مهما كانت المشكلة، فمن المحتمل أن يتم حلها عن طريق المشي – ترجمة* محمد جواد آل السيد ناصر الخضراوي

Whatever the Problem, It’s Probably Solved by Walking
(Andrew McCarthy – بقلم: اندرو ماك كارثي[1])

“تمشيت في الغابة وخرجت أطول من الأشجار”

المشي سر من أسرار الطبيعة ، له مكافآت تختبئ تحت كل خطوة. وربما لأننا نعتبر المشي أمرًا مفروغًا منه، غالبًا ما يتجاهل الكثير منا عطيته الوفيرة. وفي الحقيقة، أشك في أنني سأمشي كثيرًا أو بعيدًا جدًا إذا كانت منفعة المشي الوحيدة جسدية، على الرغم من الأدلة الوافرة على قيمتها في هذا الصدد. وهناك شيء آخر عن المشي يثير اهتمامي أكثر. ومع قدوم الربيع تتضح بعض الأسرار.

وقد اكتشفت قوة مشي الهوينا (المشي المتمهل) منذ أكثر من ربع قرن عندما قطعت مسافة 500 ميل عبر إسبانيا على طريق كامينو دي سانتياغو[2]. وعثرت على طريق كامينو بالصدفة ثم مشيت عبر إسبانيا بقصد. وأصبحت ممارسا للمشي منذ ذلك الحين، ولست الوحيد.

طريق كامينو دي سانتياغو – المصدر: utracks.com

وقد أعلن الطبيب اليوناني أبقراط[3] أن “المشي هو أفضل دواء للإنسان”. وعرف الطبيب الجيد أيضًا أن المشي يقدم أكثر من مجرد فوائد جسدية عندما اقترح: “إذا كنت في حالة مزاجية سيئة، فاذهب في نزهة على الأقدام. إذا كنت لا تزال في حالة مزاجية سيئة، فاذهب في نزهة أخرى”. كان يلمح إلى ما يشهده الكثير ممن جاؤا بعده، أن المشي لا يغذي الجسد فحسب، بل يهدئ العقل أيضًا بينما يحرق (ينهي) التوتر ويجعل مشاكلنا تنحسر إلى منظور أكثر قابلية للتحكم.

وقد وافق سورين كيركيغارد[4] عندما اعترف، “لا أعرف أن الفكر مرهق للغاية بحيث لا يمكن للمرء أن يبتعد عنه”. وكان تشارلز ديكنز[5] أكثر مباشرة. فقد كتب: “إذا لم يكن بإمكاني السير بعيدًا وسريعا، أعتقد أنني يجب أن أنفجر وأهلك”.

ولكن المشي يفعل أكثر من إبعاد الشيطان عن الباب. وكتب الشاعر الويلزي (والمتشرد في وقت ما) و. هـ. ديفيز:

الآن هل أمشي

أم أركب؟

قالت المتعة “اركب”.

أجابت البهجة: “امشي”.

والمشي يجعل الأرواح طافية بطريقة تبدو حقيقية ومكتسبة. وتشعر أنها مملوكة. والمشي، كشريك كريم، يقابلنا أكثر من في نصف الطريق.

وهناك شهادات كثيرة على أن نزهة جيدة تغذي الإبداع. وقد أقسم ويليام وردزورث[6] بالمشي، وكذلك فعلت فيرجينيا وولف[7]. وكذلك فعل ويليام بليك[8]. وأكد لنا توماس مان[9]، “الأفكار تأتي بوضوح بينما يمشي المرء”.” ج. ك. رولينغ[10] لاحظ أنه “لا يوجد شيء مثل نزهة ليلية لإعطائك أفكارًا”، بينما خلصت الروائية إليزابيث فون أرنيم[11] في مطلع القرن العشرين إلى أن المشي “هو الطريقة المثلى للتحرك إذا كنت تريد أن ترى حياة الأشياء”.

واسأل أي مفكر عميق عن فوائد ما يسميه الكاتب الامريكي بيل برايسون “الملل الهادئ” الذي يثيره المشي. وقد اعترف الكاتب والفيلسوف جان جاك روسو:

“هناك شيء ما في المشي ينشط أفكاري وينشطها”

وحتى شاعر النثر والفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه المتشائم بحزم، كان عليه أن يتخلى عن ذلك من أجل قضاء وقت ممتع عندما سمح، “يتم تصور كل الأفكار العظيمة حقًا أثناء المشي”.

في حين أن اجترار الأفكار الخاص بي قد لا يقترب من المرتفعات العالية التي أشار إليها الفيلسوف نيتشه، فإن المشي الطويل الجيد، أو حتى المشي الغير طويل، يبدأ في اقتطاع فضاء بين أفكاري يسمح للوضوح ليرتفع من خلال حذائي بطريقة لا توفرها أي وسيلة نقل أخرى. وكتب كاتب الرحلات والباحث باتريك لي فيرمور ذلك بإيجاز عندما قال: “كل قوة الحصان مفسدة”.

وإلى أن ذهبت إلى إسبانيا بمهمة وحيدة وهي عبور البلاد سيرًا على الأقدام، غالبًا ما كنت أفكر في المشي على أنه إهدار لوقتي. وقد غير مشي طريق كامينو ذلك. وكشفت المسيرة التي استمرت شهرًا نفسي لي بطريقة لم يكن بها شيء آخر – نمط تفكيري المتكرر، ودورات المشاعر المعتادة، وطبيعتي المخيفة. لقد قلل مشي طريق كامينو من مقاومتي لرؤية نفسي، ثم أعاد بنائي خطوة بعد خطوة، وغير مكاني في العالم.

وبدلاً من النظر إلى المشي على أنه أبطأ طريقة للوصول إلى مكان ما، نشأت لأرى أنه ليس فقط كوسيلة لتحقيق غاية، ولكن باعتباره الحدث نفسه. ومنذ أن مشيت طريق كامينو للمرة الثانية العام الماضي مع ابني البالغ من العمر 19 عامًا، أدركت أن المشي من بين الأشياء الأكثر قيمة التي يمكنني القيام بها.

وقد أشارت الكاتبة الأمريكية ريبيكا سولنيت إلى أن المشي “هو كيفية قياس الجسم لنفسه في مقابل الأرض”. ومن خلال هذه المشاركة الجسدية، يقدم المشي عطية التتويج من خلال إعادتنا لأنفسنا عاطفيًا، وحتى روحيًا. وعندما التفت ابني نحوي في اليوم الأخير من مسيرتنا وقال: “أبي، هذا هو الـ 10 من 10 الوحيد الذي فعلته في حياتي”، علمت أنه وصل ليس فقط في كاتدرائية سانتياغو دي كومبوستيلا، ولكن، بشكل أكثر جدوى، في نفسه.

وقد لاحظ عالم الطبيعة العظيم جون موير [ابو المنتزهات الوطنية الأمريكية] باهتمام، “لقد خرجت فقط للتنزه و … وقد جدت أن الخروج، كان حقا هو الدخول”. فهل سبق لأي شخص أن خرج من الغموض في الطبيعة لمدة ساعة وندم على تحسن حالته؟ ربما هذا ما كان يشير إليه ذلك الماشي (المتجول) المتفاني هنري ديفيد ثورو [عالم طبيعة وكاتب وشاعر وفيلسوف امريكي وهو أحد رواد الفكر المتعالي] عندما كتب:

“تمشيت في الغابة وخرجت أطول من الأشجار”.

لذا فإن السر موجود هناك. إنه تحت أوراق الشجر على الطريق. إنه هناك على الرصيف. فقد انبثق الربيع، فاربط الحذاء.

*تمت الترجمة بتصرف

المصدر:

Opinion | Whatever the Problem, It’s Probably Solved by Walking – The New York Times (nytimes.com)

الهوامش:

[1] أندرو مكارثي كاتب وممثل ومؤلف، وأخر مؤلف له كان بعنوان: “المشي مع سام: أب وابن وخمسمائة ميل عبر إسبانيا”.

[2] طريق كامينو دي سانتياغو المعروفة باسم طريق سانت جيمس، هي شبكة من الطرق المؤدية إلى ضريح القديس يعقوب الكبير في كاتدرائية سانتياغو دي كومبوستيلا في غاليسيا في شمال غرب إسبانيا، حيث تقول التقاليد أن رفات القديس مدفونة. ويكيبيديا

[3] يشار اليه بأبي الطب تقديرا لمساهماته في الطب كاستخدام التشخيص والمراقبة السريرية والتصنيف المنهجي للأمراض أو صياغة نظرية الخلط. ويكيبيديا

[4] عالم دين وفيلسوف وشاعر وناقد اجتماعي ومؤلف ديني دنماركي، يُعتبر على نطاق واسع أول فيلسوف وجودي. ويكيبيديا

[5] كاتب وناقد اجتماعي إنجليزي ابتكر بعضًا من أشهر الشخصيات الخيالية في العالم، ويعتبره الكثيرون أعظم روائيين في العصر الفيكتوري. تمتعت أعماله بشعبية غير مسبوقة خلال حياته، وعرفه النقاد والعلماء بحلول القرن العشرين على أنه عبقري أدبي. ويكيبيديا

[6] شاعر رومانسي إنجليزي ساعد مع صامويل تايلور كوليريدج في إطلاق العصر الرومانسي في الأدب الإنجليزي من خلال منشوراتهم المشتركة “قصص غنائية” (Lyrical Ballads) في العام 1798. ويكيبيديا

[7] كاتبة إنجليزية، تعتبر واحدة من أهم مؤلفي القرن العشرين الحداثيين ورائدة في استخدام تيار الوعي كأداة سرد. ويكيبيديا

[8] شاعر ورسام وطباع إنجليزي، لم يتم التعرف عليه الى حد كبير خلال حياته، ويعتبر الآن شخصية بارزة في تاريخ الشعر والفن المرئي في العصر الرومانسي. ويكيبيديا

[9] روائي ألماني وكاتب قصة قصيرة وناقد اجتماعي وكاتب مقالات، حائز على جائزة نوبل في الأدب عام 1929. تمتاز رواياته الملحمية والساخرة للغاية والروايات القصيرة بنظرتها الثاقبة في نفسية الفنان والمفكر. استخدم تحليله ونقده للروح الأوروبية والألمانية نسخًا حديثة من القصص الألمانية والإنجيلية، بالإضافة إلى أفكار يوهان فولفجانج فون جوته وفريدريك نيتشه وآرثر شوبنهاور. ويكيبيديا

[10] مؤلفة بريطانية،  كتبت هاري بوتر (سلسلة خيالية للأطفال من سبعة مجلدات نُشرت في الفترة من 1997 إلى 2007). ويكيبيديا

[11] روائية الإنجليزية، ولدت في أستراليا، وتزوجت من أرستقراطي ألماني، وتم وضع أولى أعمالها في ألمانيا. تزوجت بعد وفاة زوجها الأول من فرانك راسل، الأخ الأكبر للفيلسوف بيرتراند راسل الحائز على جائزة نوبل. ويكيبيديا.

المهندس محمد جواد آل السيد ناصر الخضراوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *