إلى كل من تأمل في انحناءة موجة، أو تنفّس نسمة ، دون أن يعرف أن التوازن هناك يبدأ من عشبٍ أخضر،،،
عليه أن يُصغي للطبيعة ويسمع البحر وهو يلتقي باليابسة.
ونحن نرى هذه الأعشاب البحرية على سواحل القطيف بشكل موسمي من كل سنة بات لزاما علينا ان نبين دور هذه الأعشاب البحرية لكل من يهتم بالبيئة.
حين تلتقي الخضرة بالملح
في المناطق الساحلية حيث تلتقي اليابسة بالبحر، وتتشابك الجذور الطافية لأشجار المانغروف مع المدّ والجزر، هناك قصة صامتة تنمو على مدار الفصول. إنها قصة الأعشاب البحرية الخضراء الموسمية؛ كائنات بسيطة في مظهرها، لكنها بالغة الأثر في صميم التوازن البيئي. هذه الأعشاب، التي تنمو وتذبل وفق إيقاع الزمن البحري، تؤدي أدوارًا وظيفية معقدة في حضن غابات المانغروف، فتخلق نسيجًا حيًّا من التناغم البيئي لا يدركه إلا من يتأمل التفاصيل الصغيرة.
مصدر حياة أولي وقاعدة هرم غذائي
تعمل الأعشاب البحرية الخضراء كمصانع ضوئية موسمية، تُحوّل ضوء الشمس إلى طاقة حيوية من خلال عملية التمثيل الضوئي، فتنتج الأوكسجين وتوفر الكربوهيدرات للكائنات الدقيقة. فهي بداية السلسلة الغذائية في بيئات المانغروف، تغذي العوالق النباتية والحيوانية، ثم تنتقل هذه الطاقة إلى الأسماك الصغيرة، والرخويات، والطيور، وصولًا إلى الحيوانات الأكبر. إنها البداية الخضراء لكل شيء.
حضن آمن للصغار
توفر الأعشاب البحرية الموسمية غطاءً طبيعيًا يحتمي فيه صغار الكائنات البحرية من المفترسات. في فترات نموها، تتحول مناطق جذور المانغروف المحاطة بالأعشاب إلى مشاتل طبيعية للأسماك والقشريات. تنمو هناك أسماك الشعري، والصافي، والهامور في مراحلها الأولى، كما تفقس فيها بيوض السرطانات والروبيان، بعيدًا عن التيارات القوية والخطر.
تنقية الماء وتنظيم المغذيات
تعمل الأعشاب البحرية الخضراء على امتصاص العناصر الزائدة من الماء، مثل الفوسفات والنترات، والتي قد تؤدي زيادتها إلى اختناق الحياة البحرية (ظاهرة التخثث). وبهذا، فهي تساهم في تحسين جودة المياه، وتصفية البيئة المحيطة بجذور المانغروف، ما يساعد على استقرار النظام البيئي بأكمله.
تثبيت الرواسب ومقاومة التآكل
تشكل هذه الأعشاب شبكةً حيوية تحت الماء، تلتقط الرواسب العالقة وتقلل من حركة الرمال، مما يمنع تعرية التربة الساحلية. تعمل جنبًا إلى جنب مع جذور المانغروف في تثبيت القاع الطيني أو الرملي، ما يحد من تآكل السواحل الناتج عن المدّ والجزر، والعواصف، والأنشطة البشرية.
تنوّع بيولوجي مدهش
تستقطب الأعشاب البحرية عشرات الأنواع من الكائنات، من ديدان البحر الدقيقة إلى نجوم البحر والسلاحف البحرية. وجودها يرفع من تنوع الأنواع في محيط المانغروف، ويُعزّز من تعقيد الشبكات الغذائية التي تربط البر بالبحر، والطحلب بالطيور، والبكتيريا بالأسماك.
علاقة تكاملية مع المانغروف
أشجار المانغروف توفّر الظل، والهدوء، والمغذيات التي تساعد الأعشاب البحرية على النمو، خصوصًا في بدايات مواسمها. وفي المقابل، تحافظ الأعشاب على نظافة البيئة حول جذور المانغروف، وتدعم حياة الكائنات الدقيقة التي تُعزز من صحة التربة البحرية. إنها علاقة تبادلية راسخة، لا تُعلن نفسها، لكنها جوهر الحياة الساحلية.
تهديدات متزايدة… وصرخة خضراء مكتومة
مع ارتفاع درجات الحرارة، وتلوّث السواحل، وتوسّع المدن، تتقلّص مساحات الأعشاب البحرية الموسمية عامًا بعد عام. تتهدد هذه النباتات بالاختفاء الصامت، دون أن يلحظ كثيرون أنها اختفاء لا يخصّ العشب وحده، بل يُهدد حياة ما حوله، من المانغروف حتى الكائنات العليا. فالخلل في أحد المفاصل يؤثر على السلسلة بأكملها.
وفي الختام: دعوة إلى الإصغاء للأرض “تحت الماء”
ليست الأعشاب البحرية الخضراء الموسمية مجرد تفاصيل عابرة في لوحة الطبيعة، بل هي نسيج حيّ من التوازن الدقيق، الذي لا تُحفظ استدامته إلا حين تُمنح تلك التفاصيل ما تستحقه من اهتمام. ففي صمتها تنمو الحياة، ومن تواضعها تنبع القوة، وبينها وبين المانغروف، تنسج الأرض البحرية صيغتها الفريدة من العيش المشترك.

المصادر:
• Duarte, C. M. (1995). “Submerged aquatic vegetation in relation to different nutrient regimes.”
Ophelia, 41(1), 87–112.
دراسة توضح العلاقة بين الأعشاب البحرية ومغذيات البيئة الساحلية، وتأثيرها على دورة العناصر الغذائية.
• Nagelkerken, I., et al. (2008). “The habitat function of mangroves for terrestrial and marine fauna: A review.”
Aquatic Botany, 89(2), 155–185.
تبرز الدور التكاملي بين غابات المانغروف والأعشاب البحرية في دعم التنوع البيولوجي.
• Hemminga, M. A., & Duarte, C. M. (2000). Seagrass Ecology.
Cambridge University Press.
مرجع شامل يشرح بنية النظام البيئي للأعشاب البحرية ودورها في تخزين الكربون وتثبيت الرواسب.
• Alongi, D. M. (2002). “Present state and future of the world’s mangrove forests.”
Environmental Conservation, 29(3), 331–349.
يناقش الأدوار البيئية لغابات المانغروف، والعلاقة المتبادلة مع الأعشاب البحرية في حماية السواحل.
• Bouillon, S., et al. (2008). “Mangrove production and carbon sinks: A revision of global budgets.”
Global Biogeochemical Cycles, 22(2).
يؤكد دور الأعشاب البحرية والمانغروف كمصارف للكربون في مواجهة تغير المناخ.
• UNEP (United Nations Environment Programme). “Seagrass Ecosystems – A Brief Overview.”
https://www.unep.org/
تقارير البرنامج البيئي للأمم المتحدة حول النظم البيئية الساحلية.
• IUCN Red List – Mangroves and Seagrasses
https://www.iucnredlist.org/
بيانات حول أنواع الأعشاب البحرية والمانغروف المهددة ودورها البيئي.