هل حقّقت الحضارة الغربية السعادة المنشودة؟ – الدكتور عبدالجليل عبدالله الخليفه

هيمنت الحضارة الغربية على العالم طيلة الخمسمائة عام الماضية، انجزت خلالها الكثير من التقدم العلمي والتطور التكنولوجي والرفاهية المادية ونقلت المجتمع الغربي ماديا الى مستويات قياسية،،،

لكنّ السؤال: هل حققت الحضارة الغربية سعادة البشرية؟

قد يقول البعض: الإنسان الغربي ليس مسؤولًا عن شرق الأرض وغربها، فلنسأل: هل حقّقت الحضارة الغربية سعادة الانسان الغربي؟ فان لم تحقّقها فهي قطعًا لم تحقّق سعادة البشرية.

لن نناقش كيف استفادت الحضارة الغربية من الحضارات السابقة وعلمائها فهذا ديدن العلوم والحضارات تستفيد من بعضها وكأنها نهرٌ يتدفّق ليشق عباب الزمن منذ بداية التاريخ. هذا النهر المتفجر عطاء وحيوية هو مللك للبشرية جمعاء ولا يحق لأحدٍ أن يحتكره او يدعيه لنفسه.

مصدر الصورة: currentaffairs.org

الكنيسة والعلم

في العصور الوسطى (قبل القرن الثالث عشر الميلادي)، فرضت الكنيسة هيبتها في اوروبا وتبنت مقولات ونظريات عن الكون والطبيعة إعتبرتها من صميم الدين كمركزية الأرض في الكون، وسخّرت طاقاتها لتحارب كلّ من يتحدى هذه المقولات. حتى بزغ فجر العلم في عصر النهضة الأوربية (القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلادية) وانبرى علماؤها يدرسون حركة الكواكب ويعترضون على رؤية الكنيسة بمركزية الأرض، فتصدت لهم الكنيسة بكل قوة، وأرتكبت الكنيسة انتهاكات عديدة ضد مجموعة من العلماء واتهمتهم بالهرطقة وحكمت عليهم أحكاما قاسية جدا. فلما تبين صدق العلماء،

تزعزعت ثقة الناس بالكنيسة فضعف كيانها وانحسرت سلطتها، وحدثت ردة فعل عنيفة ضد مقولات الكنيسة الدينية والنفسية والاجتماعية.  إنطلق بعدها الاصلاحيون اللوثريون البروتستانت وغيرهم يعلنون أن رضا الرب يتحقق عبر الادخار والاستثمار والعمل الجاد.  في هذه الأجواء ولدت الثورة الصناعية الأوروبية نتيجة هذا الزخم العلمي التكنولوجي الصناعي، وأصبحت أوروبا القوة العالمية التي تبحث عن المواد الخام والأسواق في شرق الأرض وغربها ومعها بدأ الإشعاع الحضاري الأوروبي يكتسح العالم رويدًا رويدًا.

الفلسفة المادية الغربية

نتيجة النجاح الباهر للثورة الصناعية وتطور العلوم الطبيعية، بادر الكثير من الفلاسفة لنسف مقولات الكنيسة الغيبية وطرح بدائل عنها، أي انهم حاولوا الغاء النظرة الدينية للكون وتبني نظرة مادية طبيعية للكون. فمثلا، وضع بيكون وهيوم وغيرهم أسس المذهب التجريبي فما لا تطاله التجربة لا يمكن الايمان به. ووضع جون لوك أسس الحقوق الطبيعية للإنسان كالحرية وحق الملكية وغيرهم. ووضع ميشال فوكو وجان جاك روسو أسس العقد الاجتماعي لتنظيم علاقة الفرد بالمجتمع  وحماية حقوقه. وهكذا تكاملت النظرة الطبيعية للكون تدريجيا لدى الإنسان الغربي في ظل تغييب الكنيسة عن الحياة العامة وقصر دورها على الممارسات العبادية.

وجاء دور بعض الفلاسفة كآدم سميث ليكتب عن دور القيم في الحياة الانسانية ثم تبعه خلال سنوات قليلة بكتابه المشهور ثروة الأمم الذي شرح فيه النظرية الرأسمالية على أسس الحرية وحقوق الملكية التي نادى بها جون لوك فللإنسان حرية التملك والاستثمار والتصرف وهكذا أطلق آدم سميث عنان الفردية الغربية لتتملك وتستثمر وتفجر طاقاتها وتؤسس أعمالها. حدث هذا مع بداية نشوء المصانع وتوفر الفرص الوظيفية لأهل الأرياف والمزارعين الذين جذبهم وهج الوظيفة والراتب المضمون في المصانع، فتركوا أريافهم وسكنوا المدن قرب المصانع وأشتغلوا الساعات الطويلة في ظل ظروف صعبة وبرواتب متدنية.

مصدر الصورة: europeana.eu

العلوم الإنسانية الغربية

حين إبتعد الأبناء والبنات عن عوائلهم الريفية وانطلقوا الى المدينة ضعفت الرقابة الأسرية والمجتمعية وكسر بعض العاملين القيم المحافظة وأنتشرت بعض التصرفات الغريبة فأحس البعض بالغربة والضياع وبرزت ظاهرة الإنتحار. لم تكن العلوم النفسية والاجتماعية معروفة آنذاك، لكنّ زخم النجاح العلمي في الفيزياء الذي حققه نيوتن، دفع أوغست كونت لتأسيس علم الاجتماع وأسماه في البداية فيزياء المجتمع ظنا منه أنه سيكتشف قوانين تحكم المجتمع كما أكتشف نيوتن قانون الجاذبية. تبعه بعد ذلك ايميل دوركهايم الذي درس الظاهرة الاجتماعية بالتفصيل وكتب دراسة خاصة عن الإنتحار.

في هذه الأجواء الجشعة التي مارسها أصحاب المصانع مع طبقة العمال، إنتصر كارل ماركس للطبقة العمالية في نظريته الماركسية التي تبنت فكرة الصراع بين طبقة العمال (البروليتاريا) والطبقة البورجوازية التي تملك وسائل الإنتاج وكان من أنصاره انجلز. لقد برزت مفاهيم الإغتراب [كارل ماركس: (alienation)] وفكرة [دوركهايم: (anomie)] وفكرة [ماكس فيبر: (disenchantment)] وكلها تعكس مدى التغير الكبير والمعاناة التي تعرضت لها الطبقة العاملة سواء نتيجة جشع الطبقة البورجوازية، او نتيجة بعدها عن مجتمع الريف المحافظ وانتقالها الى مجتمع المدينة الصناعي حيث تزعزعت القيم الاجتماعية.

لم تحقّق العلوم الانسانية النفسية والاجتماعية التقدم المطلوب كما حققته الفتوحات العلمية والصناعية الكبرى في الغرب، ربما لأنها تختلف عن العلوم التجريبية الطبيعية، خاصةً أنّ النفس الإنسانية في غاية التعقيد وقد لا يستطيع العقل البشري سبر دهاليزها.  لكن نتيجة التطرف الحاد ضد الكنيسة ونظرتها الدينية التي تحمل إطارا فكريا متكاملا للعالم، وضع بعض الغربيين بعض النظريات التي تطعن في أسس النظرية الدينية، وجمعوا لها الكثير من الشواهد العلمية الغير قطعية أحيانا (الخلفية المعرفية للمفكر تسبّب تحيزًا معرفيًا قد يكون لا شعوريًا). من هذه النظريات ما يلي:

  • النظرية التطورية لدارون والتي صبغت الكثير من النظريات الانسانية بعدها، (ترى أنّ نفسية الإنسان تشبه نفسية الحيوان مع بعض التغييرات الناتجة عن حركة التطور ذاتها). فليس الإنسان كائنا متميزا عن بقية الحيوانات، بل هو نتاج الطبيعة وتطورها،
  • النظرية النفسية لسيغموند فرويد التي جعلت حركة الانسان استجابة لغريزته الجنسية التي تتجلى عبر مراحل حياته المختلفة، فليس للقيم الأخلاقية موقع من الإعراب. وهكذا تحوّل الإنسان من كائنٍ متميزٍ الى حيوانٍ تطوّر تاريخيًا، تحكم الغريزة الجنسية كل تصرفاته فان كبتها تمظهرت عليه في اضطراباتٍ نفسيةٍ خلال حياته،
  • خلّفت الحداثة الغربية بنظرياتها المادية التي لا تلبي أبسط التساؤلات الإنسانية قلقًا وجوديًا لدى الغربيين، (مثل: لماذا وجدنا؟ ولماذا نموت؟ وما معنى الحياة؟ وما الهدف منها؟ ولماذا يحصل البعض على الثروة الطائلة بينما يعاني الآخر شظف العيش؟) لقد إنتبه فلاسفة غربيون كنيتشه وغيره لذلك وحذروا من آثار وخيمة على المجتمع الغربي،
  • هذا الفراغ الفكري والخواء الروحي فسح المجال لنظرياتٍ فاشيةٍ متطرفة غزت الفكر الأوربي وتركت وراءها حروبًا عالميةً كبرى ذهب ضحيتها عشرات الملايين،
  • جمع بعض الغربيين أفكار الحرية كحق طبيعي، وتطور الإنسان من أصله الحيواني، ومخاطر كبت الغريزة الجنسية كما وضعها فرويد، في نظرية تحررية تجعل الفرد مالكًا مطلقًا لنفسه متحررًا من أي قيمٍ اجتماعيةٍ فليس لأحدٍ الحقّ في فرض قيوده عليه عدا ما يتعارض مع حرية الآخرين،
  • إنطلقت التحررية دون قيود فأصبح كلّ فردٍ بناءً على هذه النظرية التحررية حرًا في التصرف بنفسه شريطة أن لايضر بالآخرين، فليكن شاذًا او ليتعاطى مايشاء، هذا يفسر الإنحدار القيمي الغربي الذي نراه يتسارع نحو الهاوية منذ بداية الألفية الجديدة،
  • اجتمع الفراغ الفكري والخواء الروحي مع مفهوم التحررية، فنتج الاغراق الغريزي الذي لا يشبع، فقد جرّب بعض الأفراد في الغرب العلاقات الشاذة وتعاطى كلّ جديد عسى أن يهدأ هذا القلق الوجودي والاضطراب النفسي دون جدوى، وسنرى المزيد من ذلك لأنّه كماء البحر كلما شربوا منه إزدادوا عطشا، (هذا ليس تعميمًا على المجتمع الغربي فهناك الكثير من الغربيين من يعيش المحافظة على قيمه الأخلاقية ويقف على النقيض من هذه الانحرافات الشاذة)،
  • النظرية الإنسانية التي تبناها كارل روجرز (ومنها مفهوم تحقيق الذات الذي تطوّر بعد ذلك وانتشر عالميًا) نفخت الفرد وضخّمت طاقاته وأعطته أملًا مزيفا بأنه يستطيع أن يكون من أغنى الأغنياء وكل ما عليه هو أن يستثمر طاقاته الكامنة ليحقق ذلك. نتيجة هذا الطموح الخيالي، عاش بعض الغربيين قلقًا بين واقعٍ مريرٍ وتقلباتٍ إقتصاديةٍ وبين أحلامٍ ورديةٍ يستحيل تحقيقها.
مصدر الصورة: euromentravel.com

الرأسمالية والتحديات الإقتصادية

تعرضت الرأسمالية لنكساتٍ عديدةٍ عبر تاريخها كان منها الكساد العظيم عام 1930 حيث أنبرى جون مينارد كينز لوضع نظريته الكنزية لترميم الاقتصاد الرأسمالي فتبنت الحكومات مشاريع بنيةٍ تحتيةٍ كبيرةٍ جدًا لضخ السيولة في الأسواق وتوفير الوظائف وتحريك العجلة الإقتصادية. وفي مقابل النظرية الكنزية، وضع ميلتون فريدمان مع زملائه الأوروبيين في ثمانينات القرن الماضي مباديء مدرسة شيكاغو وهي نظرية السوق الحرّ حيث دعوا الى إحجام الحكومات والقطاع العام عن التدخل في الحركة الاقتصادية. لكن حين حدثت كارثة الرهن العقاري عام 2008، كاد الإقتصاد العالمي أن ينهار لولا تدخل الحكومات التي ضخت مئات البلايين من الدولارات لإنقاذ البنوك والشركات. حدث هذا ايضًا إبّان جائحة الكورونا حيث ضخت الحكومات تريلونات الدولارات لإنقاذ الأوضاع الاقتصادية.

نتيجة الثورة الصناعية ومابعدها، حقّقت الحضارة الغربية فتوحات عظيمة جدًا في الطب والهندسة والعلوم الطبيعية الأخرى وحولتها الى ثورةٍ صناعيةٍ وثروةٍ هائلةٍ يملكها أصحاب المصانع ورؤوس الأموال والشركات الكبرى. وحين إنطلقت العولمة تمكنت الشركات وعبر منظمة التجارة العالمية من وضع قوانين تفتح بموجبها الأسواق العالمية أبوابها لمنتوجاتها وتنقل الشركات مصانعها حول العالم لتتفادى الضرائب والتكاليف البيئية العالية في البلدان الغربية ولتستفيد من توفر اليد العاملة الفنية والقليلة الكلفة أيضا.

وهكذا كدّست الشركات العالمية الثروات الطائلة ومعها البنوك العالمية الكبرى التي ضبطت وقع الحركة الاقتصادية لحماية مصالحها.  الحالة الإقتصادية الغربية ترنحت بين 1% من الغربيين يملكون أكثر من 20% من الثروة بينما يعيش 99% الآخرين تحت الرهون البنكية لسياراتهم ومنازلهم وهم عرضة للتسريح من أعمالهم في أي دورةٍ اقتصاديةٍ مقبلة.

الإنسان الغربي والمادية الغربية

لقد مرّت حياة الفرد الغربي في عدة مراحل عبر القرنين الماضيين، نلخصها فيما يلي:

  • عانى الإنسان الغربي ويلات الرأسمالية في بداياتها فعمل لساعاتٍ طويلةٍ وبرواتب متدنية حتى تم اصلاح الأوضاع في بداية القرن العشرين فحددت ساعات العمل وقننت الحدود الأدنى للأجور والتأمين الصحي وغيرهم. وكان في رفع الأجور مصلحة للشركات والأسواق، حيث تميز القرن العشرين باشتعال الدعاية التسويقية وتنويع المنتجات التسويقية لرفع وتيرة الإستهلاك وتحريك عجلة الصناعة وبالنتيجة إزدادت أرباح الشركات،
  • في ثلاثينات القرن الماضي وحتى الستينات، استفادت الطبقة العاملة من قوانين العمل وكان القطاع العام والمشاريع الحكومية رافعة مفيدة لمصلحة العمال،
  • في الخمسينات دخلت النساء سوق العمل جنبا الى جنب مع الرجال،
  • في الثمانينات وبعد تبني الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا مبادىء السوق الحرّ، أطلقت يد الشركات في جني الأرباح حيث تم تعديل القوانين الضريبية لتشجيع الشركات والقطاع الخاص فأصبحت الفجوة بين رواتب رؤساء الشركات والطبقة العاملة متسعة جدا،
  • إضطرت الأسر للعمل رجالا ونساء ولساعاتٍ طويلةٍ لكسب عيشها،
  • أصبحت القروض البنكية ميسرةً جدًا، فغرق أغلب الموظفين في الرهون العقارية والبنكية لبيوتها وسياراتها وأجهزة المنازل وكلّ شيء تقريبا، حتى جاءت نكسة الرهن العقاري عام 2008، فأضطرت الكثير من العائلات الى تسليم بيوتها للبنوك المقرضة لها،
  • بدأت الشركات والبنوك في تبني مؤشرات أداء يجب على الموظف والعامل تحقيقها وتدخل ضمن تقييمه السنوي وتطوره الوظيفي. المشكلة أنّ هذه المؤشرات يتم زيادتها كلّ عام وكأنها سيفٌ مسلطٌ على رقبة الموظف الذي يحس بالقلق الشديد خوفا من عدم تحقيقها.
مصدر الصورة: medium.com

الغرب والقلق والسعادة المفقودة

يعرف علم النفس الايجابي القلق بأنه الحالة الذهنية التي تنتج من تحدي صعب لا يمتلك الشخص المهارات الكافية للتعامل معه.  فالقلق شعور نفسي بعدم الاستقرار وفقدان السكينة والاطمئنان. ويختلف القلق عن الخوف الطبيعي فالخوف قصير الأجل نتيجة تهديد حالي معروف، وينتج عنه هروب من التهديد، بينما القلق طويل الأجل، نتيجة تهديدات مستقبلية غير محددة.

عموما، الخوف الذي يقابله رجاء يوازنه لا يترك قلقًا، بينما إذا أشتد الخوف او ضعف الرجاء أصاب الإنسان الهلع والقلق. خذ مثلا، الخوف من الامتحان يقابله رجاء النجاح نتيجة المذاكرة فيعيش الطالب بين الخوف والرجاء، الخوف الذي يدفعه للمذاكرة والرجاء الذي يزرع فيه الأمل والثقة بالنفس. فكلٌ من الخوف والرجاء ضروري في معادلة النجاح.

لكن حين يغلب خطر الخوف على أمل الرجاء، تضعف الثقة ويرتفع مؤشر القلق، وقد يصل الى مستويات قياسية تؤدي الى توتر شديد وتصرفات غير حكيمة تزيد الوضع سوءًا، وهكذا ينتقل الوضع الى مرحلة اليأس ثم الكآبة المستمرة، لا قدّر الله.

اضطرابات القلق

ذكرت منظمة الصحة العالمية بأنّ شخصا واحدا من كل ثمانية أشخاص، (970 مليون شخص في جميع أنحاء العالم)، مصابين باضطراب نفسي، وكان القلق والاكتئاب الشكلين الأكثر شيوعاً. كما شهد عام 2020 ارتفاعاً كبيراً في اضطرابات القلق والاكتئاب بسبب جائحة كورونا، فقد زادت اضطرابات القلق بنسبة 26٪ واضطرابات الاكتئاب الرئيسية بنسبة 28٪ خلال عام واحد فقط، ثم انخفضت نسبة الزيادة في الأعوام التالية.

وقد قدّرت التكاليف الاقتصادية العالمية للاضطرابات النفسية بحوالي 2.5 تريليون دولار في عام 2019 وفقا لبيانات منظمة الصحة العالمية كما ذكرت ذلك الدكتورة ياسمين التويجري (جريدة المدينة بتاريخ 14/9/2022).

أسباب القلق في الغرب

التمرد ضد الدين الذي بدأ في الغرب في عصر الحداثة زعزع الاطار الفكري الايماني واستبدله بإطار فكري مادي، فلم يعد هناك تفسير مقنع للحياة والموت حتى تحوّل الى قلق وجودي ضرب في اعماق المجتمع الغربي. هذا القلق حاول بعض الغربيين أن يعالجه بشتى الوسائل لكن دون جدوى، فأنطلق بعضهم يبحث عن اسباب مادية لتحقيق الهدوء النفسي كالاستهلاك المفرط او الانغماس في اللذة الغريزية او المشروبات الكحولية كمهدئات لحظية لا تستقر طويلا حتى يعود القلق اشد من سابقه.

في الغالب، يعيش الغربي أغلب وقته بين علاقة العمل وعلاقة الغرام، لذا فإن أي خللٍ يصيب علاقته بعمله او علاقته الغرامية قد يسبب له نكسةً وقلقًا شديدًا.  الغرام هنا قد يكون مع زوجته الشرعية او مع أي علاقةٍ غير شرعية يلبي بها مطالبه الغريزية.  لذا فإن أسباب القلق كما نراها:

أسباب أسرية – أجتماعية:

سهولة تكوين واستبدال العلاقات الغير شرعية جعلها تتعرض للإهتزاز نتيجة أي خلاف بسيط، فإشتدّ الشعور بالقلق والغربة والوحدة وضعفت الثقة بالآخرين خاصة في ضوء تفكك العلاقات الأسرية.  ولعلّ هذا يفسر شيوع وسائل التواصل الإجتماعي التي جاءت تلبية لهذه الحاجة الماسة للتواصل مع الآخرين (على الأقل افتراضيا).

اسباب مادية:

  • حين يعيش الموظف تحت رحمة القروض البنكية ويعمل هو وزوجته ليضمن مستوى معيشة مقبول، يصبح القلق المعيشي مرتفع جدا،
  • حين يعمل موظف في شركة يتم تسريح موظفين منها، يكون قلق خطر الفصل كبيرًا،
  • حين تكون هناك تقلبات شديدة في السوق، يكون قلق خطر الخسارة كبيرًا على المستثمرين،
  • عندما استشرت جائحة كورونا، اصبح قلق خطر الاصابة بها كبيرا خاصة على الكادر الطبي والتمريضي،
  • حين تفرض الشركات والبنوك على الموظفين ان يحققوا هدفًا عاليًا وهذا الهدف يرتفع سنةً بعد أخرى كزيادة عدد العملاء او الارباح او الانتاج، يكون قلق خطر عدم تحقيق الهدف كبيرًا جدًا على الموظف الذي يخشى من الإنذار او الفصل وهكذا،
  • حين تكون الطموحات المادية مرتفعة نتيجة زوبعة تحقيق الذات، وقد لا تتناسق مع القدرات الفردية، يضطر الافراد الى الخروج عن القانون او الشعور بالقلق.

هل حقّقت الحضارة الغربية السعادة المنشودة؟

مستوى القلق المرتفع في ظل خواءٍ روحي وفراغٍ معنوي وإغراقٍ غريزي وضع نهايةً لحلمٍ طويلٍ عاشته البشرية لمدة خمسمائة عام. إنّه من المؤسف أن تنحدر الحضارة الغربية بكل انجازاتها العلمية والتكنولوجية نتيجة ضعف العلوم الانسانية والاجتماعية الغربية والتي لم تحقّق تقدمًا يوازي طفرات العلوم الطبيعية، بل على العكس، فبعض النظريات الاجتماعية الغربية تركت وراءها خرابًا هائلًا وتنذر بكوارث رهيبةٍ على مستوى القيم الإنسانية والحياة الإجتماعية.

{كم هو جميل، أن يجتمع تطور العلوم الطبيعية الغربية مع طمأنينة وسكينة العلوم الإنسانية الشرقية}

تلك هي وصفة السعادة المطلوبة التي ندعو البشرية الى تحقيقها.  والحمد لله ربّ العالمين.

5 تعليقات

  1. حافظ إبراهيم المحفوظ

    مقال رائع، أجاد فيه الدكتور عبدالجليل الوصف و التشخيص.
    هنالك عدة أسئلة تحتاج من الدكتور الإجابة عليها كي تتضح الأمور أكثر, منها:
    ١-ألم يكن الإنسان، طوال عمره، يعمل لساعات طويلة من أجل تأمين الحد الأدنى من لقمة العيش، و ذلك في كل الأزمان التي سبقت الحضارة الغربية؟ و قد أتت الآلة لتخفيف الحاجة إلى العمل الزائد، لكن جشع الانسان لم يتوقف.
    ٢-ألم تكن المرأة تشارك في العمل في الحقول و غيرها، كما في البيت لتلبية متطلبات الأسرة؟ في اعتقادي أن الذي تغير هو نوع العمل و زيادة خروج المرأة من بيتها إلى مواقع العمل.
    ٣-هل كان عصر الحداثة فعلاً هو عصر التمرد على الأديان، أم أنه أتى بعد ذلك بفترة طويلة من الزمن؟ حتى إعلان النسوية و مذاهب فكرية أخرى مثل الفردية (الفردانية) المنطلقة من الليبرالية الاجتماعية في الغرب، كان الناس متدينون و النساء محافظات إلى حد ما، أليس كذلك؟

    • عبدالجليل الخليفه

      عليكم السلام اخي العزيز حافظ:

      لك الشكر. تساؤلات رائعة كما عودتنا.

      العمل ساعات طويلة منذ فجر التاريخ لكن ذلك ليست الجنة الموعودة التي بشرتنا بها الحضارة الغربية، فقد زاد الاستهلاك و لم تقل ساعات العمل.

      نعم، المرأة نصف المجتمع و ليس الحديث ضد عمل المرأة، لكن المرأة في الغرب تعمل وزوجها كذلك يعمل لان دخلهما معا بالكاد يكفي لمعيشة الأسرة. للمرأة ان تعمل ضمن ظروف مناسبة شرط ان لا يشغلها عملها المشروع عن أنبل و أشرف وظيفة و هي تربية الجيل الجديد.

      الحداثة أطلقت رياحا فكرية عاتية شملت نظريات التحررية و التي انطلقت بذورها منذ القرن الثامن عشر، و ليست نظرية فرويد بعيدة عن الجو الغريزي الذي آلت اليه الامور. نعم، اوافقك أن المجتمع الغربي بقي محافظا حتى القرن العشرين، لكنه كان يترنح في أجواء فراغ روحي و فكري فلما اشتدت عليه الضغوط خاصة بعد خروج المرأة للعمل بصورة واضحة بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت تلك النظريات تلقى صدى واسعا و كسبت حركية اكثر في السنوات الاخيرة بعد الثمانينات من القرن الماضي.

      مرة أخرى، الموضوع واسع و متشعب و يستحق الكثير من النقاش فلك أغلى تحية و أصدق مودة.

  2. جاسم آل طالب/ أبو سامي

    🌹اللهم صلِ و سلِم على محمد و آله🌹و عجل فرجهم🌹

    سلام الله عليكم

    تحية عطرة

    مقال أكثر من رائع أستاذنا العزيز بو محمد.

  3. احمد العسكر

    احسنت يادكتور . لخصت كتب في مقال. وإن شاء الله نعاصر خاتمة المقال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *