دور الفلسفة في بروز الذكاء الاصطناعي – ترجمة الدكتور أحمد فتح الله

?How Did Philosophy Help Develop Artificial Intelligence
(بقلم: أنطونيو بانوفسكي – Antonio Panovski)

في هذا المقال المترجم[1] نتعرف على النظريات الفلسفية والأفكار المنطقية التي أثارت وساهمت في المناقشة حول الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence، اختصارًا: AI).

لعبت الفلسفة، باستفساراتها حول طبيعة المعرفة والتفكير والوعي، دورًا محوريًا في تشكيل أسس الذكاء الاصطناعي حيث أن أحد الأسئلة الأساسية التي تصدى لها الفلاسفة هو: “ما هي طبيعة الذكاء البشري؟”. لقد وفرت النظريات الفلسفية للمنطق والاستدلال واللغة الأساس للنماذج والخوارزميات الحسابية لأنظمة الذكاء الاصطناعي. إضافة إلى ذلك، فإنّ الحوارات الفلسفية حول الوعي والإدراك والتفكير الأخلاقي حفزّت التعاطي مع أسئلة عمّا إذا كان الذكاء الاصطناعي قادرًا على امتلاك هذه القدرات وما هي العواقب الأخلاقية التي ممكن أن تبرز نتيجة تطوير آلات ذكيّة.

Source: IStock

المنطق وفلسفة الذكاء الاصطناعي
في السطور التالية عرض سريع ومقتضب لإبراز أهمية المنطق والأفكار والمبادئ المنطقية التي طرحها الفلاسفة والمناطقة من أرسطو (قبل الميلاد) حتى فيتجنشتاين (القرن العشرين) في تطوير الذكاء الاصطناعي:
أرسطو (322 – 384 قبل الميلاد)
كان أرسطو أول من صاغ القوانين التي تحكم العقلانية: فقد اخترع أول نظام للمنطق الرسمي. في حين أن مساهماته المحددة في تطوير الذكاء الاصطناعي كانت غير مباشرة بسبب الفجوة الزمنية الواسعة بين عصره وظهور الذكاء الاصطناعي كمجال، فقد أثرت بعض مفاهيمه وأساليبه الفلسفية على أبحاث الذكاء الاصطناعي وتطويره.
اخترع أرسطو نظام القياس المنطقي الذي كان من المفترض أن يوجه الاستنتاجات الصحيحة (والمناسبة). كانت القياسات المنطقية هي الخطوة الأولى نحو الآلية الأساسية التي من شأنها أن تسمح للبشر باستخلاص النتائج من المقدمات بطريقة ميكانيكية. وقد وضع هذا الأساس للمنطق الرسمي المعاصر والتفكير الاستنتاجي. تستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعي الخوارزميات لمعالجة المعلومات، وإجراء الاستدلالات، واستخلاص النتائج. قدم الإطار المنطقي لأرسطو أساسًا لبناء نماذج حسابية للاستدلال الذي تستخدمه هذه الخوارزميات.

ليوناردو دافنشي (1452 – 1519)
كان ليوناردو دافنشي من أوائل المهندسين الذين صمموا الآلة الحاسبة الميكانيكية. لم يتم بناء أي نموذج أولي فعال بناءً على هذا التصميم خلال حياة دافنشي. وكانت هناك محاولات حديثة – ناجحة – لبناء آلة حاسبة تعتمد على هذه التصاميم.
بليز باسكال (1623 – 1662)
قام بليز باسكال (ببناء واحدة من أولى الآلات الحاسبة العاملة عندما كان عمره 18 عامًا فقط. لقد كانت آلة حاسبة ميكانيكية أساسية يمكنها إجراء عمليات الجمع والطرح. تُعرف الآلة الآن باسم آلة باسكال، أو أحيانًا باسم آلة باسكالين.
portrait leonardo da vinci francesco melziجوتفريد فيلهلم لايبنتز (1646 – 1716)
وبعد بضعة عقود، قام جوتفريد فيلهلم لايبنتز ببناء آلة حاسبة ميكانيكية كانت أكثر تعقيدًا إلى حد ما من آلة باسكال. آلة حاسبة لايبنتز، المعروفة الآن باسم الحساب المتدرج، لم تكن قادرة على الجمع والطرح فحسب، بل يمكنها أيضًا الضرب وأخذ الجذر التربيعي لأي رقم. أدت هذه الاختراعات إلى تكهنات بأن الآلات قد تتجاوز كونها مجرد آلات حاسبة، ويمكنها في الواقع التفكير والتصرف بطرق مماثلة للبشر. اقترح توماس هوبز فكرة مماثلة في كتابه الطاغوت: “فما هو القلب إلا ينبوع؟ والأعصاب، ولكن الكثير من الأوتار، والمفاصل، ولكن الكثير من العجلات.
في حين أن لايبنيز لم يساهم بشكل خاص في تطوير الذكاء الاصطناعي بالمعنى الحديث، إلا أن أفكاره وأعماله وضعت الأساس لجوانب معينة من الذكاء الاصطناعي. طور لايبنتز حساب التفاضل والتكامل، وهو إطار رياضي أحدث ثورة في التفكير العلمي والرياضي. يوفر حساب التفاضل والتكامل الأساس للعديد من تقنيات الذكاء الاصطناعي، مثل خوارزميات التحسين، والتعرف على الأنماط، وخوارزميات التعلم الآلي التي تتعامل مع الأنظمة المستمرة والديناميكية.

leibniz rationalism philosophy portraitتصور لايبنتز فكرة السمة العالمية، وهي لغة رمزية أو نظام تدوين يمكن أن يمثل كل المعرفة ويسهل التواصل الدقيق. على الرغم من أن رؤيته للغة عالمية لم تتحقق خلال حياته، إلا أن المفهوم أثر على العمل اللاحق في اللغات الرسمية والأنظمة الرمزية، والتي تعتبر أساسية للذكاء الاصطناعي. كان تطوير اللغات الرسمية خطوة مهمة نحو تطوير الذكاء الاصطناعي.
 
مساهمة ديكارت (1596 – 1650) في تطوير الذكاء الاصطناعي
وجادل هؤلاء الفلاسفة بأن العقل يعمل وفق قواعد منطقية. ونظرًا لمجموعة من القواعد المنطقية، يمكننا بناء أنظمة في العالم المادي، أنظمة تحاكي تطبيق تلك القواعد. حتى أن رينيه ديكارت اقترح وجهة نظر تنص على أن العقل هو بالفعل مثل هذا النظام. عمل ديكارت على نشر مشكلة العقل والجسم وطوّر فكرة الثنائية، وهي فكرة وجود فصل أساسي بين العقل والجسد المادي.

أثارت هذه الفكرة نقاشات ونقاشات حول طبيعة الوعي والإدراك. كانت هذه المناقشات ذات قيمة لا تقدر بثمن بالنسبة لأبحاث الذكاء الاصطناعي، مما دفع الكثيرين إلى الاعتقاد بأننا بحاجة إلى صورة كاملة للعقل وعملياته قبل أن نتمكن من تطوير الذكاء الاصطناعي بشكل كامل. إن مشكلة العقل والجسد والأفكار المحيطة بها هي المفتاح لمعرفة ما يتعين علينا القيام به من أجل خلق شيء مثل العقل. أكد ديكارت على قوة التفكير البشري والتفكير المنطقي. أثرت طريقته في الشك المنهجي على تطور المنطق الرسمي والمقاربات العقلانية للمعرفة.

rene descartes philosopher portrait louvre

يعتقد ديكارت أن العقل (mind)، أو “التفكير” (res cogitans)، هو شيء (substance) من نوع مختلف، غير مادي (immeterial) ومنفصل عن عالم المحسوسات[2]. إنّ البديل عن “الثنائية” (dualism) هو المادية (materialism)، التي ترى أن العقل هو في الواقع مادة إلى حد ما، وعلى هذا النحو، فإنه يعمل وفقا للقوانين الطبيعية. كان على الماديين أن يأخذوا في الاعتبار مشكلة “الإرادة الحرة” (problem of free will): كيف يمكن للبشر أن يختاروا ويفكروا بحرية إذا كانت عمليات العقل تتحدد بالكامل من خلال أسبابها المادية؟

استكشاف مصادر المعرفة: التفكير كحساب
بناءًا على أن العقل يتلاعب بالمعرفة، فإن المشكلة تدور حول فحص مصدر المعرفة هذا. بدأت التجريبية الحديثة بكتاب فرانسيس بيكون (1561 – 1626) “Novum Organum”، الذي أشار فيه إلى أهمية الخبرة في اكتساب المعرفة. في تلك الفترة، كان يقصد بـ “الخبرة” التجربة والملاحظة، وهي نوع من الوظيفة التي يقوم بها العالم من أجل تأكيد أو رفض نظرية أو مقولة معينة.
وقد اتسمت التجريبية أيضًا بمقولة جون لوك (1632 – 1704): “لا يوجد شيء في الفهم لم يكن أولًا في الحواس”. وبهذا، طور التجريبيون دفاعًا عن العقلانيين، الذين زعموا أن العقل هو المصدر النهائي لمعرفة الإنسان. وفي وقت لاحق، فحص ديفيد هيوم (1711-1776) اعتماد العقل على مبدأ الاستقراء: إن العديد من القواعد العامة يتم اكتسابها من خلال التعرض للارتباطات المتكررة بين عناصرها.
john locke empiricism philosophyبناءً على الأعمال المبكرة للودفيغ فيتجنشتاين (1889 – 1951)، طورت دائرة فيينا الشهيرة، بقيادة رودولف كارناب (1891-1970)، فلسفة الوضعية المنطقية، وهي فلسفة تجريبية جديدة ترى أن كل المعرفة يمكن وصفها بنظريات منطقية مرتبطة بجمل المراقبة والتي تتوافق بدورها مع المدخلات الحسية، أي البيانات الأولية التي نجمعها عن العالم. إلى حد ما، جمعت الوضعية المنطقية بين مذاهب العقلانية والتجريبية. افترض كتاب كارناب «البنية المنطقية للعالم» (1928) إجراءً حسابيًا لاستخلاص المعرفة من تجارب أولية؛ على هذا النحو، كانت نظرية العقل رائدة كعملية حسابية.

0199 Pdf Z كتاب البناء المنطقي للعالم والمسائل الزائفة في الفلسفة رودولف كارناب : Free Download, Borrow, and Streaming : Internet Archive
مساهمة جورج بول في تطوير الذكاء الاصطناعي
السؤال المحوري هو لماذا كانت مساهمة المنطق مهمة جدًا في تطوير الذكاء الاصطناعي، وخاصة منطق أرسطو؟. إنّ أراء أرسطو في المنطق والاستدلال مهم لأنه كان فيما بعد مصدر إلهام لجورج بول (George Boole)، العالم [البريطاني] في الرياضيات والمنطق في القرن التاسع عشر [1815-1864]؛ حيث قدم نظام المنطق القياسى لأرسطو الأساس لتطوير بول للمنطق الرياضي، وتكمن مساهمة بول الرئيسية في الذكاء الاصطناعي في تطويره للجبر البوليني والمنطق البوليني.

طور بول نظامًا جبريًا رمزيًا يسمى الجبر البوليني، والذي يمثل العلاقات والعمليات المنطقية باستخدام المعادلات الجبرية والمتغيرات الثنائية. يشكل الجبر البوليني الأساس لتصميم الدوائر الرقمية والبوابات المنطقية البوليانية، وهي مكونات أساسية لأنظمة الحوسبة الحديثة وتقنيات الذكاء الاصطناعي. سمح نظام بول الجبري بتمثيل العمليات المنطقية باستخدام “بوابات” منطقية بسيطة، مثل بوابات “AND” (الوصلة)، وبوابة “OR” (الانفصال)، وبوابة “NOT” (النفي). ويمكن دمج هذه البوابات لبناء دوائر معقدة تؤدي عمليات منطقية.

لقد قدم مفهوم البوابات المنطقية وتصميم الدوائر أساسًا عمليًا لبناء أجهزة الكمبيوتر الرقمية ووضع الأساس للعمليات الحسابية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي. إن عمل بول في المنطق الرمزي، والذي مكن من معالجة وتحليل الافتراضات المنطقية باستخدام الرموز والصيغ، أرسى الأساس للاستدلال والاستنتاج الآلي. يوفر المنطق الرمزي، الذي اخترعه أرسطو، إطارًا للتعبير عن العلاقات المنطقية ومعالجتها، وهو أمر ضروري لمهام مثل الأنظمة القائمة على القواعد، والاستدلال المنطقي، وإثبات النظرية الآلية.
كان للمفاهيم الأساسيّة التي توصل إليها أرسطو وجورج بول تأثيرًا عميقًا على تطور الذكاء الاصطناعي، حيث كانت بمثابة اللبنات الأساسية للمنطق الحسابي، وتصميم الدوائر الرقمية، والتفكير الآلي، وأنظمة استرجاع المعلومات. باختصار، وفر عمل جورج بول الأساس للتفكير المنطقي والتلاعب بالرموز التي تعتبر أساسية للعديد من خوارزميات وتقنيات الذكاء الاصطناعي الراهن[3].
____
الهوامش
[1] المصدر: أنطونيو بانوفيسك: “كيف ساعدت الفلسفة في تطوير الذكاء الاصطناعي؟”
https://www.thecollector.com/philosophy-artificial-intelligence-development/

[2] يشير مصطلح ديكارت (res cogitans) إلى العقل (أو الروح)، وعدّه في الأساس “شيء يفكر”. في السنوات الأخيرة، يدافع علماء الأعصاب وعلماء النفس المعرفي عن عالَم نفسي متميز، ولكن عملياته، مثل عمليات برامج الكمبيوتر قابلة للقياس ومفتوحة للتحقيق العلمي، ويؤكدون أنّ التفكير” (cogitans) لم يعد شيئًا مجردًا، بل يمكن رسم خرائط له ومسحه ضوئيًا وشرح وظائفه من الناحية البيولوجية أو الحسابية. (المترجم). انظر:
Patrick Bracken, & Philip Thomas (2022) “Time to move beyond the mind-body split”. MJ. 2002 Dec 21; 325(7378): 1433–1434. doi: 10.1136/bmj.325.7378.1433

[3] أتاح الجبر الذي ابتكره جورج بول التعامل مع الأرقام والحروف والأشياء والعبارات والفرضيات كما لو كانت أرقاما بحتة؛ وقدم للبشرية الجبر المنطقي المستخدم في الحواسيب (المترجم). انظر “جورج بول” في موقع “وكيبيديا”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *