دروازة مسورة الدبَّابيَّة…. بوابة الماضي – بقلم أحمد بن جواد السويكت

لم تكن الدروازة مجرد مدخل أو مخرج من وإلى البلدة، بل كانت رمزًا للأمان، فهي بوابة عبور لماض جميل، كانت شاهدة على تفاصيل الحياة اليومية لأهالي البلدة.

وتعتبر “دروازة الدبابية” كأحد المعالم التراثية البارزة في منطقة القطيف، والتي لا تزال حاضرة في ذاكرة الناس حتى اليوم.

مع العم الحاجّ سعيد صالح علي المسلم ” أبو عادل ” – حفظه الله ورعاه – في منزله العامر بحي الجعيلي بالدبَّابيَّة، الذي حدثنا عن “دروازة الدبابية”، مستعرضًا تفاصيلها الدقيقة التي حملت لنا ملامح من الماضي.
تظهر هذه الصورة النادرة مشهدًا قديمًا من بلدة الدبابية التراثية ذات الأسوار العالية الذي يصعب تسلقها بسهولة، حيث تتجلى ملامح العمارة التقليدية المبنية من الطين والحجارة، والتي كانت سائدة في المنطقة.

وقد أورد الرحّالة البريطاني النقيب جورج فورستر سادلير المنوفي (ت:1859م/1275هـ) عند رحلته عبر الجزيرة العربية من القطيف في الخليج إلى ينبع في البحر الأحمر خلال عام (1819 م/ 1235هـ) في صفحة (63) عن محافظة القطيف وقراها، أن عدد سكان الدبيبية (الدبابية)، قدّر حينها بنحو 1200 نسمة.

موقعها الجغرافي
تقع البوابة “دروازة” الدبَّابيَّة الرئيسية في الجهة الشرقية، ويُفتح بابها باتجاه الشمال، مقابل منطقة النخيل المعروفة بـ”الطف” سابقًا، والتي تقابل حاليًا مدرسة زين العابدين الابتدائية، يجاروها من جهة اليمين منزل الحاجّ عبد الرحيم محمد إخوان (ت:1391هـ) من جهة اليسار منزل الحاجّ محمد علي جواد حسن إخوان (ت:1365هـ).

موقع دروازة الدبابية حسب النظام العالمي لتحديد المواقع (GPS)
تُظهر هذه الصورة التاريخية، التي التقطها المصور البريطاني ويلفرد باتريك عام (1364هـ / 1945م) أي قبل نحو 80 عامًا، البوابة الرئيسية المعروفة بـ”الدروازة” مع سورها العالي الملاصق لبلدة الدبابية، وتقابلها من الجهة الأخرى نخيل تُعرف باسم “نخيل الطف”.
(من اليمين) المرحوم الحاجّ عبد الرحيم محمد إخوان، وهو صاحب المنزل الواقع بجوار دروازة الدبابية من جهة اليمين (من اليسار) المرحوم الحاجّ محمد علي جواد إخوان، وهو صاحب المنزل الواقع بجوار دروازة الدبابية من جهة اليسار.

وصف الدروازة
تتميّز الدروازة بقوة بنائها وطابعها المعماري البسيط والمتين، إذ كانت تُشيّد من الطين والحجارة المحلية، وتُدعم بأخشاب صلبة مثل خشب الجندل، ما يمنحها ثباتًا ومتانة مع مرور الزمن.
وتتكوّن الدروازة من مدخل رئيسي واسع يضم البوابة الكبيرة، تليه غرفة مفتوحة بمساحة إجمالية تُقدّر بنحو 24 مترًا مربعًا تقريبًا، تمتد من البوابة حتى المخرج دون وجود الباب الداخلي للبلدة، وعلى جانبي الغرفة الداخلية، يوجد “جلْفَتان” (دكّتان) مبنيتان بمحاذاة الجدارين الجانبيين، خُصّصتا لجلوس الحراس أو الأهالي. أما جدرانها، فيتراوح ارتفاعها ما بين 4 إلى 4 ونصف متر تقريبًا.

تظهر في الصورة دروازة بلدة الدبابية ومدخلها الرئيسي التي تمثّل البوابة التي يعبر منها الأهالي والزائرون، وتحمل طابعًا معماريًا تقليديًا يعكس أصالة المكان التاريخية.

باب الدروازة
باب الدروازة هو باب خشبي تقليدي يتكوّن من درفتين، يبلغ طول كل منهما نحو 2.7 متر، بعرض يقارب 1.40 متر تقريبًا، وسماكة تتراوح بين 8 إلى 10 سنتيمترات، ما يعكس صلابته ومتانته. ويحتوي الباب الكبير على باب ذي فتحة صغيرة تُعرف بـ “الفرخ”، ويأخذ شكلًا مقوّسًا من الأعلى، بطول يصل إلى 130 سم، ويُستخدم لعبور الأفراد دون الحاجة إلى فتح الباب بالكامل، مما يسهل حركة الدخول والخروج.
وقد صُمم الباب الكبير ليكون واسعًا بما يكفي لتسهيل حركة الأهالي، ومرور المواشي، والجِمال، والحمير، إضافة إلى العربات الكبيرة التي تحمل البضائع. وكان يؤدي دورًا مهمًا في تنظيم الدخول والخروج من البلدة، إلى جانب دوره الدفاعي في حماية البلدة في تلك المرحلة.

حرّاس “الدروَازة”
كان حُرّاس الدروازة أو ما يُعرف بـ”النواطير”(1) من رجال البلدة، يتولّون مهمة فتحها صباحًا وإغلاقها مباشرة بعد صلاة المغرب، إذ يتحكم بها الحراس أو المسؤولين في البلدة ولا يُسمح بالدخول إلى البلدة بعدها، في إجراء أمني معتاد هدفه الحفاظ على عامة سكان البلدة. وقد شكّل هذا النظام البسيط جزءًا من التنظيم المعمول به في تلك الفترة. من التعاون والانضباط بين الأهالي.
وفي مطلع الستينيات، أُوكلت مهمة فتح وإغلاق الدروازة رسميًا إلى الحاجّ علي بن منصور الحجري، المعروف بـ(أبو عبد الكريم)، والذي كان موظفًا في بلدية القطيف، وتوفي عام 1370هـ.

تجمعات الدروازة
لم تكن الدروازة مجرد ممر للعبور، بل كانت مساحة نابضة بالحياة اليومية، تحوّلت إلى ساحة لتجمع أهالي الحي. ففي ساعات الصباح الباكر، اعتاد الرجال وخاصة عمال البناء التجمع عندها طلبًا للعمل، بحيث ينتظرون مرور أساتذة البناء لأخذهم إلى مواقع العمل في تعمير بيوت القطيف، وفي أوقات أخرى، كانت تشكل ملتقى لتبادل الأحاديث الودية، مما جعل منها رمزًا للألفة والتعاون بين أبناء البلدة.

العم الحاجّ أحمد بن منصور بن جواد السويكت “أبو عبد الواحد” – حفظه الله ورعاه – الذي كان من بين العمال الذين اعتادوا الجلوس في “الدروازة” في الصباح الباكر، في انتظار فرص العمل في مهنة البناء ، كما كانت عادة الكثير من رجال البلدة آنذاك.

كما كانت “الدروازة” في أواخر الخمسينيات من القرن الهجري الماضي محطة مهمة لتوزيع المساعدات الحكومية، خاصة ما يُعرف بـ “كسرة التمر”، وهي التمور التي كانت تُقدَّم للأسر المحتاجة. وقد استفاد من هذه المعونة عدد كبير من أهالي القطيف، بما فيهم المحتاجين من سكان بلدة الدبَّابيَّة. ومع دخول الستينات، توسعت هذه المساعدات لتشكل مواد غذائية أخرى مثل الأرز والعدس، وكان ذلك يتم تحت إشراف عمدة بلدة الدبابية الوجيه السيد أحمد آل ماجد (ت: 1389هـ)، الذي كلف السيد صالح بن علوي آل السيد صالح (ت: 1373هـ) بتولي عملية التوزيع داخل الدروازة. وفي أواخر حياته، اعتاد السيد أحمد آل ماجد الجلوس عصرًا في الدروازة، ليلتقي بكافة أبناء بلدته كبارًا وصغارًا في مشهد يعكس عمق الروابط الاجتماعية.

(يمين) الوجيه السيد أحمد آل ماجد ” عمدة الدبابية ” (يسار) السيد صالح بن علوي آل السيد صالح.

برج الدروازة
يٌعد برج الدروازة جزءًا من الطابع الدفاعي الذي تميزت به بلدة الدبابية مع أبراجها الأخرى، ويقع بجانب بوابة الدخول المعروفة بـ ” الدروازة “، وكان يستخدم لأغراض الحراسة والمراقبة، حيث يوفّر رؤية واضحة لمحيط البلدة، مما يساعد الحراس في تأمين البوابة ورصد أي حركة غير معتادة لضمان الأمن.
وتحتوي الدبابية ثمانية أبراج موزعة في أماكن مختلفة على النحو التالي: –
• برج الدبيبيات: يقع في منزل العلّامة الشيخ علي بن مكي السويكت.
• برج الدروازة: يقع بجانب دروازة الدبابية من جهة منزل بيت إخوان.
• برج بيت المحيشى: يتوسط بين برج الـدروازة وبرج أبو الطعام.
• برج مسجد السدرة: يعرف أيضًا باسم “برج الشيخ محمد”، ويقع في الجهة الجنوبية الشرقية من البلدة.
• برج أبو الطعام: يقع في البيت القديم للملّا باقر عبد الكريم المدن في الركن الشمالي الشرقي للدبابية مقابل دروازة المخضب في شارع الحرية.
• البرج الجنوبي: يقع بين مسجد السدرة وبرج الدبيبيات.
• البرج الغربي: يقع في منزل الحاج عبد الله أحمد حمادة.
• البرج الشمالي: يقع في منزل آل غريب، في الجهة الشمالية للبلدة، محل موقع العين الشمالية.
تشكّل هذه الأبراج شاهدًا على الطراز الدفاعي التقليدي، وعلى أهمية التنظيم الأمني في تخطيط البلدة.

إزالة الدروازة
لقد أزيلت دروازة الدبَّابيَّة عام (1968م/ 1388هـ) في إطار مشاريع التوسعة الحديثة والتطوير العمراني التي شملت بلدات عدة في منطقة القطيف آنذاك، وذلك لفتح الطرق وتسهيل حركة التنقل داخل الأحياء. وقد أسفرت هذه الأعمال عن اختفاء العديد من المعالم العمرانية التقليدية، ومن بينها هذه الدروازة التي كانت تُعد أحد المعالم التاريخية البارزة لبلدة الدبابية. وقد أشرف على عملية إزالة أسوار الأحياء في منطقة القطيف مجموعة من الأشخاص، ومن بينهم السيد صالح السيد هاشم الهاشم “أبو سيد محمد” (ت:1410هـ) من أهالي الدبابية، والذي كان يشغل منصب مدير بلدية مدينة صفوى في تلك الفترة.

موقع إزالة دورازة الدبابية – السيد صالح السيد هاشم الهاشم
يظهر امام الصورة مدخل بلدة الدبابية بعد التوسعة عام 1400هـ.

البوابات الصغيرة “الخادعة” في الدبابية
البوابات الصغيرة المعروفة قديمًا باسم ” الخادعة ” والتي تُستخدم كبوابة صغيرة يدخل أو يخرج من خلالها الأفراد من الحي بسهولة، وقد تميزت بلدة الدبابية بوجود عددًا منها، وهي: –
• الخادعة التي تقع بجوار منزل العلّامة الشيخ علي بن مكي السويكت (ت:1352هـ)، وكانت مخصصة لاستخدامه الشخصي فقط، حيث تفتح مباشرة على بيته.
• الخادعة التي تقع بجوار بيت آل رقيّة، وكانت تُستخدم للدخول من قِبل أهالي الأحياء المجاورة للدخول إلى مسجد المزار وأداء الصلاة خلف العلّامة الشيخ منصور علي المرهون (ت: 1362هـ).
• الخادعة التي تقع بجوار مسجد السدرة أو الشيخ محمد المعروف اليوم باسم مسجد المناميين.
• الخادعة التي تقع بجوار منزل الوجيه السيد مكي السيد ماجد المشقاب (ت: 1357هـ)، الذي كان يشغل منصب مدير جمرك ميناء القطيف آنذاك، وكانت هذه الخادعة مخصصة له ولأفراد عائلته.
• الخادعة التي تقع في الجهة الغربية من بلدة الدبابية بجوار منزل الحاجّ عبد الله أحمد مهدي حمادة (ت :1424هـ) عند المدخل الغربي للبلدة. حاليًا في موقع محل تصليح الكهربائي للسيارات في شارع الفارابي.

مصادر البحث:

  1. الحاجّ سعيد صالح علي المسلم
  2. الحاج أحمد منصور السويكت
  3. الحاج عبد المجيد علي المخامل
  4. الحاج يوسف إسماعيل حبيب آل إسماعيل
  5. السيد ماجد السيد جعفر آل ماجد

الهوامش:
ـــــــــــــــــــــ
(1) ومن أبناء بلدة الدبابية الذين عملوا في مهنة الحراسة، السيد حسن آل شبيان، الذي تولّى منصب رئيس النواطير، وكان مسؤولًا عن حراسة السكة والأسواق، مثل السكة، والجبلة، وسكة الحرية، حيث أسهم في حفظ الأمن والنظام فيها.

الأستاذ أحمد بن جواد السويكت

5 تعليقات

  1. أنور الدهان

    إبن العم الموقر المحترم تحية طيبة المشاعركم الجميلة التي غمرتي السعاده والسرور؛ لما أبدعت من إبراز ذلك الثراث الكبير ولذي يعكس تراث حضاري عميق لقطيفنا المحروسة
    وهذا التراث يعكس حضارة الخط العريقة
    ولجهوزكم المباركة؛ إبراز ذلك التراث المعماري للجيل الجديد والقادم كي يتعرف على دور الأباء في جميع المجالات ويتوارثه الأبناء…
    جهودكم إبن العم الغالي
    لها الأثر الكبير في تعميق الأصالة لأبنائنا
    ومواصلة دور الأباء
    في التخطيط العمراني
    والعطاء للمجتمع…
    تحية إجلال لدقة الطرح
    والتفصيل الجميل…
    رحم الله الماضين وحفظ الله الباقين…
    وأمد الله في عمرك
    وزاد الله توفيقاتك
    ببركة الصلاة على النبي محمد صل الله عليه وآله..

  2. بدر آل عبد الجبار

    جميل جدا أستاذنا الغالي ابو مصطفى هذه الإثراءات المميزة و الغوص في قعر الماضي لاستخراج هذه اللآلئ والدرر بأيدي خبير وماهر في اصطياد النوادر جزاك الله ألف خير ونتطلع للمزيد … شكرا لكم من القلب

  3. منصور الصلبوخ

    الدبابية .. الحي العامر بأهله في قلب القطيف، في طرف الديرة من الجهة الشرقية يوجد مدخل للحي فيه دروازة خشبية تفتح في النهار وتغلق في الليل، وكان دورها الأساسي تحصين أهالي الديرة من الغزوات، وها هي اليوم قد أمست حديث وصورة عند الباحث الاستاذ أحمد بن جواد السويكت دام عطاؤه، لقد نبش الباحث الذاكرة وحكى عن الدروازة ودورها في حياة الناس من الناحية الخدماتية والمعيشية والأمنية. تستحق أن تُروى ولاسيما فيما يتصل بالجيل الحالي الذي لم يرى تلك البوابات المحكمة في مداخل كل ديرة. أخي الحبيب والباحث الرائع أبا مصطفى ، جميل هذا البحث الموثق بالصور، لقد كانت ذكريات جميلة عشناها بحلوها ومرها، فأنا رجل يشدني الحنين إلى الماضي .. أمد الله في عمرك لتكثر رحلاتك التاريخية،فتمتعنا بأبداعك !

  4. عبدالرسول عبدالله القصاب

    أحسنت أبو مصطفى توثيق رائع وتمنيت اضافتهم صورة لعين الدبابية والتي تسمى بعين العودة
    جزاكم الله الف خير ورحم الله والديكم

  5. عبد العزيز أحمد العبكري

    أحسنت أبا مصطفى أبدعت في التفصيل و الدقة و التوثيق بالصور و التواريخ و ليكون بحث مرجعي لمحبي التراث و تذكير الأجيال الحالية و المستقبلية للحفاظ على ما تبقى منها .. أخي أبا مصطفى شكرا لك على توثيقك للتراث الجميل و أتمنى لك كل التوفيق و النجاح

اترك رداً على عبدالرسول عبدالله القصاب إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *