من المادية إلى الاستقامة – د. عبد الجليل عبد الله الخليفه

الثقافة هي الروح التي تعطي الهدفية لنشاط الإنسان، وهي اللون الذي يصبغ كلّ جوانب الحياة العلمية والعملية، فإذا استقامت الثقافة استقامت حياة الإنسان.

وثقافة الفرد هي خلاصة تربيته وتعليمه وتجاربه وقيمه الاجتماعية والدينية، وهي متطابقةٌ في الأغلب مع ثقافة مجتمعه الذي يعيش فيه، حتى كأنك تنظر الى خريطة العالم فترى القارات والمحيطات ثم تركز قليلا فترى الجبال والوديان ثم تركز قليلا فترى الشوارع والأحياء في المدن، كلّها تقرأها في نفس الخريطة.

كذلك خريطة الثقافة، فما تراه في حياة الإنسان الفرد على مستوى معين قد تراه في حياة المجتمع على مستوى أكبر، وهذا يفسّر كيف استطاع بعض الأفراد عبر التاريخ من زراعة بذور ثقافتهم واستنساخها في مجتمعهم الصغير والكبير. فالثقافة من العلوم الإنسانية الاجتماعية التي لا يمكن للفرد أن يستوعبها حتى يعيشها ويتفاعل معها عبر عشرات السنوات.   

لقد ذكرنا في موضوع (البديل الحضاري المطلوب)* الذي تم نشره في موقع علوم القطيف، سمات ثقافة الاستقامة وبعض جوانب الحياة التي تتعطش الى هذه الثقافة، ونريد هنا أن نبحر في ثقافة الاستقامة:

فماهي؟ ومن المسؤول عنها؟ وكيف تؤثر على حياتنا اليومية؟

مصدر الصورة: roofingcontractor

ماهي ثقافة الاستقامة:

حياة الإنسان حركةٌ دائبةٌ لتحقيق هدفٍ معين ترسمه ثقافته، والخط المستقيم هو أقرب مسافة بين نقطتين، فثقافة الاستقامة تضمن سمو الهدف واستقامة الطريق الموصل اليه، وهكذا تهديك ثقافة الاستقامة لتحقيق أهدافك واحدًا تلو الآخر عبر أقصر الطرق وأنسبها (اهدنا الصراط المستقيم). والصراط المستقيم ليس خيالًا مستحيلًا بل هو واقعٌ عمليٌ فهو صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين. 

وحيث أنّ الرؤية ضبابية والخيارات متعددة فالسبل التي يسلكها البشر عديدةٌ ومختلفة قد يقترب بعضها الى الصواب وقد يبتعد، لذا يحتاج الإنسان الى الهداية المستمرة حتى يقترب من الصواب أكثر فأكثر. فالناس جميعًا بكافة معتقداتهم الدينية والمادية وحسب فطرتهم البشرية يسعون باستمرارٍ الى البحث عن أقرب الطرق وأسلمها لتحقيق سعادتهم،

لكنّهم يختلفون في تحديد معنى السعادة، وفي اختيار السبيل المناسب لتحقيقها. فبينما يرى الماديون السعادة المادية الدنيوية غايتهم الأسمى، يرى الإلهيون السعادة الدنيوية والأخروية غايتهم الأسمى. وبينما يعيش الماديون الأنانية والبراغماتية التي ترى أنّ نتائج العمل هي من تحدد صوابه وأحقيته، لذا قد يرون الحقّ باطلًا والباطل حقًا لأنه يحقق مصالحهم،

يعيش الإلهيون القيم الإنسانية المطلقة التي لا تتلوّن ولا تتغير، ويرون أن صواب أي عمل يعتمد على عاملين هما: حسن نية العامل وغايته التي يسعى الى تحقيقها، وكذلك حسن نتائج العمل وتحقيقه لأهدافه.  

وبينما تتمثل غاية صفات الجمال والكمال في الصراط المستقيم الذي يحدّد الهدف السامي ويرسم أقرب الطرق الى تحقيقه، يختار البشر سبلًا وطرقًا مختلفةً لتحقيق أهدافهم، وهذه الطرق المختلفة تختلف مظاهر الجمال والكمال فيها، فقد تكون هذه الطرق قريبةً ومشابهةً لقيم الصراط المستقيم وقد لا تشبه قيم الصراط المستقيم إلا قليلًا.

وطلب الإنسان المستمر للهداية الى الصراط المستقيم يمثل رغبته ونيته الصادقة لبلوغ مستويات أعلى من الجمال والكمال في تحديد أهدافه وفي اختيار أفضل السبل واقربها لتحقيق الأهداف السامية.

سنّ القوانين:

القانون ضرورةٌ في حياة الأفراد والمجتمعات فهو يضمن لكلّ ذي حقٍ حقه. وقد إختلف الماديون عن الإلهيين فبينما رأى الماديون أنّ سنّ القوانين وضمان استقامتها مهمةٌ بشريةٌ تعتمد على العقل والمنطق والتجربة البشرية وإقرار الأكثرية، رأى بعض الإلهيين أنّ التشريعات السماوية شاملةٌ وكفيلةٌ بحفظ الحقوق وتدبير شؤون الحياة المختلفة وهي مستقيمةٌ لأنها صدرت من الخالق العليم الحكيم.

ويقرّ الجميع بصعوبة هذا التحدي العظيم للماديين، فكيف نضمن فهم المواضيع المختلفة والتي تتغير زمانيًا ومكانيًا ونضمن أيضًا سنّ القوانين المناسبة التي تخلو من النوازع البشرية والمصالح المتقلبة خاصةً ونحن نرى كيف تم تشريع الشذوذ وغيره من الأمور التي كانت محرمةً قبل سنين قليلة، فقط لأنّ القانون نال أغلبية التصويت لصالحه.

لذا فالخيار الأمثل هو تشخيص المواضيع والتحديات التي ينبغي سن القوانين لها ثم استنباط التشريعات الإلهية من مصادرها الأصيلة بعناوينها الأولية والثانوية في حوارٍ مستمر ينطلق من الواقع العملي والتحديات الحياتية الى استنطاق النظريات المحكمة والقواعد الشرعية التي تحقق مقاصد الشريعة.

هذا التحدي العظيم يحتاج الى مواكبة مستمرة مع الواقع العملي المتغير بالاستناد الى اجتهادٍ فقهي متجدد يفتح الآفاق والمساحات الواسعة في الحياة اليومية لتطبيق أحكام الشريعة. وقد يعني هذا استنباط القوانين من خلال مؤسساتٍ مرجعيةٍ تستنبط الأحكام التي تغطي مساحات الحياة المختلفة وتتجنب الغوص في التفاصيل الدقيقة التي فات زمنها.

تطبيق القوانين:

من أكبر المثالب على الماديين، نظرتهم النسبية للقيم والقوانين، فهم يحترمونها حين تحقق مصالحهم ويتجاهلونها حين لا تحقق مصالحهم، وهذا يعني أنّ الإنسانية التي يتشدقون بها ليست إلّا سُلّمًا يغطي سواءتهم التاريخية قديمًا وحديثًا. وهذا يتناسق مع نظرتهم البراغماتية المصلحية فنتائج العمل هي من تقرّر صوابه وصحته، وإذا كان احترام القيم الإنسانية خارج الغرب يضرّ بمصالح الغرب، فلا داعي لاحترام هذه القيم بل يمكن حسب نظرتهم البراغماتية انتهاكها.

اما التشريعات الإلهية فميزانها كما قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام (الناس صنفان: إما أخٌ لك في الدين او نظيرٌ لك في الخلق). فالقيم الإنسانية مطلقة ينبغي تطبيقها على الجميع دون النظر الى المصالح الدنيوية الضيقة، لأنّ الميزان قد أختلف تمامًا فبينما كان ميزان الماديين السعادة الدنيوية، أدخل الإلهيون السعادة الأخروية في الميزان (ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون). هذا الضمان العملي لتطبيق القيم الإنسانية ضرورةٌ قصوى لضمان سعادة البشرية ومستقبلها.

كيف تؤثر الاستقامة على حياتنا اليومية؟

النهم والشغف الى طلب الجمال والكمال المتمثل في الهداية الى الصراط المستقيم يضع سقفًا عاليًا من الطموح الذي يدفع الفرد الى العلم والعمل، فبالعلم يمكن معرفة الطريق وبالعمل يمكن سلوك الطريق لتحقيق الأهداف. وإذا أضفنا لهذا الشغف والطموح، وعدٌ سماويٌ بالحياة الطيبة في الدنيا والخلود في النعيم الأخروي، تتوفر لدى الفرد طاقةٌ عارمةٌ وإرادةٌ صلبةٌ للسير في طريق الكمال عبر محطات حياته المختلفة:

  • استقامة الطالب هي مذاكرته وأداؤه لواجباته وسعة اطلاعه خارج منهجه الدراسي وابداعه وتميزه وابتعاده عن الغش، فهو في سعيٍ دائمٍ لتذوق العلم والتقنية الحديثة،
  • استقامة الموظف هي أداؤه لعمله بكلّ إخلاصٍ ونزاهةٍ وعبر أفضل السبل التي توفّر الجهد والتكلفة وتحقق أفضل النتائج المادية والمعنوية لمالك الشركة،
  • استقامة المدير هي اشرافه وتوجيهه للموظفين لتحقيق أهداف الشركة دون الإخلال بحقوق الموظفين او التمييز ضدهم بل إعطاء كلّ ذي حقٍ حقه،
  • استقامة الأسرة هي الحفاظ على أسمى درجات التضحية والتعاون بين الأب والأم لتربية الجيل الجديد على أسمى القيم الإنسانية والوعي التام بأساليب الغرب الماكرة في هندسته الثقافية لتمييع القيم الأصيلة،

البشرية وثقافة الإستقامة:

لاشكّ أن ّ البشرية في أمسّ الحاجة الى سلوك الصراط المستقيم الذي يحقّق الحياة الطيبة في الدنيا والنعيم في الآخرة. وقد سعت الأمم المتحدة في إعلانها للألفية الذي تم توقيعه عام 2000 الى تحديد بعض الأهداف الإنمائية وتقدير المؤشرات التي يجب قياسها وكان من ضمنها القضاء على الفقر المدقع والجوع، وتعميم التعليم الابتدائي وتقليل وفيات الأطفال ومكافحة الإيدز والملاريا وتوفير مياه الشرب واستدامة البيئة وغيرها.

ثم تمّ في عام 2015 إقرار أهداف التنمية المستدامة لعام 2030 من قبل الأمم المتحدة، حيث أدرج 17 هدف إنمائي منها القضاء على الفقر والجوع وضمان الصحة الجيدة والرفاه والتعليم والمياه والعمل والصناعة ومكافحة تغيرات المناخ وغيره.

هذه الجهود الأممية محلّ تقديرٍ وإجلال ودعاءٍ لها بالتوفيق لرفع مستوى المعيشة وتحقيق مستوى مقبول انسانيًا لمئات الملايين من البشر الذين يعيشون تحت خط الفقر.

والسؤال هو هل هذا كلّ ما تستطيع البشرية إنجازه مشكورةً أو أنها تستطيع فعل المزيد؟

لا شكّ انّ البشرية تحتاج الى الكثير من الجهود في سعيها للارتقاء بعطائها والاقتراب أكثر فأكثر من أقصر الطرق لتحقيق الأهداف التنموية المستدامة، والحمد لله ربّ العالمين.

*https://www.qatifscience.com/?p=24111 (البديل الحضاري المطلوب)

 

تعليق واحد

  1. علي حسين القضيب

    ماشاء الله عليك دكتورنا الغالي ابو محمد
    دائما تربط السماء بالارض عبر ثقافة الاستقامة
    حري بان يقرأ من جميع شرائح المجتمع. لغة بسيطة و سهلة و ممتعة و مضمون
    جميل يرقى الى جمال كاتبه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *