في عالم اليوم حيث يتواصل البشر عبر شاشات الأجهزة الالكترونية، تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى مختبرٍ لغويٍ نابض بالحياة، حيث تُعاد صياغة اللغة بأنامل ملايين المستخدمين. من منظور علم اللغة الاجتماعي، الذي يرى اللغة كمرآة للتفاعلات الاجتماعية، تُعد هذه المنصات مساحاتٍ خصبة لتطور اللغة، مدفوعةً بظاهرة الانزياح اللغوي وتأثيرات الذكاء الاصطناعي (AI). إنها ظاهرة تجمع بين الإبداع والتحدي، وتدعونا لتأمل كيف تتشكل اللغة وسط هذا التفاعل المستجد.
الانزياح اللغوي: تغير في قلب التواصل
الانزياح اللغوي، كما يُعرفه عالم اللغة رومان جاكوبسون، هو “الانحراف المتعمد عن القواعد اللغوية لتحقيق تأثير جمالي أو وظيفي” (Jakobson, 1960). في وسائل التواصل الاجتماعي، يتجلى هذا الانزياح في أشكال متعددة تعكس مرونة اللغة. أولها الاختصارات والتكثيف، حيث تُختصر عبارات مثل “سأعود حالًا” إلى “برب”، أو “شكرًا” إلى “ثكس”. فكلمة “برب” (BRB) هي اختصار للجملة الإنجليزية *Be Right Back*، وتعني بالعربية “سأعود قريبًا”.
تُستخدم عادةً في المحادثات عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو الدردشات للإشارة إلى أن الشخص سيتغيب مؤقتًا وسيعود بعد فترة قصيرة. أما كلمة “ثكس” فهي صيغة عربية مُعبرة عن كلمة *Thanks* بالإنجليزية، وتعني “شكرًا”. تُستخدم للتعبير عن الامتنان أو الشكر في المحادثات الرقمية، وهي شائعة بين مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في العالم العربي.
كلا المصطلحين أصبحا جزءًا من لغة الإنترنت العامية التي تجمع بين الإنجليزية والعربية لتسهيل التواصل السريع. لتتماشى مع حدود الأحرف في منصات مثل (X) أو سرعة الدردشة. هذا التكثيف يعكس “اقتصاد اللغة”، وهو مفهوم يشير إلى السعي لنقل أكبر قدر من المعنى بأقل جهد (Zipf, 1949).
ثانيًا، الرموز التعبيرية الإيموجي، التي أصبحت لغة بصرية عالمية. رمز 😍 قد يحل محل جملة “أنا معجب”، مما يُظهر تحولًا من النص إلى التواصل المرئي. هذا الانزياح يُعزز التفاعل العاطفي في بيئة رقمية تفتقر إلى الإشارات غير اللفظية. ثالثًا، “الهجنة اللغوية”، حيث يمزج المستخدمون بين العامية والإنجليزية، كما في “يا برو، وش السيستم؟”. هذا المزج يعكس هوية شبابية عابرة للثقافات، مدفوعة بالعولمة وتأثير الإنترنت.
رابعًا، “ابتكار المصطلحات” حيث تنتشر كلمات مثل “فايب” أو “تريند” عبر الهاشتاغات والميمات. هذه المصطلحات تُكتسب قيمتها من “رأس المال اللغوي”، وهو مفهوم يربط قيمة الكلمة بقدرتها على تعزيز الانتماء الاجتماعي (Bourdieu, 1991). فالشاب الذي يكتب “الفايب مو طبيعي” يؤكد انتماءه إلى ثقافة رقمية شبابية.
دوافع الانزياح: إيقاع العصر الرقمي
الانزياح اللغوي لا يحدث عشوائيًا، بل تُحركه عوامل اجتماعية وتكنولوجية. السرعة هي المحرك الأول، إذ تفرض المنصات مثل (X) إيقاعًا يدفع للإيجاز. ثاني العوامل هو السياق الاجتماعي، يشجع المستخدمين على محاكاة لغة مجموعاتهم، ثالث العوامل هو الإبداع، بحسب عالم اللغة ديفيد كريستال، فإن “الإبداع اللغوي في الفضاء الرقمي يعكس حاجة الأفراد إلى بناء هويات اجتماعية متميزة” (Crystal, 2006).
في السياق العربي، نرى هذا الإبداع في مزج العامية مع الإنجليزية، كما في “الوضع سايكو، بس فله”، التي تجمع بين كلمة “سايكو” (من Psycho) و”فله” (عامية سعودية)، لخلق تعبير يعبر عن حالة عاطفية معقدة بأسلوب جذاب ومبتكر. هذا المزج لا يهدف فقط إلى التواصل، بل إلى إبراز هوية شبابية عابرة للثقافات.
الذكاء الاصطناعي: محفز للانزياح اللغوي
الذكاء الاصطناعي يُعد قوة دافعة لتطور اللغة في وسائل التواصل، حيث يُعزز الانزياح اللغوي ويُدخل أنماطًا جديدة. نماذج اللغة مثل (chat GPT)، المطور من (open AI)، تُنتج نصوصًا تحاكي العامية أو الفكاهة، مما يُثري التفاعل الرقمي. على سبيل المثال، قد يستجيب (chat GPT) لطلب “وين أقرب كوفي؟” بعبارة “في كوفي رهيب على بعد ٥ دقايق، تبي أرشدك؟”، مما يعزز استخدام العامية.
كما أن أدوات الذكاء الاصطناعي، مثل روبوتات الدردشة على (X)، تتفاعل بلغة تحاكي أسلوب المنصة، مستخدمة الاختصارات والرموز التعبيرية. هذا التفاعل يُسرع انتشار المصطلحات الجديدة، كما في عبارة “الذكاء الاصطناعي قام بالمهمة” التي أصبحت شائعة. الذكاء الاصطناعي أيضًا يُسهم في الهجنة اللغوية، حيث تتيح أدوات الترجمة الفورية المزج بين اللغات، كما في “OK, Grok, explain it بالعربي”.
ومع ذلك، يثير الذكاء الاصطناعي تحديات. النماذج قد تُنتج أخطاء لغوية أو تعابير غير دقيقة ثقافيًا، خاصة في اللغة العربية التي تعاني من نقص بيانات التدريب مقارنة بالإنجليزية. كما أن الاعتماد المفرط على النصوص الآلية قد يُضعف الإبداع اللغوي البشري أو يُقلل من استخدام الفصحى لصالح العامية.
التحديات: بين الإبداع والتآكل
الانزياح اللغوي، مدعومًا بالذكاء الاصطناعي، يُثري التواصل، لكنه يثير مخاوف. يرى البعض أن الاختصارات والرموز التعبيرية تُؤدي إلى تآكل القواعد النحوية، كما في كتابة “كيفك” بدلًا من “كيف حالك”. كما أن الهيمنة الإنجليزية في نماذج الذكاء الاصطناعي قد تُضعف حضور اللغة العربية، مما يثير تساؤلات حول الهوية الثقافية. لكن، كما يشير عالم اللغة ديفيد كريستال، “اللغة تتكيف دائمًا مع سياقاتها الاجتماعية، والتغيير لا يعني التدهور” (Crystal, 2006).
اللغة الهجينة: جسر بين المحلي والعالمي
خلق الانزياح اللغوي “لغة هجينة” تجمع بين العامية والرسمية، المحلية والعالمية. في الوطن العربي، عبارات مثل “وينك؟ Slide to the DM” تُظهر هذا التمازج، مدعومًا بأدوات الذكاء الاصطناعي التي تُسهل الترجمة والتفاعل عبر الثقافات. هذا التعدد اللغوي يُمكّن المستخدمين من التعبير عن هوياتهم المعقدة، لكنه يتطلب جهودًا لدعم اللغة العربية في نماذج الذكاء الاصطناعي لضمان تمثيلها الثقافي.
المستقبل: لغة في عصر الذكاء الاصطناعي
مع تطور الذكاء الاصطناعي، ستتوسع أشكال الانزياح اللغوي. واجهات التواصل الصوتي قد تُعزز الأوامر المختصرة، بينما الميمات المرئية ستُثري اللغة البصرية. لكن الحفاظ على اللغة كأداة للهوية يتطلب تعزيز نماذج الذكاء الاصطناعي متعددة اللغات وتشجيع إنتاج محتوى عربي أصلي. كما يقول كريستال، “اللغات التي تتكيف هي التي تبقى” (Crystal, 2006).
في الختام، وسائل التواصل الاجتماعي، بنبضها السريع، تُظهر اللغة ككائن حي يتطور عبر الانزياح اللغوي والذكاء الاصطناعي. من خلال عدسة علم اللغة الاجتماعي، نرى أن هذه التحولات ليست مجرد تغيير، بل إعادة تعريف للغة كجسر للهوية والانتماء.
إنها دعوة لنعترف بحيوية اللغة، مع السعي لتوجيه تأثير الذكاء الاصطناعي نحو تعزيز التنوع اللغوي. فبدلاً من النظر إلى هذه التحولات على أنها “انحدار”، يمكن اعتبارها فرصة لفهم الديناميكيات الاجتماعية الجديدة.
اللغة في النهاية أداة تواصل، وإذا نجحت في أداء وظيفتها، فإن تغيرها ليس مشكلة، بل هو دليل على حيويتها. ربما يكون الحل هو التوازن بين قبول التغيرات الطبيعية والحفاظ على جوهر اللغة، بدلاً من الوقوف في وجه التطور أو الاستسلام الكامل للفوضى اللغوية. كما قال عالم اللغة فرديناند دي سوسير: “اللغة ليست ثابتة، بل هي نظام من العلاقات المتغيرة”.
فهل يمكننا أن نتعايش مع هذا التغير بدلاً من مقاومته؟
