صيدلي وصلاة الفجر – بقلم الصيدلي عبدالله حسين اليوسف*

في إحدى الليالي كنت مكلفا في مناوبة “صيدلية الإسعاف” في إحدى المستشفيات والتي أعتبرها سجن للصيدلي بسبب الشباك الحديدي الفاصل بين المراجع والصيدلي المناوب – هذا سابقا قبل التغييرات التي آلت إليه مستشفياتنا  في الوقت الحاضر من الإهتمام والتطور بإدخال الأجهزة الحديثة والديكور وتطور الادارة والإشراف الذي يخدم المراجع والموظف في آن واحد ويهيئ الأجواء نحو بيئة صحية أكثر إشراقا وتطوراً.

ومع اقتراب صلاة الفجر جائني اتصال من قسم العناية المركزة يطلب تبديل الأدوية الخاضعة للرقابة والمخدرة لأحد المرضى. وقلت للممرضة: بعد صلاة الفجر. فأجابت: ليس عندي رصيد وعندي كم مريض يحتاج الجرعة.

فوافقت فورا ، وتم تبديل الأدوية وما يلزم واضطررت بعدها إلى إغلاق الصيدلية وقد مضى على وقت الصلاة حوالي 15 دقيقة وأبلغت الممرضة التي تعمل في عيادة العلامات الحيوية بأنني ذاهب لدقائق لأداء صلاة الفجر. وقلت متمتما بيني وبين نفسي: آه لقد تأخرت على صلاة الفجر وهي لا ترحم فالشمس تشرق سريعا وتصبح الصلاة في مهب الريح بلا ثواب ولا بركة بل ربما عقاب وندم وحسرة. وكلما أتذكر أننا مستيقظون والوقت يمر بلا رقابة وتضيع أفضل الأعمال بين هذه القضبان أشعر بمرارة التقصير.

وذهبت مهرولا للصيدلية المركزية القريبة منا لأسبغ الوضوء للصلاة وأحضى بالهدوء لدقائق بعيدا عن صيدلية الإسعاف وعن بعض المراجعين التي تضرب الشباك الحديدي بلا رحمة إذا ما وجدته مغلقا وأحيانا تنادي بصوت مرتفع ياصيدلي …أو تغني الأغنية المشهورة:

صيدلي يا صيدلي يا صيدلي….  بدي دوا الها وبدي دوا الي قلبها صاير صاير ..
صاير شعلة نار وقلبي قلبي قلبي… عم يغلي غلي عم يغلي عم يغلي عجل يا صيدلي..
عم يغلي عم يغلي قلبي يا صيدلي نحن جينا جينا تتداوينا…

وبعد أداء صلاة الفجر بسرعة وإختصار توجهت من الصيدلية المركزية وانا أقرأ التعقيبات في الطريق أسبّح وأهـلل وأذكر الله تعالى. وعلى مقربة من باب صيدلية الإسعاف سمعت احد المراجعين يصرخ غاضبا ولم يدع ممرضا أو أخصائيا اجتماعيا الا اسمعه سبا وشتما …

وهو يهدد بالأمارة (مكان عمله) ورفع شكوى ، قابلته قائلا له: أذكر الله يا رجل نحن جميعا في خدمتك وخدمة المراجعين الآخرين وإذا انت موظف في جهة حكومية نحن أيضا موظفون في وزارة الصحة وإذا أنت تخدم الحكومة والناس فنحن مثلك. وأردفت قائلا: أين تعمل يا رجل وفي أي جهة حكومية؟

فرد: أعمل سائقا.

قلت له: انت قادم بإسم الجهة التي تمثلها ام لحالة شخصية لك؟

قال: جئت لعلاج زوجتي.

قلت له: هل حال زوجتك خطرة؟

قال: نعم

قلت له: أرني حالا الوصفة التي تم صرفها لزوجتك.

وكانت المفاجئة أن الوصفة هي نوع من حبوب المغص وباراسيتامول (دواء الباراسيتامول يستخدم كمسكن ألم وخافض للحرارة) وهذه الحالة لا تستدعي سرعة الحصول على الأدوية يشكل عاجل ولا تستدعي الصراخ والعويل ، مع العلم ان أي دواء له أهمية للمريض. ونحن نقدر حالته الصحية.

دواء الباراسيتامول يستخدم كمسكن ألم وخافض للحرارة

وقلت له: خذ علاجك والله يعافي زوجتك وسوف يتم عمل تقرير لما قمت به من سب وشتم ونرفع ذلك إلى وزارة الصحة لأنك تستغل منصبك وتتعرض للموظفين بالأذى أثناء عملهم. وتم عمل خطاب شكوى مع المراقب المناوب والممرضة التي تعمل في العلامات الحيوية لما حدث من المراجع – فالسكوت عن مثل هذه التصرفات يجعلها تتكرر…. وتم إغلاق ملف القضية.

المناوبة من قبل شخص واحد في الإسعاف مربك جدا ، فقرار إغلاق الصيدلية للصلاة أو لأي ظرف طارئ يحتم عليك التواجد في أحد الأقسام الأخرى بدون إيجاد بديل أومناوب آخر متعب جداً.

واتذكر جيدا لما كانت بداية حياتي العملية والعمل موظف فني صيدلي وكنت مشرفا على عهدة الصيدلية المركزية ، كانت فنية الصيدلة في حينها من الجنسية الأجنبية تعمل كمناوبة في صيدلية الإسعاف تعاني يوما من الأيام من (الإسهال) واتصلت بي تلك الليلة قائلة:  تعال ساعدني لا أستطيع الاستمرار في العمل وإكمال المناوبة! وبالمصادفة كانت تلك الليلة تعني لي الكثير وأحتاج لبعض الوقت للقيام بالواجب ويصعب علي تغطية زميلتي في العمل ، فطلبت من أحد الأصدقاء الصيادلة الذي ساعدته من قبل لتغطيتي ولو لساعتين حتى أقوم بأعمال ما يلزم علي القيام به من واجب واستحباب.

أثناء المناوبة كصيدلي في صيدلية الإسعاف كم كنت أعاني كي لا أتأخر من تأدية صلاة الفجر ، وفي رمضان من قراءة ما تيسر من القرآن الكريم…

وذات مرة وقبل الفجر في رمضان قال لي أحد المراجعين والقرآن الكريم بين يدي ، القرآن يطلب منك العمل وليس قراءته أثناء العمل! فأجبته بلطف: إذا تأخرت في خدمتك ، الله يحاسبني وليس أنت.

وأحيانا وخلال جولتي اليومية في الصيدلية لإعداد وتجهيز الأدوية أعمد لسماع القرآن الكريم من خلال مسجل صغير وأتفنن في كتابة التعليمات على الأكياس الصغيرة حتى تكون جاهزة لوضع الدواء لبعض المرضى أو تجهيز بعض الأدوية ذات الجرعات المحددة من خلال خبرة التعامل مع الأدوية التي تصرف بشكل يومي. كان وقت الدوام ثمان ساعات لكنه لا يمر الا بصعوبة ، وما يخفف على القابع وحيدا في الصيلية وهو ينظر الى شباك الحديد الا سماع ما تيسر من القرآن الكريم ودعاء بعض المرضى وابتسامتهم أحيانا وخاصة  كبار السن من النساء التي لا تدع دعاء أو محبة الا تفرغه عليك فهي رحمة وذكرى جميلة.

ولا مانع أن نذكر هنا قصة خفيفة دم من نوع آخر:

ففي أحد الليالي الباردة والممطرة وأنا مناوب في صيدلية الإسعاف جاء مراجع مستعجل جدا وبدأ يطرق النافذة الحديدية بقوة ووضع وصفته على الطاولة وأثناء وضعها سقطت بين الحائط والطاولة التي يُرتب عليها الأدوية فقلت له: أين الوصفة؟ قال: سقطت هنا. وأشار إلى الفاصل بين الجدار والطاولة وأخذت اتفحص المكان تحت وفوق ولم أجدها. قال وهو منفعل: كلم الصيانة لإبعاد الطاولة وما عليها ، قلت له: الآن حان وقت أذان الفجر ولا أحد حولك ، عليك الرجوع إلى الطبيب ليعطيك وصفة من جديد. ذهب لكنه وجد الطبيب “راح يصلي”.

رجع وهو غاضبا فقلت له سوف أغلق الصيدلية وأصلي أنا أيضا ، إنتظر قليلا وسنجد لك حلا … وأصبح الرجل يهرول بين الصيدلية وعيادة الطبيب ذهابا وإيابا ، فلما رجع الطبيب وأخبره بما حدث لوصفته الدوائية ، أجابه الطبيب:  لا أتذكر ما كتبت لك من وصفة واحتاج اعرف من خلال السجل لكن عليك الانتظار لوجود العديد من المرضى وجلس ينتظر والطبيب مشغول من كثرة المراجعين وفي الأثناء جاءه نداء من داخل قسم الإسعاف وغادر مكتبه. ورجع لي المراجع وقد ثارت ثائرته وطلبت منه الانتظار والصبر حتى يتفرغ لنا الطبيب ، وبعد إنتظار ساعتين ذهبت إلى الطبيب وطلبت منه أن يستمع للمريض ويشرح له الأعراض من جديد ويسجل له وصفة بدل فاقد وتم كتابة وصفة جديدة وصرفت له الدواء بعد طلوع الشمس.

ومنذ فقد الوصفة تلك قمت بوضع بلاستر لغلق الفتحة وسد الفجوة بين الطاولة والحائط.

وتبقى خدمة المرضى ودعاء المراجعين ورضاهم هي المكسب والرصيد الذي ينسيك كل المتاعب ، فكم من مصيبة صرفها الله عنك بسبب ‏فعل خير بسيط قمت به ، ‏إنها صنائع المعروف تقي العبد مصارع السوء ‏فاجعل لك معروفا لا تنقطع عنه مهما كانت ظروفك. واخيرا تقبل الله أعمالنا وأعمالكم ودمتم بصحة وعافية.

الصيدلي عبد الله اليوسف

*الفني الصيدلي عبد الله حسين اليوسف حاصل على دبلوم عالي من كلية العلوم الصحية بالدمام ، ويعمل في إدارة الرعاية الصيدلية بمجمع الدمام الطبي ، حضر الكثير من الدورات الطبية ، ونشر عدد من المقالات بعضها ضمنها في كتابه حديث الأدوية ، كما له نشاطات تطوعية في كثير من الميادين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *