الفخار القطيفي حين تحدّث الطين عن الإنسان – بقلم صادق القطري

إلى أولئك الذين عجنوا الطين بأيديهم لا ليصنعوا آنية، بل ليتركوا أثرًا في الذاكرة.
إلى الحرفيين الذين أودعوا في الفخار شيئًا من أرواحهم، فصار الطين ناطقًا باسمهم حتى بعد أن سكتت الأيدي.

حين يتكلّم الطين:
في علاقة الإنسان بالطين، تختبئ إحدى أقدم صور الخلق. فمن التراب وُلد الجسد، ومن الماء وُلدت الحياة، ومن النار اكتملت الصلابة. هكذا بدأت قصة الفخار في الوجود، وهكذا بدأت في القطيف، حيث الأرض الطينية الخصبة، والماء العذب، والإنسان الذي لم يفقد صلته الأولى بالأرض.

كانت القطيف منذ القدم مهدًا للحرف التقليدية التي ربطت الإنسان بمحيطه الطبيعي، وكان الفخار أبرزها؛ حرفةً تجاوزت النافع لتصير مرآةً للهوية، وصوتًا للأرض وهي تتحدث بلغة الجمال. في كل إناءٍ فخاري، تتجسد علاقة عميقة بين الإنسان والمكان، بين الطين والهوية، بين الحاجة والإبداع.

إن دراسة صناعة الفخار في القطيف ليست مجرد استذكارٍ لحرفةٍ مندثرة، بل هي قراءةٌ في ذاكرة الإنسان الخليجي حين كان يعيش بانسجامٍ مع الأرض، يصنع منها ما يُغنيه، ويترك فيها أثره الأبدي.

الجغرافيا التي تنطق بالطين:
تقع القطيف في شرق شبه الجزيرة العربية (المملكة العربية السعودية)، على ساحل الخليج العربي، وتمتاز بتربتها الطينية الغنية ومياهها الجوفية الوفيرة. تلك البيئة التي جمعت بين الطين والماء والنخيل خلقت ظروفًا مثالية لازدهار الحرف التراثية، وعلى رأسها صناعة الفخار.

الطين المحلي المستخرج من ضفاف العيون والمزارع كان خامةً نقية، خفيفة الملمس، تُعرف بقدرتها العالية على التماسك عند الحرق حيث استفاد الحرفيون من تنوع أنواع الطين بين مناطق الواحة، فاختاروا الأفضل لصناعة الأواني المخصصة للماء والطعام.

لم يكن اختيار الموقع عشوائيًا؛ فقد وُجدت أفران الفخار في أطراف الواحات حيث الهواء مفتوح، لتجنّب أضرار الدخان على البيوت. أما الماء المستخدم في العجن فكان من العيون الشهيرة مثل عين القصاري وعين أبو لوزة، اللتين عرفتا بعذوبتهما وعمقهما التاريخي.

هذه البيئة المتكاملة بين الماء والطين والنخيل جعلت من القطيف نموذجًا مصغرًا لتكامل عناصر الحياة الأولى، حيث كل شيءٍ في الطبيعة يؤدي وظيفةً تحفظ التوازن.

من الطين إلى الذاكرة وخطوات الحرفة:
لم تكن صناعة الفخار مجرّد مهنةٍ عند أهل القطيف، بل طقسًا يوميًا يحمل روح الطمأنينة والبساطة. تبدأ العملية بـ جمع الطين، ثم عجنه بالماء حتى يصير لينًا طيّعًا، بعد ان تُزال منه الشوائب الصغيرة.

يُترك العجين ليستريح، ثم يُقطع إلى كتلٍ صغيرة تُشكّل على دولابٍ خشبي يُدار بالقدم، بينما تتولّى اليدان التشكيل والتنعيم. تُصاغ القطع تبعًا للغرض مثل جِرارٌ لحفظ الماء، قِلل للتبريد، أواني للطهي، أو مباخر للروائح الطيبة.

وبعد التشكيل، تأتي مرحلة التجفيف في الظلّ، ثم الحرق في أفرانٍ طينيةٍ تُبنى من الداخل بالطين وتُسخن بخشب النخيل أو الحجارة الجافة. وفي لحظة فتح الفرن بعد الحرق، كان الفخاريّ يعيش رهبة الولادة الثانية للطين: بين النجاح والفشل، وبين الجمال والهشاشة.

رمزية الفخار في الوجدان القطيفي:
إن الفخار في القطيف لم يكن مجرّد آنية منزلية، بل رمزًا لاستمرارية الإنسان في المكان. كان يُعبّر عن قدرة المجتمع على تحويل الموارد الطبيعية البسيطة إلى أدواتٍ ذات قيمةٍ جماليةٍ ووظيفيةٍ في آن واحد.

كانت الجرار الكبيرة تُستخدم لحفظ الدبس والتمر والماء، وتحمل أحيانًا نقوشًا زخرفية بسيطة تدلّ على ذوقٍ فطري. في البيوت القديمة، كانت الأواني الفخارية تُزيّن الزوايا المظلّلة، تبرد الماء وتنعش المكان بنكهةٍ تراثيةٍ لا يضاهيها شيء.

كما أن المباخر والمساخن كانت جزءًا من طقوس المناسبات، حيث تمتزج رائحة العود بالدخان الخارج من فوهةٍ صغيرةٍ نُقشت بخطوطٍ هندسية. كل تلك التفاصيل الصغيرة شكّلت ذاكرة حسّية للمكان: رائحة الطين بعد المطر، صوت الدولاب في الورشة، وحرارة الأفران عند الغروب.

الفخار والهوية الاجتماعية:
كان الفخاري في المجتمع القطيفي شخصيةً محترمة، يُعرف بمهارته وصبره ودقّته. توارثت العائلات الحرفة أبًا عن جد، وكان بعضهم معروفًا باسم المهنة ذاتها، مثل “آل فخّار” أو “بيت الجرّار”.

وفي الأسواق القديمة كسوق الخميس وسوق ميّاس، كانت أواني الفخار تُعرض إلى جانب التمور والأدوات التقليدية، في مشهدٍ يعبّر عن وحدة الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

لم يكن الفخار مجرد سلعة، بل منتجًا ثقافيًا، يحمل بصمة الصانع وروح المكان. لذلك، ارتبطت الحرفة بالكرامة، لأن الفخاري لم يكن يصنع بآلةٍ باردة، بل بيدٍ نابضةٍ بالحياة.

من الحرفة إلى الذاكرة حين يهدأ الدولاب:
مع منتصف القرن العشرين، بدأت الحداثة تدخل ببطءٍ إلى القطيف. تسلّل البلاستيك والزجاج والمعادن إلى البيوت، وتراجع الإقبال على الفخار شيئًا فشيئًا. ذابت أصوات الدولاب في ضجيج المدن، وسكتت الأفران القديمة.

ولكنّ الحرفة لم تمت تمامًا، فقد ظلّت بعض الأسر تمارسها في نطاقٍ ضيّق، وبدأت مؤسسات التراث الثقافي تسجّلها بوصفها موروثًا غير مادي يجب الحفاظ عليه.

واليوم، يُنظر إلى صناعة الفخار في القطيف على أنها جسرٌ بين الماضي والحاضر، يجسّد قدرة الإنسان على الإبداع من موارد بسيطة، ويروي حكاية الصبر والجمال في وجه التحوّل السريع.

قراءة رمزية في الطين والهوية:
رمزية الفخار في الوجدان الإنساني أعمق من مجرد حرفة؛ إنه استعارة عن الخلق والتشكيل. كما خُلق الإنسان من طينٍ ثم أُكمل بالنار، كذلك الأواني تُعجن وتُحرق لتكتسب معناها.

هذه العلاقة بين المادة والروح، بين التكوين والتحوّل، تعكس فلسفة الإنسان القطيفي في فهم الحياة وهي البساطة، الثبات، والقدرة على التجدّد.

وإن الفخار في جوهره صوت الأرض حين تتحدث بلغة الإنسان وهو ذاكرة الأصابع، وملمس الانتماء، ودليل على أن الجمال يمكن أن يولد من أهون العناصر إن امتزجت بالحبّ والإتقان.

وفي الختام: حين يبقى الأثر:
لقد كانت صناعة الفخار في القطيف أكثر من مهنة؛ كانت وثيقة وجود، تروي كيف صاغ الإنسان علاقته بالأرض. وفي زمنٍ يبتعد فيه الإنسان عن مواده الأولى، يعيدنا الفخار إلى أصل الحكاية: إلى الطين الذي خلقنا منه، وإلى النار التي تصقلنا، وإلى الماء الذي يمنحنا الحياة.

إن تأمل الفخار القطيفي القديم ليس حنينًا إلى الماضي فحسب، بل تذكيرٌ بالهوية التي لا تكتمل إلا حين يظل الإنسان وفيًا لجذوره.

فما تصنعه اليد الصادقة لا يندثر، لأن في كل جرةٍ طينيةٍ روحًا لا تزال تتنفس، تخبرنا أن الطين, حين يتحدث, لا يقول إلا الحقيقة.

المهندس صادق علي القطري

قائمة المراجع (Bibliography):
• العريّض، أحمد. “حرف القطيف التقليدية: دراسة ميدانية.” مجلة الواحة، العدد 25 (1998): 17–29.
• الحرز، محمد. “الطين والهوية: قراءة في الحرف الشعبية.” الشرق الثقافية، عدد خاص (2018): 9.
• الدريع، فوزية. الرمزية في الحرف الخليجية. الكويت: مركز البحوث الاجتماعية، 2011.
• الشباط، عبدالله. القطيف: واحة التاريخ والحياة. الدمام: دار المشرق العربي، 2004.
• السليمان، عبد الرحمن. الحرف والصناعات التقليدية في المنطقة الشرقية. الرياض: هيئة التراث السعودية، 2012.
• آل شهاب، عبد الله. الفخار في الخليج العربي: دراسة تاريخية مقارنة. الدمام: جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل، 2019.
• Cleuziou, S., and M. Tosi. In the Shadow of the Ancestors: The Prehistoric Foundations of the Early Arabian Civilization in Oman. Muscat: Ministry of Heritage and Culture, 2007.
• Bibby, Geoffrey. Looking for Dilmun. New York: Alfred A. Knopf, 1969.
• Larsen, J. G. “Pottery Traditions of Eastern Arabia.” Arabian Archaeology and Epigraphy 11, no. 2 (2000): 89–105.
• Saudi Heritage Commission. National Report on Intangible Cultural Heritage. Riyadh: SHC, 2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *