادرة على التعايش مع هذا المحيط. وعلى الرغم من مساحتها الشاسعة ، فإن رقعة القمامة الكبرى في المحيط الهادئ غير مرئية للأقمار الصناعية، حيث أن 94٪ منها تتكون من شظايا بلاستيكية دقيقة تآكلت من قطع أكبر. وتحتوي على 80 ألف طن من البلاستيك ، وفقًا لدراسة علمية نُشرت في مجلة (Nature) في عام 2018، وهي واحدة من أكبر الأزمات البيئية التي يعاني منها الكوكب. 

قارة البلاستك في المحيط الهادي

{من أين تأتي هذه الجزيئات؟} 

الميكروبلاستيك ليس مجرد نتاج تحلل المخلفات البلاستيكية، بل هي جزء من نظام إنتاجي معقد: 

  1. المصادر الأولية (المباشرة):

   أ- مستحضرات التجميل: حتى عام 2018، كانت 93% من منتجات التقشير تحتوي على “ميكروبيدات” بلاستيكية، وفقاً لمنظمة “بيو”. 

  ب- صناعة النسيج: غسيل قطعة ملابس واحدة من البوليستر تُطلق 700,000 جزيء بلاستيكي، يتسلل 35% منها إلى المحيطات. ينتج حوالي 35% من الملابس المصنوعة من البوليستر ومواد اصطناعية أخرى. دراسة أجريت في عام 2016 وجدت أن غسل الملابس يمكن أن يطلق ما يصل إلى 1900 جزيء من الألياف البلاستيكية في كل غسلة.

 ج- إطارات السيارات: تحتل المرتبة الثانية كمصدر للميكروبلاستيك عالمياً، حيث تُطلق 20-30% من وزنها جزيئات أثناء الاحتكاك. 

 د- أكياس الشاي تعتبر واحدة من مصادر الميكروبلاستيك. وذلك للأسباب التالية:

  1. مواد الصنع: بعض أكياس الشاي، خاصة تلك التي تُعتبر “التقليدية” أو “المقرونة بالسعر المنخفض”، قد تكون مصنوعة من البلاستيك أو تحتوي على طبقة بلاستيكية داخل الأكياس الورقية لتعزيز متانتها ومنع تسرب المواد الصلبة.
  2. التآكل عند التسخين: عند تعرض أكياس الشاي للماء الساخن، يمكن أن تتحلل مواد البلاستيك أو الألياف الاصطناعية إلى جزيئات صغيرة جدًا تُعرف بالميكروبلاستيك. دراسة منشورة في مجلة (Environmental Science & Technology) في عام 2019 وجدت أن أكياس الشاي المصنوعة من الألياف البلاستيكية يمكن أن تطلق ما يصل إلى 11.6 مليار جزيء من الميكروبلاستيك في كل كوب من الشاي.
  3. الألياف الاصطناعية: حتى الأكياس التي تبدو وكأنها مصنوعة من الورق قد تحتوي على ألياف بلاستيكية أو معالجة بمواد كيميائية تربطها بالبلاستيك، مما يؤدي إلى إطلاق الميكروبلاستيك عند تعرضها للماء الساخن.
  4. العديد من أكواب الورق المستخدمة للمشروبات الساخنة أو الباردة مغلفة بطبقة رقيقة من البلاستيك أو المواد البلاستيكية (مثل البولي إيثيلين) لمنع التسريب. هذا الطلاء يجعل الكوب قادرًا على الاحتفاظ بالسوائل دون تسرب، لكنه أيضًا يعني أن البلاستيك يمكن أن يتآكل أو ينفصل إلى جزيئات ميكروبلاستيك عند التعرض للماء الساخن أو البارد، أو بمرور الوقت.
مصادر الميكروبلاستك

بعض الدراسات الحديثة قد أظهرت أن تعرض أكواب الورق للماء الساخن يمكن أن يؤدي إلى إطلاق جزيئات ميكروبلاستيك. على سبيل المثال، دراسة نُشرت في مجلة “Environmental Science & Technology” في عام 2021 وجدت أن أكواب القهوة الورقية تطلق جزيئات ميكروبلاستيك في السوائل الساخنة.

  1. المصادر الثانوية (غير المباشرة):
  • تحلل البلاستيك الكبير: تحتاج زجاجة ماء واحدة لـ 450 سنة لتتحول إلى ميكروبلاستيك، مُطلقةً خلال ذلك سمومًا مثل الفثالات. تقدر الأبحاث أن 8 ملايين طن من البلاستيك يتم إلقاؤه في المحيطات كل عام، وجزء كبير منها يتحلل إلى ميكروبلاستيك. استنادًا إلى دراسة من عام 2017، يمكن أن يكون هناك 51 تريليون جزيء ميكروبلاستيك على سطح المحيطات.
  •    ب- الصناعات التحويلية: عمليات قطع أو تآكل البلاستيك في المصانع تُنتج غباراً بلاستيكياً يتسرَّب إلى الهواء والماء. 
  1. مصادر مُفاجئة:
  • أحبار الطباعة ثلاثية الأبعاد: تحتوي على جزيئات نايلون دقيقة. 
  • السجائر الإلكترونية: سائل الاستبدال ينشر جزيئات بلاستيكية في الرئتين. 

{رحلة الميكروبلاستيك من المحيط إلى خلايا الجسم} 

تتبع العلماء مسار هذه الجزيئات فاكتشفوا أنها تُشكل شبكة تلوث غير مرئية: 

أ – في البيئة: 

  1. تلتقط المحيطات 8 مليون طن بلاستيك سنوياً، 15% منها يتحول لميكروبلاستيك. 
  2. في التربة، تُعطل الجزيئات نشاط الكائنات الدقيقة المسؤولة عن خصوبة الأرض، مما يُهدد الأمن الغذائي. 
  3. تصل إلى الغلاف الجوي عبر العواصف الترابية، وتُسقطها الأمطار في مناطق نائية مثل القطب الشمالي. 
  4. الهواء الداخلي: يُطلق سجادة واحدة  9,000 جزيء بلاستيكي/م³ يومياً، وفقاً لـ [*Environmental Science & Technology].

ب – في السلسلة الغذائية: 

  1. دراسة في المحيط الهادئ وجدت أن العوالق البحرية تبتلع الجزيئات، ثم تنتقل إلى الأسماك الصغيرة، فالكبيرة، ليصل تركيزها في جسم التونة إلى 40 ضعفاً مقارنة بمياه المحيط. 
  2. في اليابان، اكتُشف أن 74% من أسماك السوق تحتوي على ميكروبلاستيك. 

ج – في جسم الإنسان: 

  1. الجهاز الهضمي: دراسة في فيينا (2022) وجدت 20 جزيء بلاستيك في كل جرام من براز الأطفال. 
  2. المشيمة: تحليل 6 مشائم في إيطاليا (2020) كشف وجود 12 جزيء بلاستيكي، بعضها قادر على عبور الحاجز الدموي الدماغي. بل وجدت في دراسة حديثة أنه قد يكون سبباً للجلطات الدماغية!
  3. الدم: اكتشفت جامعة أمستردام (2022) جزيئات بولي إيثيلين في 77% من عينات الدم البشري. 
رحلة الميكروبلاستك في البيئة

{الآثار – بين التسمم البطيء والانهيار البيئي} 

الخطر لا يكمن في وجود البلاستيك نفسه، بل في كونه “إسفنجة كيميائية”: 

أ- السموم المُصاحبة: 

  1. تمتص الجزيئات مواد مسرطنة مثل ثنائي الفينيل متعدد الكلور (PCBs) بتركيز أعلى مليون مرة من الماء المحيط. 
  2. يحتوي الميكروبلاستك على إضافات سامة مثل (BPA) المسببة لاختلال الهرمونات، والفثالات المُضعفة للخصوبة. 

ب- التأثيرات الصحية: 

  1. التهاب الأنسجة: أشكال الجزيئات الحادة تُسبب جروحاً مجهرية في الأمعاء. 
  2. اضطراب الميكروبيوم: البلاستيك يقتل البكتيريا النافعة، وفق دراسة في مجلة (Science). 
  3. السرطان: جزيئات البوليسترين تُحفز تكوين الجذور الحرة في خلايا الكبد. 
  4. التأثير على الأطفال: يوجد مخاوف خاصة بشأن الأطفال. دراسة أظهرت أن الأطفال يبلعون ما بين 50,000 إلى 90,000 جزيء من الميكروبلاستيك سنويًا عن طريق الطعام والشراب.
  5. الكمية التي يبتلعها الفرد في المتوسط أسبوعيا من الميكروبلاستك حوالي 5 غرامات ، أي ما يعادل وزن بطاقة ائتمان، وفقاً لدراسة جامعة نيوكاسل (2020). 
  6.  93% من المياه المعبأة تحتوي على جزيئات بلاستيكية، بحسب منظمة “أورب ميديا”.
الآثار السلبية للميكروبلاستك على صحة الإنسان. تعمل المواد البلاستيكية الدقيقة كحامل للمعادن الثقيلة ومسببات الأمراض، والتي تظهر سمية مختلفة وتحفز العديد من العوامل الفسيولوجية المرضية. تسبب هذه الوسائط الفسيولوجية المرضية في وقت لاحق العديد من الاضطرابات الفسيولوجية والمضاعفات المزمنة.

ج. الكارثة البيئية: 

  1. الشعاب المرجانية: وجود البلاستيك يزيد احتمالية إصابتها بالأمراض من 4% إلى 89%. 
  2. الطيور البحرية: 90% منها لديها بلاستيك في المعدة، مما يخفض معدل تكاثرها بنسبة 30%. 

{الحلول – بين التكنولوجيا وتغيير السلوك}  

مواجهة الأزمة تتطلب ثورة في ثلاث جبهات: 

 ثمة عدة حلول لمكافحة هذه المشكلة يحاول العلماء تجربتها ودراستها:

  1. الحلول التكنولوجية:
  • مرشحات الغسيل: مثل (Guppyfrie)، التي تقلل تسرب الألياف بنسبة 86%. 
  • المفاعلات الحيوية: بكتيريا (Ideonella sakaiensis) تلتهم البولي إيثيلين في أسابيع. 
  • التعقب بالذكاء الاصطناعي مشروع (The Ocean Cleanup) يستخدم خوارزميات لتوقع مسارات التلوث، وقد عمل هذا المشروع جيداً في تعقب بقعة النفايات العملاقة في المحيط الهادي وتنظيفه من النفايات.
  1. السياسات العالمية:
  • اتفاقية باريس للتلوث البلاستيكي (2024): تهدف لخفض الإنتاج 50% بحلول 2030.  ولكن مشكلة هذه الاتفاقية هو عدم وجود توافق وتعاون دولي كاف لصمان فعاليتها واستمراريتها، لذلك هي معطلة تقريباً.
  • تجريم التلوث النانوي: كما فعلت فرنسا بمنع البلاستيك الدقيق في المنظفات (2025). 
  1. المبادرات الفردية:
  • الملابس المستدامة: اختيار ألياف التنسيل (مصنوعة من لب الأشجار) بدل البوليستر. 
  • الاقتصاد الدائري: تطبيقات مثل (Precious Plastic) لتحويل النفايات المنزلية إلى منتجات قابلة للاستخدام. 

لدي تجرية شخصية عمرها حوالي 10 سنوات، حيث أحرص على شرب المياه المرشحة في فلتر منزلي في عبوات زجاجية او المونيوم،  والابتعاد قدر الإمكان عن العبوات البلاستيكية، كذلك استعمال أكواب خزفية لتناول المشروبات الساخنة واستعمال فلتر معدني لأوراق الشاي الكاملة وعدم استخدام أكياس الشاي قدر الإمكان، من اجل تقليل تناولي للميكروبلاستك.

 {المستقبل – سيناريوهات مرعبة وأمل ضئيل} 

إذا استمر الوضع الحالي: 

  • بحلول 2050، سيتفوق وزن البلاستيك في المحيطات على وزن الأسماك. 
  • 99% من الطيور البحرية ستكون حاملة للبلاستيك في أحشائها. 
  • قد ترتفع نسبة العقم البشري إلى 40% بسبب اضطرابات الغدد الصماء. 

{خاتمة القول}

الميكروبلاستيك هو ليس مجرد تهديد بيئي، بل هو قنبلة موقوتة تهدد صحة البشرية جمعاء. بينما تُظهر الإحصاءات أن 99% من الطيور البحرية ستتناول البلاستيك بحلول 2050 إذا استمرت الاتجاهات الحالية، فإن الحلول ممكنة عبر تعاون عالمي واستثمار في الابتكار. كل خطوة، من فصل النفايات إلى دعم التشريعات الصارمة، تُحدث فرقاً في معركتنا ضد هذا العدو الخفي.

الميكروبلاستك مرآة تعكس تناقض حضارتنا،  نبتكر مواد تدوم مئات السنين لنستخدمها في دقائق.

التحدي الآن ليس تنظيف المحيطات، بل إعادة هندسة علاقتنا مع الطبيعة. كما قال الفيلسوف بيتر سنجر: “الأخلاق ليست كيف نتعامل مع البشر فقط، بل مع كل كائن تصل إليه آثار أفعالنا”. ربما حان الوقت لنسأل أنفسنا: هل نستحق أن نرث الأرض، إن كنا نترك لأحفادنا كوكباً مسرطناً بجزيئات غبائنا؟

علينا أن نكون أكثر  وعياً وحساً بالمسؤولية، ونصلح الوضع قبل فوات الأوان.

الصيدلي غسان بو خمسين

تعليق واحد

  1. بارك الله فيك وفي قلمك🤲
    وشكراً🌹 لك على هذا المقال الرائع والثري والخطير في نفس الوقت
    للاسف
    إن هربت من البلاستيك في شيء ستقع في غياهب أشياء أخرى يحتويها البلاستيك 😭

    لا مفر
    ولا مناص
    إلا أننا نرجع إلى العصر الحجر ونستخدم الفخار🥲
    بالفعل علينا بالوعي الجمعي فهو سلاحنا الحقيقي لتنجنب تفاقم وتعاظم حجم هذا المارد الذي سيبتلع كل شيء من حوله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *