إلى من لا يكتفون بسطح الأرض، بل يغوصون في طبقات الذاكرة والجغرافيا بحثًا عن جذوره الحقيقية…
إلى من يسألون:
من نحن، ومن كنا، وما الذي كان قبل أن نُدعى بما نحن عليه الآن؟
في شرق شبه الجزيرة العربية، حيث تلتقي الشمس بالملح، وتتمازج النخلة مع البحر، تقع القطيف، هذه المدينة الساحلية التي كانت ولا تزال مركزًا للحياة، والعلم، والتجارة.
والسؤال الذي شغل المؤرخين والباحثين منذ قرون مضت: هل القطيف الحديثة، بنخيلها، وأسواقها، وعيونها، وصناعة جرارها، هي الامتداد الطبيعي لمدينة الجرهاء (الجرة) القديمة التي تحدث عنها الإغريق؟
أم أنها وريثتها الحضارية، أو إحدى توائمها التاريخية؟
سؤال ربما لا يملك الزمن جوابًا قاطعًا عليه، لكنه يمنحنا شذرات من ضوء، وأصداءً من الشواهد، وخرائط تُقرأ بين السطور.

“الجرهاء”… المدينة التي ابتلعت الشمس في جرار الطيب، وخبأت أسرار القوافل في ممرّات النخيل. في قلب الرمال الشرقية للجزيرة العربية، وعلى مقربةٍ من ضفاف شاطئ الخليج العربي، سكنت مدينةٌ قديمةٌ، لا يُعرف عنها إلا ما قيل همسًا في بطون كتب اليونان والرومان، أو ما لفظته خرائط بطليموس وبليني وسترابو.
مدينةٌ لم تكن كغيرها، بل كانت، كما وصفها المؤرخون، أسطورة فاحشة الثراء، تفيض طيبًا وعطرًا وذهبًا… إنها جرهاء (Gerrha) او الجرة، المدينة التي قيل عنها إن “كل أهلها يُقيمون في بيوت من الحجارة، لا خيام لهم”، وإنهم “من أغنى العرب على الإطلاق” (سترابو، الجغرافيا، الكتاب 16). ما زاد من غموض الجرهاء أن ذكرها اندثر من السجلات الإسلامية المبكرة، كما لو أن الرمال قد تعمّدت دفنها حيّةً، وأنّ المدن التي ورثت مجدها ربما قد لبست أسماءً جديدة… من بينها اسمٌ يتردد كثيرًا في البحث الحديث: “القطيف”.
والسؤال عن العلاقة بين القطيف الحالية ومدينة الجرهاء (Gerrha) القديمة هو من أهم الأسئلة التي تحرك البحث التاريخي والجغرافي في الخليج العربي، وخصوصًا في شرق شبه الجزيرة العربية. هذا السؤال لا يزال مفتوحًا للنقاش العلمي، لكن هناك عددًا من القرائن والأدلة التي تُستخدم في دعم الفرضية القائلة بأن القطيف القديمة (أو جزءًا منها) هي ذاتها أو وريثة مدينة الجرهاء الشهيرة، التي ذكرها المؤرخون الإغريق والرومان كمدينة مزدهرة جدًا في التجارة والثروة والثقافة.

واسم “الجرهاء”، قد تكون تحريفًا لـ”جِرّة” أو “جَرار”، كأنها مدينةٌ سُمّيت بما تُنتجه أو تُخزّنه أو تُصدّره، شأنها شأن كثير من المدن التي سُمّيت بالحرفة أو السلعة: كالبصرة (الأرض المملوءة بالحجارة الصغيرة)، والكرخ (من الكراج/التجارة)، ومكة (من الامتلاك). فهذا الاسم لم يسمى صدفة، بل قد يكون مشتقًا من الجِرار، وهي الأواني الفخارية التي استُخدمت عبر العصور في:
• تخزين الماء والزيت والعسل والتمر والعطور.
• استخدمت للتجارة والنقل البحري والبري.
• واستخدمت للطقوس الدينية والجنائزية في الثقافات القديمة.
الجرهاء مدينة الفخار والتجارة
تدلّنا الروايات التاريخية على أن الجرهاء كانت:
• مركزًا تجاريًا ضخمًا لتبادل البخور والمرّ والعطور القادمة من اليمن والهند.
• موقعًا تتجمع فيه القوافل قبل أن تواصل طريقها شمالًا نحو العراق والشام ومصر.
• ومن الطبيعي أن تكون المدينة مليئة بالجرار الفخارية التي تُخزّن فيها تلك البضائع.
القطيف وصناعة الجِرار: الصدى الحيّ
القطيف، كما وثّق الباحثون والمسنون، كانت مدينة مشهورة بصناعة الفخار، وخصوصًا:
• الجرار الفخارية المستخدمة لحفظ الماء والتمر.
• أواني التبريد والنقل.
• الزير، والبرمة، والدنّ، والمصخن.
وهذا الإرث الحرفي لا يزال يُرى في بعض الأحياء القديمة، وتتناقله الذاكرة الشعبية. فهل تكون “القطيف” هي الامتداد الحيّ لمدينة الجِرار… أي الجرهاء؟.. وهي تلك المدينة التي لا تزال جرارها تتنفس في أسواق القطيف القديمة، في بيوتها الطينية، وفي ذاكرة بحرها ونخلها.
الدلالات والدراسات التاريخية التي تثبت ان القطيف الحالية هي ذاتها مدينة جرهاء القديمة التي وصفها الجغرافيون الإغريق والرومان:
الجرهاء في الجغرافيا الكلاسيكية:
1. سترابو (Strabo) – الجغرافيا (Geographica): وهو المؤرخ اليوناني سترابو (64 ق.م – 24 م) كتب في كتابه “الجغرافيا” عن مدينة جرهاء الواقعة “في شرق شبه الجزيرة العربية، على الساحل المقابل لفارس”. قال إنها تبعد “خمسة أيام بالقافلة من الساحل”، ويقيم فيها عرب طُردوا من شمال الجزيرة. وصفها بأنها: “مدينة حجرية لا يعيش أهلها في خيام، بل في منازل مبنية بالحجر والملاط، وهم من أغنى العرب بفضل تجارتهم مع الهند، ومنها تمر البضائع إلى الأنباط والسوريين والفينيقيين”. وعند تحليل هذا القول نجد ما يلي:
• الموقع مطابق لساحل الخليج العربي (القطيف أو الأحساء).
• المسافة من الساحل تدل على قربها من البر الداخلي وليس الساحل المباشر.
• غناها التجاري يتطابق مع تاريخ القطيف كمركز للؤلؤ والتجارة البحرية.
• العمارة المستقرة بالحجر تتفق مع ملامح قلعة القطيف والواحة.
2. بليني الأكبر (Pliny the Elder) – التاريخ الطبيعي (Naturalis Historia): حيث كتب بليني (23–79 م) عن جرهاء في موسوعته الكبرى، وذكر أنها: “تقع على بُعد سبعة أيام من الساحل، مشيدة بكتل من الملح الممزوج بالملاط، وغنية جدًا بسبب تجارة البخور، اللبان، والمرّ.” وتحليل هذه المقولة تدل على التالي:
- المدينة غير ساحلية مباشرة لكنها قريبة من البحر.
- ثراؤها يأتي من كونها محطة على طريق البخور من الجنوب إلى الشمال.
- استخدام مادة “الملح” في البناء قد يكون توصيفًا رمزيًا أو سوء فهم لوجود أحجار كلسية أو جيرية، كما هو موجود في بيوت القطيف التقليدية.
3. بطليموس (Ptolemy) – الجغرافيا (Geographia): وهو الجغرافي السكندري بطليموس (100–170 م) لم يصف المدينة سرديًا، بل أورد اسمها في خرائطه مع إحداثيات دقيقة. حيث وضع الجرهاء (Gerrha) شرق الجزيرة العربية، على الساحل المقابل لفارس، قرب ما سماه “سينوس بيرسيكوس” (الخليج العربي). وكذلك ذكرها ضمن المدن الكبرى مثل: كاتارا (قطر)، وأرتميتوريس، وأومانا. وبناءا على ذلك يمكننا تحليل الاتي:
• موقع جرهاء في خرائط بطليموس يتطابق تقريبًا مع منطقة القطيف والجبيل.
• ورودها في خرائط الإحداثيات يدل على أهميتها الحضارية في عصره.
• اقترابها من “كاتارا” يعزز العلاقة الجغرافية بساحل الخليج العربي.
جرهاء في عيون الرحالة والمؤرخين الغربيين
4. جيرالد دي كراي (Gerald de Gaury): حيث أشار في كتابة “”Arabia Phoenix التالي: “القطيف هي من أقدم المراكز الساحلية المأهولة في الخليج، ويُحتمل أنها وريثة مدينة الجرهاء القديمة” واستند في تحليله على:
• الموقع الجغرافي للقطيف.
• النشاط التجاري البحري الممتد إلى الهند وفارس.
• النسيج الاجتماعي والعمراني المستقر.
ودي كراي، الذي خدم كدبلوماسي في الخليج، كان مطلعًا ميدانيًا على تاريخ المنطقة ورؤيته ترجّح القطيف كموقع أو وريثة طبيعية مدينة الجرهاء، استنادًا إلى السياق الثقافي والجغرافي.
5. لوريمر (J.G. Lorimer) – دليل الخليج (Gazetteer of the Persian Gulf): في موسوعته الشهيرة التي ألفها للمخابرات البريطانية، وصف القطيف بأنها: “واحة تاريخية مأهولة، ذات نشاط تجاري بحري، ومنطقة زراعية متميزة” حيث لم يربطها مباشرة بالجرهاء، لكنه:
• أشار إلى قدمها كمدينة مأهولة.
• وصف أسواقها، ووفرة المياه العذبة (العيون)، والمزارع.
• وضعها على خريطة مدن الخليج ذات الأهمية التاريخية.
وتؤكد رؤية لوريمر أن القطيف منطقة مأهولة منذ قرون طويلة، وموقعها يجعلها مرشحة لاستيعاب دور مدينة قديمة بحجم مدينة الجرهاء.

ملاحظات لغوية وأثرية:
• الاسم “جرهاء” قد يكون مرتبطًا بالجِرار الفخارية، وهي صناعة اشتهرت بها القطيف.
• التحول اللغوي من جرهاء إلى “القطيف” ممكن تاريخيًا، لا سيما مع دخول الإسلام وتبدّل النطق والمعاني.
• القطيف تحوي بقايا أثرية وسجلًا عمرانيًا يمكن أن يمتد لألفي عام، ما يعزز الفرضية.
خلاصة الدراسة:
تجتمع شهادات المؤرخين الكلاسيكيين والرحالة الغربيين على رسم ملامح مدينة شرق جزيرة العرب:
• فاحشة الثراء.
• على طريق التجارة.
• قريبة من الساحل.
• ذات استيطان مستقر.
• شهيرة عالميًا في القرون الميلادية الأولى.
وكل هذه الملامح تنطبق بدقة على مدينة القطيف، سواء باعتبارها:
• الجرهاء نفسها التي تغيّر اسمها الى القطيف بمرور الزمن.
• أو امتدادًا حضاريًا للجرهاء التي ربما اندثرت وبقيت روحها في الواحة والبحر والنخل.
وبناءا على كل ذكر من دلالات تاريخية و جغرافية نوصي بما هو اتي:
• إجراء تنقيبات أثرية معمقة في القطيف ومحيطها الشرقي.
• جمع ودراسة النقوش واللقى الفخارية القديمة.
• إصدار أعمال مقارنة بين المصادر الكلاسيكية والمصادر الإسلامية المبكرة.
• بناء سردية حضارية تربط بين الجرهاء القديمة والقطيف الحديثة.
وفي الختام:
الجرهاء كانت مدينة ساحلية شرقية، ظهرت في مصادر الإغريق والرومان كرمز للثراء والتجارة والاستقرار حيث ان القطيف والأحساء هما اليوم أقرب المواقع المحتملة لموقع الجرهاء، بناءً على الجغرافيا، العمارة، التجارة، وذكر الرحالة حيث لا تزال المسألة مفتوحة علميًا، لكن معظم الدراسات الحديثة تميل إلى أن الجرهاء إما كانت في موقع القطيف أو إحدى مدنها الأمّ التي ورثت الاسم والمكان والدور الحضاري.

1. المصادر اليونانية والرومانية الكلاسيكية
• سترابو (STRABO – GEOGRAPHICA 16.4.19–20) حيث يصف جرهاء على أنها مدينة ساحلية مزدهرة، يسكنها منفيون من بابل، مبنية من الملح والقوافل التجارية تعبرها – تصفها مستشرقين في صيانة البناء بالملح
• بليني الأكبر (PLINY THE ELDER – NATURALIS HISTORIA 6.32) حيث يذكر أن حجم المدينة نحو خمسة أميال، مبنية بكتل من الملح وغنية بتجارة اللبان والبخور .
• بطليموس (PTOLEMY – GEOGRAPHIA 6.7) حيث يُدرج جرهاء باسم GÉRRHA ضمن خرائطه المبكرة، ويضعها على الساحل الشرقي من الخليج، ضمن مدن مثل كاتارا وأومانا .
2. الأدبيات الأثرية والتاريخية
• BROWN UNIVERSITY / JOUKOWSKY INSTITUTE حيث تؤكد هذه المصادر أن جرهاء وردت فقط في المصادر النصية، وتُذكر كأحد أهم مراكز التبادل التجاري ضمن مملكة دلمون، مع اقتراح ربطها بمواقع مثل THAJ أو UQAIR
• OXFORD CLASSICAL DICTIONARY حيث ذكر هذا المصدر ان الجرهاء GERRHA كمدينة محتملة في شرق السعودية الحديثة، وتربط الاسم بالغوي المحلي لـ HAGAR (الحُفَيف) أو حواضر الأحساء.
• JATLAND WIKI (تفصيل ملخص للمصادر اليونانية والرومانية) حيث تجمع تأريخًا عن وصف بليني، سترابو، وبطليموس، وتقترح موقعها عند UQAIR أو HOFUF (الحُفّيف/الهفوف)
• WIKIPEDIA – GERRHA + EASTERN ARABIA + PRE-ISLAMIC ARABIA حيث تجمع ملخصًا شاملاً عن المدينة، تسلّط الضوء على:
o وصف سترابو للبيوت الملحيّة،
o موقعها قرب UQAIR/HOFUF،
o علاقتها بالتجارة في العطور والبخور،
3. الدراسات الأثرية والتحليلية الحديثة
• POTTS (1984) – THAJ AND THE LOCATION OF GERRHA (PROCEEDINGS OF THE SEMINAR FOR ARABIAN STUDIES) حيث يُحلّل هذا المصدر النقوش الأكيدة والعملات ذات الطابع اليوناني والتسمية الحَسائية ويؤكد على ارتباط الموقع بثاج والمنطقة الشرقية .
• KURDISH STUDIES (2023) – THE PERIOD OF PROSPERITY… حيث يستعرض العلاقات التجارية بين جرهاء والسلوقيين (SELEUCIDS)، ويوثق وجود العملة والقطع الأثرية داخل مواقع مثل THAJ
موارد إضافية مفيدة
• EXPEDITION MAGAZINE – PENN MUSEUM: تحليل عميق لمسألة موقع جرهاء وعلاقته بثاج والحضارات المحيطة
• SAUDIPEDIA: تلخيص حديث لأحدث اتجاهات البحث في الخرائط الأثرية وتحديد موقعها بين HALF MOON BAY وUQAIR
• WIKIPEDIA – INCENSE TRADE ROUTE: تذكر GERRHA كواحدة من نقاط التجارة البرية والبحرية المهمة في طريق البخور
مقالات المؤلف عن الجيرهاء:
• HTTPS://WWW.QATIFSCIENCE.COM/?P=21787
• HTTPS://WWW.QATIFSCIENCE.COM/?P=27113