“أمّ الديفان” بين الأسطورة والمدلول النفسي – بقلم صادق علي القطري

إلى أولئك الذين أثقلهم الضجيج الداخلي، ولم يعودوا يفرّقون بين الحلم والواقع، بين الصواب والالتباس…

إلى من لمسوا وجوههم ذات ظهيرةٍ حارّةٍ وشعروا أنهم غرباء عن أجسادهم، كأنّ شيئًا خفيًا مرّ بهم ثم غاب…
إليكم هذه الحكاية:

الظلّ الذي يسكن المجالس:
في الذاكرة القطيفيّة، “أمّ الديفان” ليست اسمًا عابرًا، بل كائنٌ يعيش في الحكاية، على حافة الضوء، بين الوعي والخيال. كانت الأمهات يردّدنها كما يردّدن التحذير: “إياك تسهر عند الديفان بعد الفجر، تضربك أمّ الديفان!” تلك المرأة الغامضة، البيضاء الملامح، المبتلّة الشعر، التي تظهر في زوايا المجالس حين يغيب الانتباه وتبهت الأرواح، كانت رمزًا للغفلة، وصورةً مجازيةً لفقدان الاتزان. يقال إنها لا تأتي لتؤذي، بل لتذكّر الإنسان بأنّ للعقل طاقته، وللجسد حدودًا، وأنّ من يستهين براحته يُصاب بـ “ضربتها”, رجفةٌ، دوار، ذهولٌ مؤقت، ضياعٌ داخليّ يشبه التيه بين اليقظة والحلم.

من الخرافة إلى المعنى:
حين نُمعن النظر، ندرك أن “أمّ الديفان” لم تكن سوى استعارةٍ ذكيةٍ نسجها الوجدان الشعبيّ ليعبّر عن أمراضٍ لم يكن للناس اسمٌ علميّ لها: الإرهاق، الضغط الحراري، أو الإجهاد الذهنيّ الناتج عن القلق والتفكير الزائد. ففي زمنٍ لم تُعرف فيه المصطلحات النفسية، كان الإنسان يفسّر الغموض بلغةٍ تليق بعالمه الروحيّ: حالةٌ من الوهن صاغها الخيال في هيئة امرأةٍ من الظلال. وكانوا يروونها كأنها حكمةٌ: “من يجهد نفسه في القيظ، تضربه أمّ الديفان”. “ومن يحمّل فكره أكثر مما يحتمل، تزوره في المنام”.

إنها إذن ليست شيطانةً ولا روحًا شريرة، بل رمزٌ إنسانيّ لِما يحدث حين يتجاوز الإنسان حدود طاقته. حين ينهكه الحرّ، أو يثقله الهمّ، أو يرهقه التفكير، يختلّ إدراكه، وتضيع المسافة بينه وبين ذاته. في تلك اللحظة، يولد “الضياع”، وتظهر أمّ الديفان من قلب الإجهاد لتقول بصوتٍ خفيّ: تمهّل، لقد تجاوزت نفسك.

بين العلم والأسطورة:
تُشبِه “أمّ الديفان” في لغتنا اليوم ما يسمّيه الطبّ “الإرهاق العصبي” أو “اختلال الوعي المؤقت”، حين ينهار توازن الحواسّ بسبب الحرّ أو الجوع أو القلق. حيث الجمال في التعبير الشعبيّ أنه لم يُفرّغ المعنى من روحه. فبينما يقدّم العلم وصفًا فيزيولوجيًّا باردًا، ظلّ اللسان الشعبيّ يكسو الحالة بملمسٍ وجدانيّ: كأنّ الروح ذاتها تُصاب بالتعب قبل الجسد، فتتسلّل إليها “أمّ الديفان” لتربكها، وتعيدها إلى وعيها بعد زلّة.

وجه آخر للضياع:
في الاستخدام المجازيّ اليوميّ، ما زال الناس يقولون: “كأنّ أمّ الديفان ضاربته!” حين يرون شخصًا متعبًا، شارداً، تائهاً في أفكاره، يضحك ولا يعرف على ماذا، أو يحدّق ولا يرى شيئًا. لكن خلف المزاح الشعبيّ يبقى صوت الحكمة القديمة: أن الإنسان هشّ، وأنّ عقله يحتاج إلى راحةٍ كما يحتاج جسده إلى ظلّ. فـ”أمّ الديفان” لم تكن إلا مرآةً تعبّر عن ضعفنا البشريّ حين نرهق أنفسنا حتى نضيع.

الأسطورة التي وعَت نفسها:
ربما كانت “أمّ الديفان” أوّل من نبّهت الإنسان البسيط إلى أنّ الضياع النفسيّ ليس جنونًا، بل نداءُ الجسد حين يطلب راحةً من ضوضاء العالم. فيها يلتقي الطبّ الشعبيّ بالحكمة الفطرية، والأسطورة بالواقع. إنها تُذكّرنا أن الضياع أحيانًا رسالة، وأنّ الارتباك ليس ضعفًا بل إشارةٌ إلى ضرورة التوقّف، واستعادة التوازن.

وفي الختام:

تغيب الشمس على قرى القطيف، وتبقى الحكاية. لم تعد أمّ الديفان تظهر في الظلال، بل في أذهاننا حين يثقلنا الإرهاق ونفقد التركيز. هي اليوم اسمٌ لحالةٍ يعيشها كل إنسان حين تتوه بوصلته بين الجسد والروح. وما تزال الحكاية القديمة تهمس لنا، كما كانت تفعل الأمهات منذ زمن:

“إن أتعبك النهار، لا تسهر على الديفان… فالعقل إذا أرهق، تُمسّه يدٌ لا تُرى”.

المهندس صادق علي القطري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *