ظاهرة الديجا فو… حين يزورك الزمن في غير أوانه – بقلم صادق علي القطري

إلى كل من وقف في مكانٍ للمرة الأولى، ثم تملّكه شعور غريب يقول: “لقد كنتُ هنا من قبل!”
إلى أولئك الذين داهمهم الزمن الخفي في لحظةٍ عابرة، وأربكهم ذهول لا تفسير له…
هذه الكلمات لك، ولكل من آمن أن في النفس طُرقًا لم تُعبَّد بعد.

كأنك تعيش اللحظة مرتين… وكأن الزمن يتلوّى بين أصابعك، وتتداخل الذكرى بالحاضر، وكأن روحك سبقت جسدك بخطوة. تتلفت حولك، تحاول أن تُقنع نفسك: “أنا هنا للمرة الأولى… ولكن لماذا يبدو كل شيء مألوفًا إلى هذا الحد؟” تلك هي ظاهرة “الديجا فو” المصطلح الفرنسي الذي يعني: “شوهد من قبل”. لحظةٌ خاطفة، لكنها تترك أثرًا عميقًا، كأنها همسة من حياة أخرى، أو رسالة من ذاكرة لا تعرفها. هي ظاهرة نفسية مذهلة، يعيشها معظم الناس في مرحلة ما، وتفتح بابًا للتساؤل بين المنطق والحدس، بين علم النفس وأسرار الوعي.

ما هي ظاهرة “الديجا فو”؟
الديجا فو هو شعور قوي بأنك عشت موقفًا أو رأيت مكانًا أو سمعت جملة من قبل، رغم أنك تدرك منطقيًا أنها المرة الأولى. قد يحدث هذا في شارع، أو في حوار، أو أثناء السفر… وفجأة، يغمرك شعور غريب: “لقد حدث هذا لي سابقًا… أعرف ما سيُقال الآن!” حيث في أغلب الحالات، يستمر الشعور لعدة ثوانٍ فقط، لكنه يكون واضحًا ومربكًا كأنك بين حلم ويقظة.

ماذا يقول علم النفس عن هذه الظاهرة؟
يُرجّح علماء النفس أن ظاهرة الديجا فو ناتج عن خلل مؤقت في معالجة المعلومات في الدماغ، وتحديدًا بين نظامي “الذاكرة قصيرة المدى” و”الذاكرة طويلة المدى”. بمعنى أن المعلومة التي تدخل إلى عقلك – كصوت، أو مشهد – تُخزَّن فجأة في الذاكرة طويلة المدى، فيظن عقلك أنك “تتذكّر” شيئًا حصل بالفعل، بينما هو يحدث أمامك للمرة الأولى.

الباحث إدوارد تيشنر في أوائل القرن العشرين اعتبر الديجا فو “خدعة ذاكرة”، بينما علماء الأعصاب اليوم يربطونه بالنشاطات الكهربائية في الفص الصدغي، المنطقة المرتبطة بالذاكرة والوعي.

وماذا عن الجانب الروحي؟
بينما يفسّره العلم كهربائيًا، يراه آخرون تجربة روحية، أو علامة على ارتباط الأرواح، أو حتى تذكّر من حياة سابقة في نظريات التناسخ حيث في الثقافات الشرقية، يُنظر إليه أحيانًا كـ”رسالة من روحك العليا”، أو أحد أبواب الوعي العابر للزمن. أما في علم النفس الوجودي، فهو يُذكّر الإنسان بأنه يعيش ضمن نهرٍ من الذكريات، وأن الحاضر ليس سوى طبقة رقيقة تغطي عمقًا نفسيًا أقدم مما نظن.

لماذا تؤثّر فينا ظاهرة الديجا فو بهذا العمق؟
لأننا كائنات لا تعيش فقط باللحظة، بل نعيش بما نشعره تجاه اللحظة. فعندما تداهمنا ظاهرة الديجا فو، تنهار فجأة قواعد الزمن المألوفة، فنشعر بالدهشة، وربما الخوف، وربما الحنين لشيء لا اسم له. وكأننا نُلامس “طيفًا” من ذواتنا لم نرَه من قبل… وقد لا نحتاج لتفسيره، بل فقط أن نصمت ونشعر.

في الختام:
ظاهرة “الديجا فو” ليس خطأ في الذاكرة… بل نافذة صغيرة يفتحها العقل حين يمرّ القلب بلحظة خارجة عن العادي. هي تذكير بأن هناك أشياء لا تُقاس بالمنطق وحده، وأننا نحمل في دواخلنا خرائط خفية، ومسارات لم نمرّ بها بعد، لكنها تعرفنا. وفي لحظة الديجا فو، لا تحاول أن تهرب منها، ولا تحاول أن تفسّرها بسرعة… بل تمهّل، وأنصت.

ربما كانت تلك اللحظة مرآةً لحياةٍ أخرى… أو ربما، كانت فقط دليلًا على أن داخل كل إنسان، أرشيفًا من الذاكرة والمشاعر، لا يَعرفها إلا الزمن… حين يقرر أن يعود، ولو لثانية واحدة.

المهندس صادق علي القطري

المصادر:
1. مصادر علمية ونفسية:
• Brown, A. S. (2004).
The Déjà Vu Experience: Essays in Cognitive Psychology
دراسة نفسية معمقة تشرح الظاهرة من منظور الذاكرة والوعي والخلل في المعالجة الإدراكية.
• Spatt, J., & Zifko, U. A. (1999).
“Déjà vu: Possible Parahippocampal Mechanism” – Journal of Neurology.
تربط بين نشاط غير طبيعي في الفص الصدغي وتكرار ظاهرة الديجا فو، خصوصًا في سياق مرض الصرع.
• Michael Moulin (2002).
“Déjà vu: Insight into Recollections and False Memories” – Trends in Cognitive Sciences
يناقش كيف يمكن أن تنشأ ذكريات زائفة وشعور التكرار نتيجة تداخل بين نظم الذاكرة.
• Sigmund Freud – “The Uncanny” (1919)
تفسير فلسفي/نفسي يرى الديجا فو كأثر لعواطف مكبوتة أو رغبات غير واعية، تشعرنا بالغرابة حين تظهر فجأة.
• Edward B. Titchener (1928).
من أوائل من صاغ تفسيرًا علميًا للديجا فو باعتباره “خطأ في الإدراك الواعي للذاكرة طويلة المدى”.
• Anne Cleary – Colorado State University
باحثة رائدة في تفسير الديجا فو باعتباره ناتجًا عن تشابه في نمط المعلومات بين الحاضر والماضي، حتى دون تذكّر مباشر.

2. مصادر روحية وفلسفية:
• Carl Jung – Archetypes and the Collective Unconscious
يرى أن بعض لحظات الإدراك الغامضة مثل الديجا فو تنبع من اللاوعي الجمعي، وتشير إلى صور قديمة مشتركة بين البشر.
• Eastern Philosophy – Concepts of Karma and Reincarnation
في بعض المدارس الهندوسية والبوذية، يُفسّر الديجا فو كاستذكار لحيوات سابقة أو نقاط التقاء بين الزمان الروحي والزمان الفيزيائي.
• Buddhist and Sufi Writings on Consciousness
تناقش أن “اللحظة المتكررة” قد تكون نوعًا من الوحي الباطني أو إدراك نادر للزمن الدائري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *