حارسة العين أسطورة القطيف التي تسقي الذاكرة – بقلم صادق علي القطري

إلى كلّ من رأى في الماء مرآةَ روحه، ثمّ خاف من عمقه.
أسطورة «حارسة العين» من أندر وأعمق الأساطير القطيفيه،
هي واحدة من تلك الحكايات التي تمتزج فيها الروح بالماء، والذاكرة بالأسطورة، حتى يصعب الفصل بين ما هو واقعيٌّ وما هو رمزيّ.

تُروى في قرى القطيف القديمة أن هناك امرأةً غامضةً تحرس العيون المائية، وتظهر عند الفجر أو في الليالي القمرية، تسكن حدود الضوء والظلّ، لا تُرى كاملةً، ولا تختفي تمامًا.

منبع الحكاية:
في زمنٍ كانت العيون المائية قلب الحياة في القطيف، حيث كان الناس يستقون منها ويغسلون ويزرعون, سرت بين الأهالي حكايةٌ غريبة عن كائنٍ نسائيٍّ يسكن تلك العيون. يقولون إنها روح الماء التي تحرس العين من التدنيس والإهمال، وتغضب إن اقترب منها أحدٌ دون طهارة، أو لوثها بترابٍ أو كلمةٍ قاسية حيث كانت تُعرف باسم “حارسة العين”، وهي كائنٌ لا يُرى إلا لمن اقترب كثيرًا من الماء في سكون الليل، حين يغيب الصخب وتتكشّف الأصوات الخفية للطبيعة.

صورتها في المخيلة الشعبية:
يصفها الرواة بأنها امرأة بيضاء الملامح، طويلة الشعر، تنبعث من الماء كما ينبعث البخار في فجرٍ بارد. عيناها تشبهان سطح الماء، صافيتان ساكنتان، لكن من ينظر فيهما يرى عمقًا يخيفه. ثوبها من الماء نفسه، يتماوج مع الريح، فيبدو كأنه يعيش بين حالتين وهما “وجودٍ وعدمه”. يُقال إنها تحمل جرّةً من الفخار، تسقي بها النخيل المحيطة بالعين، وكأنها تُعيد دورة الحياة كل فجرٍ بصمتٍ مقدّس. لكن حين يُساء للماء، تتحوّل ملامحها إلى ظلٍّ رماديٍّ داكن، تختفي في عمق العين، وتغدو المياه بعدها عكرةً، كأنها حزنت.

الرمزية والوظيفة:
لم تكن “حارسة العين” مجرّد كائنٍ أسطوري، بل رمزًا مقدّسًا للوعي البيئي القديم. ففي مجتمعٍ يعتمد على الماء والنخيل، كان الحفاظ على العيون أشبه بحماية الروح نفسها. حيث جاءت الأسطورة لتقول بلغة الخيال ما لا تستطيع القوانين قوله بلغة الواقع: “احترم الماء، لأن فيه حياة الله” . لذا، فان حكاية “حارسة العين” لم تكن تخويفًا، بل تعليمًا مقدسًا مليئا بالخوف الجليل، ويربط الإنسان بالينبوع كما يُربط القلب بالأمّ.

حضورها في الذاكرة الشفوية:
كان كبار السنّ في القطيف يروونها بصيغٍ متعدّدة، فبعضهم يقول إنّها كانت تظهر فقط عند عين الحسين أو عين أمّ العصافير أو عين الخباقة، وبعضهم يقول إنها كانت تحذّر الأطفال من اللعب في الماء بعد الغروب، حيث كان الغرق مأساةً شائعة في الماضي. من هذه الأسطورة أصبحت “حارسة العين” ضميرًا شعبيًا يحرس الماء بالأسطورة، ويصنع من الخوف رقيبًا بيئيًا على السلوك.

تأمل رمزي:
من منظورٍ أدبي، يمكن القول إن “حارسة العين” هي تجسيدٌ أنثويٌّ للماء نفسه، ذلك العنصر الذي يُعطي بلا مقابل، لكنه يغضب إذا أُهين. إنها الوجه النسائي للحياة، المُحبّة، الحامية، الغاضبة حين يُهملها الإنسان. فيها تلتقي الأنوثة بالطهارة، والروح بالطبيعة، والأسطورة بالحكمة. وما يُدهش في الذاكرة القطيفيه أنها لم تُقدّم هذه الكائنات بوصفها شياطين أو أرواحًا شريرة، بل بوصفها أرواحًا حارسة، نابعة من البيئة، ومن تقديس الإنسان الأول لعناصرها.

وفي الختام:

حين تسكن الروح في الماء
تظلّ “حارسة العين” حكايةً من زمنٍ آمن بأن كل ما حوله حيّ: النخلة تنام وتحلم، والماء يتذكّر من مرّ عليه. وحين تُروى الأسطورة اليوم، في زمنٍ جفّت فيه بعض العيون وانحسر فيها الخصب، تبدو “حارسة العين” كأنها تعود من عمق الأسطورة لتبكي ما تبقّى من حياةٍ في أرضٍ عطشى.

فمن يدري؟ ربما ما تزال هناك، في عينٍ منسيةٍ بين بساتين القطيف، امرأةٌ من ماءٍ وضوء، تحرس سرّ الحياة بصمتٍ نبيل.

المهندس صادق علي القطري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *