تاريخ حملات التنقيب عن الاثار في القطيف التاريخية (الجزء الثاني) – بقلم صادق علي القطري

عندما نتحدث عن القطيف التاريخية فنحن نتحدث عن منطقة شاسعة تمتد من الشمال من حدود البصرة (في العراق حاليا) الى عمان في الجنوب ومن الاحساء في الغرب الى جزر الخليج في الشرق (البحرين تاروت دارين وغيرها) اي المنطقة الشرقية بأكملها من المملكة العربية السعودية.

هذه المنطقة الشاسعة من الأرض وموقعها الاستراتيجي الواقعة بين مراكز الحضارات القديمة جعلها تتبوأ وتلعب أدوارا حيوية في تاريخ الحضارات القديمة، فمن الشمال تقع حضارات بلاد الهلال الخصيب متمثلة بحضارة ما بين النهرين (حضارة بلاد الرافدين) وحضارة بلاد الشام وسواحل البحر المتوسط (حضارة الفينيقيين واليونانيين) ومن الجنوب ممالك وحضارات شبة الجزيرة العربية ومن الشرق حضارة بلاد فارس ومن خلفها حضارات بلاد الهند والسند والحضارات الاسيوية الاخرى. فهي حضارة قديمة يعود تاريخها لأكثر من 3500 عاما قبل الميلاد.

خريطة مصغرة للخليج الفارسي نُشرت عام 1602، من المجموعة الأولى من اللوحات المستخدمة لتوضيح “تابلاروم جيوغرافيكاروم كونتاروم” لبرتيوس. القطيف تظهر باسم “كاتيفا”. مصدر الصورة: http://arabian-anthropology.blogspot.com/

في هذا الجزء سنتحدث عن البعثات الأجنبية وجزء من بعثة الاثار الوطنية السعودية ووكالة الآثار والمتاحف السعودية على التوالي:

بعثات الاثار الرسمية الأجنبية
بعثة الاثار الدانمركية:
توماس جيفري بيبي هو من قاد البعثة الدنماركية الأولى إلى جانب زميله ومعلمه بيتر غلوب، وهو من انشغل بالبحث عن الحضارات في كل مكان وتعلم اللغات الشرقية ولهذا الغرض تنقل من بلد إلى آخر إلى أن حل بالبحرين ومن ثم انتقل الى باقي الدول الخليجية الاخرى.

يرجع لتوماس جيفري بيبي الفضل في تحريك السكون المخيم على أعمال التنقيب عن الآثار والشواهد الدالة على حضارتها الإنسانية القديمة، وتمكن بجهوده وعلمه من إدخال البحرين ومناطق الخليج العربي كلها ضمن دائرة الحضارات العريقة، فصار يُعرف بـ “مكتشف حضارة دلمون”، و”رائد الأبحاث الأركيولوجية العربية” والعالم الذي وضع حدًا للتساؤلات الطويلة حول مكان “مملكة دلمون” التي ورد ذكرها في الواح ملحمة جلجامش السومرية قبل حوالي 2100 سنة قبل الميلاد.

قدمت هذه البعثة الى المنطقة الشرقية من البحرين في عام 1968م ولمدة ثلاث شهور حيث قامت من خلالها بإجراء مسح شمل الأجزاء الداخلية، والسهل الساحلي، وبعض الجزر الواقعة في الخليج العربي، وواحة يبرين جنوباً حتى وادي الفاو. بالإضافة إلى ذلك، قامت بتنفيذ بعض المجسات الاختبارية في بعض المواقع مثل: موقع ثاج، والرفيعة، وتل تاروت، ويبرين وحُفرت بعض القبور وقام جيفري بيبي بتدوين قصة هذا العمل في كتاب مشوق فيه معلومات في غاية الأهمية.

وفي عام 1973م قام بكتابة تقريرا اوليا فيه من التفاصيل التي تخص التسلسل الطبقي، ودراسة المجموعات الفخارية التي حصل عليها من حفرية ثاج، وبعض التماثيل، والمجامر، ومجموعات من الأدوات الحجرية، والفخار العائد لفترة العُبيد المؤرخة بالألف الخامس قبل الميلاد خاصة مجموعة من موقع يقال له الدوسريه.

والتقرير المشار اليه يتضمن مادة اثرية لعصور مختلفة تتضمن مادة معلوماتية لا تتوفر في غيرها فيما يخص بالتاريخ القديم للمنطقة في حقب العصور الحجرية، وفترة دلمون، نهاية الألف الثالث وبداية الألف الثاني قبل الميلاد، وفترة الممالك العربية، نهاية الألف الثاني وحتى ظهور الإسلام.

بعثة اعمال السيدة كورن بيسنجر:
السيدة كورن بيسنجر اجرت الكثير من الاعمال الاستكشافية الميدانية والتنقيبية تركزت على مواقع ترجع الى 2000 -3000 عام قبل الميلاد في مقابر ابقيق نتج عنها مادة علمية اثرية حيث قامت بتحضير رسالتها للحصول على شهادة الدكتوراة.

كذلك، اعمالها الميدانية التي اشتملت على حفريات في موقع الرفيعة وتل تاروت والقطيف وام الرمض في سبخة السرة شمال الاحساء وام النصي في واحة بيرين. كذلك، قامت بحفريات رئيسية في مقبرتين احداهما في موقع القبور بموقع جنوب مطار الظهران الحالي حيث نقبت خمس مقابر في الموقع نفسه والموقع الاخر يقع في حقل مقابر ابقيق في سبخة الحمّام جنوب غرب مدينة أبقيق حيث نقبت في ثلاثة عشر قبراً في هذا الموقع، بالإضافة الى بعض المواقع الواقعة في سبخة الحمّام جنوب غرب أبقيق، وساحلي الظهران والعقير.

نتج عن أعمالها الميدانية اكتشاف الكثير من المواد الآثارية مثل الخرز، والأواني الفخارية، والأدوات الحجرية، والأختام، والأدوات المعدنية؛ حيث أرختها الى نهاية الألف الرابع وأوائل الألف الثالث قبل الميلاد ومن خلال مقارنتها مع معثورات مشابهة وجدت في مواقع في بلاد الرافدين وأخرى في بلاد فارس جعلها تقترح نشاطاً تجارياً بين هذه المواقع وبين تلك الأقطار إبان الحقبة الزمنية المذكورة.

والجدير بالذكر ان اعمال السيدة كورن بيسنجر لم تكن شائعة ومعروفة للباحثين لذا لم تكن مستخدمة في الأبحاث الاثرية المنشورة لاثار المنطقة الشرقية وتاريخها القديم بالرغم من غزارته ومادته العلمية ومن اغنى الاعمال التي اشتملت على مادة أثرية ثابتة ممثلة بعمارة المقابر التي نقبت وبعمارة المقابر التي مسحتها حيث قدمت الباحثة كورن بيسنجر مادة آثاريه في غاية الأهمية للباحثين الذين يبحثون عن مصادر معلومات جديدة.

بعثة الاثار الوطنية السعودية ووكالة الآثار والمتاحف السعودية
بعثة عبدالله حسن المصري:
بدات هذه البعثة بالبحث في المنطقة الشرقية في عام 1972م بقيادة عبدالله حسن المصري وذلك لجمع اطروحته لنيل درجة الدكتوراة والتي شملت مساحة واسعة من المنطقة والتي ركزت على مواقع العصور الحجرية وخاصة العصر الحجري الحديث والتي اسفرت عن وجود استيطاني لتلك الحقبة الزمنية.

فقد قام بحفر عدد من الأسبار الاختبارية في مواقع متعددة من أهمها تل تاروت، والدوسريه، وعين قناص، وأبو خميس التي شكلت المادة المجموعة من هذه الاثار موضوع رسالته لدرجة الدكتوراه التي أنجزها عام 1973م وحصل عليها من جامعة شيكاغو في الولايات المتحدة الاميركية، والتي قام هنري فيلد على تحريرها ونشرها عام 1974م.

وتضمنت هذه الرسالة دراسة للتسلسل الطبقي في الحفريات الآثارية، ودراسة للمادة الفخارية التي التقطها من خمسة مواقع، والأدوات الحجرية التي جمعها من الخمسة المواقع المشار إليها والمواقع الأخرى. بالإضافة الى ذلك، تضمنت رسالته الاصداف البحرية والنباتات القديمة وأدوات الزينة التي جمعت من مواقع متعددة وكذلك ضمنت التغيرات المناخية والبيئية لتلك الحقبة من الزمن. ولقد نشر المصري نتائج اعماله وما استجد كنتيجة للمسح الشامل لوكالة الآثار والمتاحف السعودية.

ورسالة المصري للدكتوراة تعتبر من اغنى رسائل الدكتوراة ثراء بالمادة الاثارية والمعلومات والتي تعتبر من اهم المصادر لباحثي الاثار للتاريخ القديم فقد ضمت تاريخ الاستيطان القديم واستدلالاته من الانتقال من مرحلة العصور التي كان الإنسان خلالها يعتمد على الحجارة في إنتاج أدواته وأوانيه وأسلحته إلى مرحلة وصوله إلى استثمار مواد أخرى في صناعاته مثل الصلصال، كما أنها تبين الانتقال من مرحلة الاعتماد على الصيد والجمع والالتقاط إلى مرحلة الاستقرار وإنتاج القوت بزراعة الأرض وتربية الحيوان.

كذلك، ضمنت هذه الرسالة أيضا نوعية العلاقات التجارية بينن الأقطار المجاورة، سواء برية او بحرية. بالإضافة الى ذلك، ضمنت الاطروحة التغيرات الثقافية، لاحتوائها على مادة آثارية تعود إلى فترات متعددة، ولكون المادة مرّت بتغيرات متنوعة، فيمكن منها معرفة الكيفية التي من خلالها تطورت ثقافات الأمم التي أفرزت المواد الآثارية ذات العلاقة، ومنها ما يمكن توليد معلومات لها صلة بالإنسان الذي طورها.

ومن ناحية الاتصالات البشرية والتداخل البشري، فكون المادة مختلفة المصادر فهي منقولة والإنسان هو الناقل، وعندما يلتقي الإنسان فلا بد أن يحدث اتصال وتداخل، ولهذا دور في التركيبة البشرية لمجتمعات شرقي الجزيرة العربية في العصور القديمة.

وعلاوة على ما مرّ، يمكن للباحث أن يبني على المادة الآثارية المتوفرة في الرسالة المذكورة استنتاجات جديدة لم يتجه إليها معدّها، ويستقرأ المادة في الاتجاه الذي هو يبحث فيه. ويعني ما ذكرت أنه بإمكان باحث ما أن يَعُدُّ بحثاً أو أطروحة من خلال استخدام المادة نفسها ليناقش موضوعاً جديداً تُكَون المادة الآثارية المعنية أساس توليد معلوماته.

ومن ناحية كتابة التاريخ القديم للمنطقة، فالرسالة وفرت مادة أساسية لدراسة تاريخ الإنسان خلال العصر الحجري الحديث، فمنها يمكن معرفة اتصالاته وصناعاته وحرفه ومنتجاته الزراعية.

ملاحظة: يجب التنويه أن معظم مصادر هذه المقالة مستقاة من المصادر التي تم جمعها على يد الأستاذ الدكتور عبد العزيز بن سعود بن جارالله الغزي أستاذ كلية السياحة والآثار قسم الآثار في جامعة الملك سعود التي جمعها في وثيقة واحدة بإسم ” المصادر الإثارية لدراسة التاريخ القديم للمنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية” والتي وثقها ونشرها في عدة مقالات في جريدة الرياض في عام 1996م وتم إعادة صياغتها للفائدة مع ارفاق المصدر الرئيسي.

المهندس صادق علي القطري

المصادر:

  1.  http://dhahranhistory.blogspot.com/2012/11/blog-post_5787.html
  2.  https://www.qatifscience.com/?p=22802
  3.  https://archive.aramcoworld.com/issue/197001/looking.for.dilmun.htm

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *