قلاع شرق الجزيرة العربية… حين تنطق الحجارة بهوية المكان – بقلم صادق علي القطري

إلى كل من مرّ بجدار قديم، ولم يلتفت إليه، غافلًا أن بين ثناياه يختبئ تاريخ أمةٍ كاملة، وأن الحجارة التي نخرها الملح والريح لم تفقد بريقها، بل ازدادت لمعانًا لأنها صارت ذاكرة.

في شرق الجزيرة العربية، حيث البحر يمدّ ذراعيه إلى اليابسة، وحيث الرمال تمتزج بالمياه في مشهد لا يفنى، قامت القلاع كأوتاد شاهدة على حكايات الإنسان والمكان. ليست مجرد حصون للدفاع ولا حجارة متراكمة في شكل هندسي، بل نصوص من صخرٍ كتبت بلغة الزمان، تحرس هويةً لم تُمحَ رغم محاولات الطمس والاندثار.

القلاع في شرق الجزيرة العربية ليست مجرد حصون من حجارة، بل هي سجلٌّ معماري وتاريخي يكشف عن طبيعة الحياة في منطقة طالما كانت مسرحًا للتجارة، والبحر، والتحولات السياسية. تقع هذه القلاع على امتداد الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية، من الكويت شمالًا حتى عُمان جنوبًا، مرورًا بالقطيف والأحساء والبحرين وقطر والإمارات.

السمات العامة للقلاع الشرقية
الوظيفة الدفاعية: معظم هذه القلاع شُيّد لمراقبة السواحل أو حماية الواحات والقرى من الغزوات.
الموقع الاستراتيجي: غالبًا ما تقع قرب المرافئ، العيون المائية، أو في قلب المدن القديمة.
الطراز المعماري: تتكون من أسوار عالية، أبراج للمراقبة، بوابات ضخمة، وغرف داخلية للتخزين والسكن. استخدم في بنائها الحجر البحري، الجص، والطين، بحسب توفر المواد المحلية.
البعد الاجتماعي: لم تكن القلاع مجرد ثكنات عسكرية، بل احتضنت أحيانًا الأسواق، المجالس، والمساجد الصغيرة.

أبرز القلاع في شرق الجزيرة
قلعة القطيف (السعودية): من أقدم وأشهر قلاع الخليج، لعبت دورًا محوريًا في تاريخ المنطقة، وكانت مدينة محصنة تضم بيوتًا، أسواقًا، ومساجد.
قلعة تاروت (القطيف – السعودية): شُيدت على تل أثري يعود تاريخه إلى آلاف السنين، وتشير بعض الروايات إلى أن أصولها تعود إلى العصور الساسانية أو البرتغالية.
قلعة الأحساء (قصر إبراهيم): تمتزج فيه العمارة الإسلامية والعثمانية، وكان مقرًّا إداريًا وعسكريًا في قلب واحة الأحساء.
قلعة البحرين (المنامة): موقع أثري عالمي مسجّل في اليونسكو، يكشف عن حضارات دلمون والبرتغاليين والفترة الإسلامية.
قلعة الزبارة (قطر): بُنيت في القرن العشرين على أطلال مدينة الزبارة التجارية المزدهرة، وصارت رمزًا للتراث القطري.
قلعة الفجيرة (الإمارات): من أقدم وأكبر قلاع الإمارات، ذات طابع دفاعي يطل على السهل والساحل.
قلعة نزوى وقلعة بهلاء (عُمان): وإن كانت في الداخل العماني، إلا أن تأثيرها امتد إلى السواحل الشرقية، وهي قلاع ذات عمق تاريخي إسلامي.

دور القلاع في الذاكرة التاريخية
هذه القلاع تجسّد ذاكرة المنطقة؛ فهي شواهد على صراع القوى الكبرى (كالبرتغاليين والعثمانيين)، وعلى مقاومة أهل الخليج لحماية هويتهم. كما أنها تُظهر التفاعل بين البيئة البحرية والبرية، حيث بُنيت من مواد محلية تتناغم مع المكان.

حين تنظر إلى قلعة القطيف، مثلًا، لا ترى سورًا يعلو وساحةً تتنفس، بل تسمع وقع خطوات التجار وهم يفتحون دكاكينهم في أزقة القلعة، وتلمح مجالس العلم وقد اجتمع فيها الشيوخ والشباب على نور مصابيح الزيت، وتشمّ رائحة الملح الذي حمله البحر من المرافئ إلى داخل الأسوار. كانت مدينةً قائمة بذاتها، لا حصنًا فحسب، مدينة تختصر البحر والبرّ في قلبها، تحفظ أسماء ساكنيها وتردد صدى أصواتهم إلى اليوم.


قلعة القطيف

وإلى جوارها، على تلٍّ يطل على البحر، تنهض قلعة تاروت. كل حجر فيها يوشوش قصةً أبعد من البرتغاليين الذين رمّموها، أبعد حتى من العصور الإسلامية؛ إذ تشي أصداء التاريخ أنها تقف على أرضٍ عتيقة شهدت حضاراتٍ غابرة. من هناك، يُخيل للمرء أن البحر يمدّ بصره إلى ما وراء الأفق، كما لو كان حارسًا متواطئًا مع القلعة في حفظ أسرار المكان.


قلعة تاروت

أما قصر إبراهيم في الأحساء، فليس مجرد حصن عثمانيّ الطراز، بل هو لوحة معمارية تختلط فيها المآذن بالقباب والأبراج العسكرية، وكأنما تقول للزائر: إن الدين والدنيا، الروح والسيف، لم ينفصلا في تاريخ هذه الأرض. ومن بين أروقته ودهاليزه، يمكن أن تسمع صدى الجنود وهم يتأهبون، وصدى الفقهاء وهم يعلّمون، في تناغمٍ غريب لا تجده إلا في قلب واحة مترعة بالماء والحياة.


قصر ابراهيم

وفي البحرين، حيث قلعة البحرين، ينهض الأثر كجبل من الذاكرة. اليونسكو قد سجّلته موقعًا عالميًا، لكن أهل البحرين سجّلوه منذ قرون في وجدانهم، إذ كان شاهدًا على حضارة دلمون، على تجار اللؤلؤ، وعلى حكايات البحر الذي لا يهدأ. القلعة هنا ليست حارسةً للمكان فقط، بل بوابة إلى أعماق الزمن.


قلعة البحرين

وفي قطر، تقف قلعة الزبارة بصرامتها ورهبتها، لكنها تحيط بمدينة خبت رمالها وظل اسمها خالدًا. كانت الزبارة ملتقى قوافل وتجار، وميناءً يزدهر في مواسم الغوص على اللؤلؤ. واليوم، صارت القلعة رمزًا لذاكرة وطن، تُعرّف الأجيال بأن الرمل الذي يمشون عليه كان يومًا صاخبًا بالحياة.


قلعة الزبارة

وفي الإمارات، تحرس قلعة الفجيرة السهل والساحل معًا، تشهد على تاريخ الصراع مع القوى البحرية، لكنها أيضًا كانت حضنًا لأهل القرى المحيطة، تحميهم من الغزوات كما تحميهم من النسيان. وفي عمان، ترتفع قلاع نزوى وبهلاء، شامخةً كأنها تحاور الجبال، مؤكدة أن الداخل العماني والبحر كلاهما جزء من نسيجٍ واحد.


قلعة الفجبرة


قلعة نزوى


قلعة بهلاء


قلعة مطرح

القلاع ليست أحجارًا صماء. إنها ذاكرة جماعية، تحمل قصص المقاومين، حنين المسافرين، دموع الراحلين، وضحكات الأطفال الذين لعبوا في ساحاتها. إنها المرآة التي يرى فيها أهل الخليج هويتهم، المرساة التي تثبّت ذاكرتهم في وجه رياح العولمة والنسيان.

لقد حاول الغزاة عبر القرون أن يسيطروا على هذه الأرض، فبنوا وأسقطوا وبنوا، لكن ما بقي في النهاية هو روح المكان، الروح التي تسكن الحجارة وتجعلها حيّة. القلاع اليوم، وإن تهدّم بعضها أو بقي أطلالًا، لا تزال تروي بصدقٍ حكاية الإنسان الشرقي، الذي لم ينكسر رغم الحروب والبحر العاصف والريح القادمة من كل صوب.

وفي الختام: في شرق الجزيرة العربية، ليست القلاع مجرد آثار سياحية، بل هي أناشيد حجريّة تذكّرنا أن الهوية لا تُختزل في حدود سياسية، بل في ذاكرةٍ متوارثة، في صوت البحر حين يرتطم بالصخر، وفي ظلّ نخلةٍ تحرس السور. إلى كل من يمرّ بقلعة أو سور قديم: توقّف قليلًا. ضع يدك على الحجارة، وأنصت. ستكتشف أن ثمة قلبًا ما زال ينبض داخلها، قلبًا يقول: أنا هنا… أنا ذاكرة المكان وهوية الإنسان.

المهندس صادق علي القطري

المصادر:
• https://en.wikipedia.org/wiki/Qal%27at_al-Qatif
• https://en.wikipedia.org/wiki/Tarout_Castle
• https://whc.unesco.org/en/list/1192/
• https://whc.unesco.org/en/list/1402/
• https://jbhsc.ae/castles-and-fortresses-in-the-uae-a-tour-in-fujairah-forts/
• https://omantourism.gov.om/

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *