{ مقدمة }
في أرجاء وطننا الغالي، المملكة العربية السعودية، وبين جنبات هذا الوطن المتجدد، يعيش بيننا متقاعدون يحمل هؤلاء في ذاكرتهم المهنية تراكمات من التجارب، وفي عقولهم حلولًا جاهزة لتحديات ما تزال قائمة. لا تزال عقولهم تنبض بالحكمة والخبرة، وقلوبهم تنبض بالولاء والانتماء. لم يشغلهم التقاعد عن حب العطاء، ولم يُطفئ العمر جذوة شغفهم بالعلم والمعرفة.
هؤلاء المتقاعدون هم نخبة الوطن: أساتذة جامعات، خبراء هندسيون، روّاد في قطاع البترول، اقتصاديون بارزون، وخريجو أعرق الجامعات السعودية والعالمية. عملوا في كبرى الشركات الوطنية، واكتسبوا خبرات عالمية نادرة. وعلى الرغم من انتهاء رحلتهم الوظيفية رسميًا، إلا أن رؤاهم وحلولهم لا تزال صالحة وملحة في زمن التحول الوطني.
لكنهم اليوم يقفون خلف جدران غير مرئية؛ ليس لقصورٍ في قدراتهم، بل لأنهم يفتقرون إلى “بوابة عبور” حقيقية تربطهم بمراكز الأبحاث أو بالميادين العلمية والمهنية.
وقد آن الأوان لتجاوز هذه الحواجز، وإعادة دمج هذه العقول في مسيرة التطوير الوطني. فالمملكة، برؤيتها الطموحة 2030، بحاجة إلى كل فكر ناضج، وكل تجربة صادقة، وكل مساهمة وطنية تسعى إلى بناء المستقبل.
فالتقاعد، في الدول المتقدمة، لا يعني نهاية لمسيرة العطاء، بل يمثل انطلاقة جديدة بروح مختلفة تزخر بالأفكار والإنجازات الرفيعة.
{ الواقع العالمي: التقاعد ليس نهاية المطاف }
في العديد من المؤتمرات العلمية في الخليج وأوروبا وأمريكا، نجد متقاعدين يعتلون المنصات، يقدمون أوراقًا علمية، يرأسون جلسات نقاش، ويُستعان بخبراتهم الاستشارية في صياغة السياسات العلمية والصناعية.
فهناك حضور بارز لمتقاعدين سعوديون وأجانب – عرب، وأوروبيين، وأمريكيين – يواصلون عطائهم المهني والعلمي بعد التقاعد، عبر أبحاث متخصصة، وورش عمل متقدمة، واستشارات استراتيجية في مجالات الطاقة والصناعة والتعليم والتقنية.
يقدّم هؤلاء المتقاعدون، بخبراتهم الواسعة، قيمة مضافة للفعاليات العلمية التي يشاركون فيها، ويُنظر إليهم في بلدانهم بوصفهم ثروة فكرية تستحق الاستمرار والاستثمار.
ولعلّ النموذج الغربي في تمكين المتقاعدين وتوظيف خبراتهم، يمثل تجربة يُحتذى بها، حيث لا يُنظر إلى التقاعد كخروج من ميدان العطاء، بل كبداية لدور أكثر تركيزًا ومرونة.
في المقابل، لدينا في المملكة نماذج ملهمة من متقاعدين سعوديين يواصلون العطاء من خلال عملهم كمستشارين مع شركات محلية وعالمية، أو عبر تعاونهم مع مراكز أبحاث واستشارات دولية تخدم قطاعات حيوية، خصوصًا النفط والغاز والبتروكيماويات والبنوك.
تُثبت هذه النماذج أن التقاعد لا يعني نهاية المطاف، بل قد يكون بداية جديدة لحياة علمية واستشارية ثرية، تتطلب فقط التوجيه والاحتواء.
{ الابتكار العلمي لا يعترف بالعمر }
غالبًا ما تأتي الأبحاث العلمية والأفكار الابتكارية بعد خبرة طويلة، ولربما تسبق التقاعد بوقت قصير. ورغم نضجها وقيمتها، فإنها قد تبقى حبيسة الأدراج ما لم تجد من يتبناها أو يدفع بها نحو المستفيد النهائي.
فالعمل والابتكار لا وقت أو عمر لهما، بل هما حق مشروع ومتجدد لكل من يحمل الشغف والمعرفة، وتكون نتائجهما أكثر أثرًا حين تصدر عن عقول خبيرة أبدعت في مجالاتها.
{ التحديات التي تمنع تفعيل دور المتقاعدين }
رغم وفرة الكفاءات والخبرات المتراكمة، تواجه مشاركة المتقاعدين في مسيرة التنمية عدة تحديات، أبرزها:
• التردد في إعادة الاندماج:
هناك تردد، وأحيانًا خجل، من التواصل مجددًا بعد فترة انقطاع، مما يصعّب عليهم المبادرة بعرض أبحاثهم أو خبراتهم السابقة.
• ضعف قنوات التواصل:
ضعف التنسيق مع الجهات الأكاديمية والصناعية، وخصوصًا منظمي المؤتمرات والندوات العلمية، يحد من تفعيل مشاركاتهم.
• نظرة اجتماعية نمطية:
تُختزل مرحلة التقاعد غالبًا في الراحة والسفر، ويتم تجاهل قيمتها كفترة يمكن أن تكون زاخرة بالعطاء الفكري والاستشاري.
• تكاليف وفرص المشاركة:
صعوبة الوصول إلى المحافل العلمية، أحيانًا بسبب الحاجة إلى تغطية مالية أو لوجستية، ما يثني البعض عن المشاركة.
{ خارطة طريق لإعادة دمجهم }
لتحويل هذه التحديات إلى فرص، نقترح خارطة طريق واقعية قابلة للتنفيذ:
1. المبادرة تبدأ من المتقاعدين أنفسهم:
o كسر حاجز الصمت والمبادرة بتقديم خبراتهم دون انتظار الدعوة.
o تجاوز المثبطين وعدم انتظار “الظرف المثالي”.
o تنظيم الوقت بحكمة لتحقيق توازن بين الحياة الشخصية والعطاء العلمي.
2. تمكينهم من المشاركة في المؤتمرات المحلية والخليجية:
o منحهم فرصًا للمشاركة كمتحدثين برسوم رمزية أو مجانًا، تقديرًا لخبراتهم، وإتاحة المجال للخبراء والباحثين للاستفادة من تجاربهم الواقعية الثرية.
3. فتح قنوات للتعاون مع الجامعات والمؤسسات البحثية:
o إشراكهم في مراجعة البحوث العلمية، وربطهم بالمشروعات البحثية والاستشارية المتنوعة.
4. توثيق إنجازاتهم وتحفيز الشركات للاستفادة منها:
o توثيق خبراتهم وأبحاثهم كمرجع للأجيال القادمة، وتكريم مساهماتهم في مختلف القطاعات.
5. الاستثمار في خبراتهم ضمن لجان تطوير التعليم والتقنيات:
o إشراكهم في تطوير تقنيات حديثة في الشركات الناشئة، خصوصًا في مجالات الطاقة، الصحة، والذكاء الاصطناعي.
6. تأسيس منصات علمية تفاعلية لتكامل الأجيال:
o لأن العطاء العلمي لا يحدّه العمر، فإن أحد أنجع السبل للاستفادة من خبرات المتقاعدين يتمثل في إنشاء مراكز ومنصات علمية تدمجهم ضمن فرق بحثية تضم باحثين شبابًا وطموحين.
o هذا المزج بين الموهبة والخبرة هو ما يصنع الفرق الحقيقي في جودة البحث العلمي.
o كما أن ربط هذه المنصات بالشركات المتخصصة ومراكز الدراسات الوطنية يضمن توجيه هذا العطاء نحو تحديات واقعية وفرص استراتيجية.
o ويمكن أن تصبح هذه المنصات فضاءً لتبادل الخبرات، وتقديم الاستشارات، وتطوير حلول وطنية قائمة على المعرفة المتراكمة.
7. دور القطاع الخاص في رعاية وتوجيه العطاء المتجدد:
o لا تزال المملكة بحاجة إلى مبادرة القطاع الخاص لاستضافة أو إنشاء منصات تُعنى حصريًا بربط المتقاعدين المؤهلين بالجهات الباحثة عن خبراتهم، ضمن أطر منظمة تضمن استدامة المشاركة والاستفادة للطرفين ضمن منظومة متكاملة.
{ خاتمة: الفرصة لم تذهب… لكنها تنتظر من يراها ويغتنمها }
في زمن تُبنى فيه الطموحات على أسس الابتكار والمعرفة، لا يصح أن نغفل عن كنوزنا البشرية التي صقلتها التجربة العملية، وغذّاها العلم، ورسّخها العمل الوطني.
المتقاعدون ليسوا صفحات أُغلقت، بل هم فصول لا تزال تحمل بين سطورها دروسًا ومفاتيح لمستقبل أكثر نضجًا واستدامة.
هم ليسوا فقط شهودًا على إنجازات الأمس، بل شركاء فاعلون في بناء الغد. عقولٌ ألفت التحديات، وتذوّقت النجاح، واكتسبت بصيرة من كل تجربة مرّت بها.
ما ينقصهم ليس القدرة، بل المنصة التي تُمكّنهم من إيصال صوتهم، والمسار الذي يربطهم بجيل الحاضر في الشركات المحلية والعالمية، لا سيما تلك العاملة في مشاريع رؤية المملكة 2030.
إن رؤيتنا الوطنية الطموحة تحتاج منا جميعًا العمل بجد وإخلاص لإنجازها، والوفاء لوطننا الغالي، ومن خلالها إيجاد السبل المناسبة لتحقيق حلم المتقاعدين في تمهيد الطريق نحو النجاح المنشود، وتقديم هذه العقول النادرة إلى الشركات والمؤسسات الخاصة والعالمية العاملة بالمملكة للاستفادة من خبراتهم وقدراتهم الفريدة.
فلنحوّل “التقاعد” من محطة نهاية إلى منصة انطلاق…
ولنمنح هؤلاء الكبار “بوابة عبور” تليق بعقولهم…
ففي حضرة الخبرة، كل فكرة أعمق، وكل قرار أحكم، وكل خطوة نحو المستقبل أكثر ثباتًا
[والفرص لا تضيع، بل تنتظر من يملك الرؤية والإرادة لالتقاطها].
*المهندس محمد عبد الله أبو فور مستشار متخصص في مجال الفحوصات اللاإتلافية، وله باع طويل في تطوير تقنيات التفتيش الهندسي في قطاع النفط والغاز. كما له مساهمات كبيرة في دعم برنامج الفحوصات اللاإتلافية في معهد إتقان وكلية الجبيل الصناعية.
يشغل حاليًا منصب المدير الإقليمي للجمعية الأمريكية للاختبارات اللاإتلافية لمنطقة 19، التي تضم المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة، الهند، الكويت، عُمان، والعراق. وهو أيضًا عضو مؤسس في الجمعية الأمريكية للفحوصات اللاإتلافية – قسم المملكة العربية السعودية. حصل المهندس محمد على العديد من الجوائز المميزة في هذا المجال على الصعيدين المحلي والعالمي، كما تم تكريمه في مناسبات عديدة في الولايات المتحدة الأمريكية واوروبا.
قام بتطوير وتحسين العديد من تقنيات الفحوصات اللاإتلافيه، ومراجعة الإجراءات، واعتماد وتأهيل فنيي الشركة والمقاولين. بالإضافة إلى ذلك، قدم وأدار خدمات التفتيش المتقدمة وفقًا لمعايير الدولية للصناعة.
شغل المهندس محمد أبوفور عضوية مجلس إدارة الجمعية الأمريكية للفحوصات اللاإتلافيه بالولايات المتحدة الامريكية لفترة انتهت في عام 2018،
وفي مشواره العلمي قدم أكثر من 200 منشور، بما في ذلك التقارير الفنية، والمقالات العلمية، والعروض التقديمية الفنية في المؤتمرات والمنتديات والاجتماعات المحلية والدولية. بالإضافة إلى ذلك، ساهم في وضع معايير الفحوصات اللاإتلافيه المتقدمة، وراجع واعتمد العديد من تقنيات وإجراءات تقنيات الفحوصات اللاإتلافيه التقليدية والمتقدمة.
سلام عليكم—أنا إبراهيم الوباري // متقاعد من أرامكو. فقط حبيت اقدم شكري و تقديري لعزيزي الغالي المهندس المتميز لهذا المقال الشيق و لاعطائه المستمر في مجال NDT INSPECTION.
حقا كثير من المتقاعدين كنز من العلم والعطاء و الخبره .
اعتقد الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي بإمكانها عمل منصة خاصة تتيح للمتقاعدين إضافة كل خبراتهم وابحاثهم وكتاباتهم في خوارزمية يستخدمها الذكاء الاصطناعي ضمن خوارزمياته…
هي مجرد فكرة… ربما هي موجودة فعلا…