الفيزياء والفلسفة : القطيعة والإتصال – د. جاسم حسن العلوي

ما يميز التأمل الفلسفي في صورته الميتافيزيقية هو لا زمنيته فهو بنية ذات ترابط منطقي متعالي و منجز ، و هذه البنية تنظر إلى الواقع على نحو من العمومية , و الإطلاق. ومن هنا فإن هذه البنية الناجزة قد تبدو للبعض أنها لا تستجيب و تتناقض مع التطورات الحاصلة في ميدان الفيزياء. و الواقع أنه لا يوجد دليل علمي قاطع على أنها تتناقض مع الفيزياء. صحيح أنها تتناقض مع بعض التفسيرات الأخرى لجملة من المسائل التي كشف عنها العلم لكن لم يقم الدليل على تناقضها مع منجزات العلم. الحقيقة الميتافيزيقية في جوهر مفكريها لا تتناقض مع الواقع الطبيعي و هي واحدة ذات طبقات منسجمة مع بعضها. ليست هناك حقيقة مزدوجة صادقة في فضاء معرفي و كاذبة في فضاء معرفي آخر. إنها واحدة منسجمة تتطابق مع جميع الفضاءات المعرفية شريطة أن نفهم كيف نتخلص من التناقضات الظاهرية و أن نحفر في العمق لنكشف التطابق و الإنسجام.

يقول صلاح الجابري في كتابه “فلسفة العلم” إن من مميزات التأمل الفلسفي لا زمنيته الملازمة لخاصية التجريد ، بيد أن هذه اللازمنية لا تمنحه صفة الإطلاق الواقعي إلا إذا تحددت صيغة إجرائية لتطابق النظر و الواقع و حينئذ سيهبط من مستواه الفوقي المتعالي إلى مستواه الزمني الواقعي و هذا الإنتقال يحدد الفصل بين التأمل الفلسفي و الواقع العلمي ” (1، ص 83).

و يقول ايضا ” إن تحرر التأمل الفلسفي من عائق الشروط العلمية يقابله إلتزام بالإنسجام المنطقي الذي يعني خضوعه لطرائقية صارمة … ووفق هذه الطرائقية و اللازمنية يستبق النظر الفلسفي غيره من ألوان النشاط الفكري الأخرى” ( 1،ص 84).

و هناك بنيات فلسفية تعتبر نفسها تابعة لمنجزات العلم و هي بذلك لا تمتلك الثبات و لا العمومية و ترفض الفكر المتعالي على التجربة و هي تحاول تصحيح نفسها للتكيف مع التطورات الحاصلة في ميدان العلوم و هذه بالتأكيد لا تتناقض معه.

و السؤال الذي نناقشه في هذه الورقة هو كيف نفهم موقع الفيزياء في البنيات الفلسفية الناجزة و مصداقها الأكبر الميتافيزيقا و البنيات الفلسفية التابعة ؟ و بتعبير آخر كيف تتحدد شكل العلاقة بين الفيزياء و الميتافيزيقا باعتبارها البنية الناجزة والتي واجهت تحديات تطبيق مفاهيمها على التطورات التي حصلت في الفيزياء الحديثة و كذلك شكل العلاقة بينها – الفيزياء – و بين الفلسفات الأخرى التابعة؟

إن عمومية الفلسفة ذات البنى الفوقية المتعالية وحركتها الحرة لا تعني أن نضع الفيزياء في دائرة كبرى مهيمنة هي دائرة الفلسفة ، حيث تستوعب الفلسفة الفيزياء و تحتويها في شكل علاقة سلبية و ذات إتجاه واحد، بل أن الفيزياء و إن وصفناها بالعلم الجزئي إلا أنها تقدم باستمرار عبر تطورها التاريخي مسائل تستثير فيها العقل الفلسفي و تضعه أمام تحديات جديدة و تعطيه زخما و نشاطا و تدعوه على الدوام لتقديم قراءات جديدة متوافقه من التطورات الحاصله في ميدانه. ربما يصح أن نقول أن الفيزياء و على مدى قرون طويلة لم تقدم للفلسفات الناجزة ما يشبه بالزلزال الذي يهز منجزاتها ، إلا أن ذلك تغير منذ أن بدأ العلم يشق طريقه في أوروبا متحررا من هيمنة الكنيسة. فمن جاليلو حتى ما قبل القرن العشرين هيمن على أوروبا تياران معرفيان كبيران هما التيار التجريبي و التيار العقلي و هما في الحقيقة نتاج حركية العلوم و تقدمها و بالخصوص الفيزياء و تصادم التقدم العلمي مع التفسير الكنسي للنص الديني. ففي حينها عندما إصطدم العلم بالنص الذي تملك فقط الكنيسة تفسيره ، تحرك الفكر الديني مضطرا في دفاعه عن النص الديني ليقدم قراءه فلسفية للنظرية العلمية محددا بذلك موقفا ابيستمولوجيا و قراءه انطولوجية للواقع. في المقابل تشكلت رؤية علموية تحصر الوجود في صورته المادية و تجعل من التجريبية مذهبا فلسفيا للوجود.

لكن ما حصل في القرن العشرين بعد أن ظهرت على مسرح الحياة نظريتان كبيرتان هما النظرية النسبية و النظرية الكمية ، أخذت العلاقة منعطفا جديدا و مختلفا تماما. لقد قدمت الفيزياء مسائل حول الواقع و الوعي و المعرفة ولدت حراكا كبيرا في الفلسفة ، وجعلت العقل الفلسفي ينشط في بحث هذه المسائل في صورة جديدة. لقد أثرت التطورات العلمية في تشكيل الفكر الفلسفي إلى حد بعيد جدا إلى الحد الذي ذهب بالبعض إلى اعتبار الفلسفة تابعة للفكر العلمي و ما عدا ذلك محض خرافة ، و أرادت بالتبعية أن ليس ثمة و جود لما ندعوه بالحقيقة المجردة التي يكشفها العقل الحر و التي تتنزل من عليائها لتتطابق مع الواقع العلمي ، إن مهمة الفلسفة الجديدة أن تكبل هذا العقل الحر الذي يأخذنا إلى متاهات الخرافة و تجعل نشاطه في موضوع المادة و معطيات التجربة.

لقد وضعت التطورات الجديدة في ميدان الفيزياء و التي طالت مفاهيم مركزية في الفكر البشري و التي ظلت طوال التاريخ تشكل البنية التحتية الصلبة التي يقوم عليها الفكر البشري ، الفكر الميتافيزيقي أمام تحديات تطبيقية لمفاهيمه الأساسية على الواقع العلمي الجديد. كما دفعت هذه التطورات الفلسفات المادية و العقلية الكلاسيكية لتطوير نفسها و الخروج بفكر فلسفي متجدد يتناسب و الواقع العلمي الجديد. إذ لم تعد الأطر التقليديه للفكر الفلسفي في صورتيه التجريبية و العقلية ، كما يتصوره البعض ، تستجيب لمستجدات العلم الحديث.  فلم تبقى النزعة التجريبية واحدة ثابته منذ أن وجدت بل تطورت حتى تستوعب الهزات الأبيستمولوجية التي تثيرها من وقت لآخر أبحاث الفيزياء.

سنضع القارىء الكريم في هذه الورقة أمام مستويات مختلفة من العلاقة بين الفيزياء و الفلسفة. كما أننا سنتعرض  لموضوع الفيزياء و الخالق لما له من خصوصية تشكلت و تطورت سلبا و إيجابا بالتوازي مع التقدم الحاصل في ميدان الفيزياء. الأمر الذي دفع بعلماء كبار في الفيزياء إلى إنكار الخالق ، والغيب و كل ماوراء الحس زاعمة أن الفيزياء أثبتت عدم وجود الخالق أو أنها قد قدمت في أحسن الأحوال ما يثبت إستغناء هذا الكون عن الخالق.

الفيزياء و الميتافيزيقا عند فلاسفة الإسلام

لتوضيح العلاقة بين الفيزياء و الميتافيزيقا في تصور فلاسفة الإسلام  سأعمد لضرب مثالا معتمدا في ذلك على نصين لأبي حامد الغزالي من كتابه “المستصفى من علم الأصول”.  يقول الغزالي في كتابه “المستصفى من علم الأصول ” بشأن حجية العقل ” فقد تناطق قاضي العقل وهو الحاكم الذي لا يعزل و لايبدل، و شاهد الشرع، وهو الشاهد المزكى المعدل بأن الدنيا دار غرور”( 2، ص2 ).  هذا نص للغزالي ، صاحب تهافت الفلاسفة، يولي العقل أهمية كبرى حيث ينطق هذا النص بجلاء و بجمالية عالية دفعتني لإيراده ،على أنه لا يمكن تنحيت العقل و استبعاده لحجيته القاطعة و حاكميته الدائمة و شهوديته الصادقة على سائر العلوم.  و لا يرى الغزالي أي تعارض بين أحكامه مع الفقه الشرعي. ربما يقول البعض أن الإستشهاد بهذا النص لرجل عرف بمعاداته للفلسفة هي في غير محلها. صحيح أن الفلسفة هي المصداق الأرفع لحركة العقل الحر الذي لا يقيده نص و لا محسوس ، لكن ذلك لا يعني على الإطلاق أن الغزالي يقف موقف المعادي للعقل على نحو الذي يبطل قيمته في فهم النصوص و كذلك أحكامه العقلية في العقائد التي تجعل من النصوص مرجعيتها النهائية في تشكيل تلك العقائد.

و حتى نفهم موقع الفيزياء في دائرة الفلسفة أو موقع الفلسفة في دائرة الفيزياء ، دعونا نستعين بكلام آخر للغزالي من كتابه “المستصفى” نستعين به في تحديد شكل العلاقة بين الفيزياء و الفلسفة ، حث يقول ” فكل عالم بعلم من العلوم الجزئية فإنه مقلد لا محالة في مبادىء علمه إلى أن يترقى في العلم الأعلى فيكون قد جاوز علمه إلى علم آخر”( 2 ، ص17 ) . وعند التحليل لكلام هذا المفكر الأشعري يتضح أن الغزالي يقسم العلوم إلى علوم جزئية و علوم كلية كما يشرح ذلك بالتفصيل في كتابه المستصفى (2، ص 12). و العالمون بالعلوم الجزئية هم في حقيقتهم مقلدون في علومهم للعالمين بالعلوم الكلية. فموضوعات العلوم الجزئية تحتاج في إثبات موضوعاتها إلى العلوم الكلية العقلية. و العلم الكلي أو العلم الأول عند الغزالي هو علم الكلام و سائر العلوم الأخرى تحتاج اليها في اثبات موضوعاتها. فعلم الفقه مثلا الذي موضوعه فعل المكلف على ضوء الخطاب الشرعي هو علم ينضوي تحت علم الكلام. فالإختيار عنصر ضروري في التكاليف الشرعية حيث لا إعتبار للفعل إذا صدر من دون إختيار. لكن الفقيه لا يستطيع أن يقيم البرهان على إختيارية فعل الملكف، و إنما الذي يستطيع أن يبرهن على أن مناط التكليف في صدور الفعل من إرادة حرة واعية هو العلم الكلي العقلي- الذي هو علم الكلام عند الغزالي ( 3، ص132 ). إذن مرد جميع العلوم الدينية و غيرها إلى العلوم الكلية التي تستند إلى العقل الذي يراه الغزالي شاهد الصدق و الحاكم الدائم في سائر القضايا.

يمكن إذن أن نفهم كيف تتموضع الفيزياء بالنسبة للفلسفة و العكس من خلال الإستضاءه من النصيين اللذين أوردهما الغزالي في كتابه ” المستصفى ” .فإذا ما ضممنا النص الأول الذي يتحدث عن القيمة الحقيقة للأحكام التي يصدرها العقل ، بالطبع إذا كانت مقدمات تلك الأحكام يقينية، و النص الآخر الذي يقسم العلوم إلى كلية و جزئية و حاجة العلوم الجزئية إلى العلوم الكلية ، سنجد أن العلم الكلي الحاكم يترقى في كليته حتى ينتهي للعلم العقلي الصرف الذي يقدم أحكامه العقلية المتحررة من أسر النص الديني و غيرالديني و من أسر المادة – المحسوس. وبهذا تكون الفيزياء علم جزئي يحتاج إلى علم كلي هو الفلسفة في إثبات موضوعاته ، تماما كحاجة الفقه لعلم الكلام.

يقول أبو نصر الفارابي في مقال له ” إن العلوم الجزئية كلها تحت الفلسفة الأولى فهي تشاركها بأن موضوعاتها كلها تحت الموجود على الإطلاق” ( 4 ، ص 150) و يعلق الدكتور محمد قشيقش على هذا النص في كتابه ” نظرية العلم عند أبي نصر الفارابي” بقوله “بهذه الصورة قد تشترك الفلسفة الأولى و العلم الطبيعي في النظر في شيء واحد ينظر فيه صاحب الفلسفة الأولى بإطلاق و في عموميته ، و ينظر فيه صاحب العلم الطبيعي ، بتقيد أو تخصيص. و قد ينظران فيه من جهة الزيادة و النقصان. مثل اشتراك العلمين في النظر إلى الطبيعة ، فصاحب الفلسفة الأولى ينظر إليها بإطلاق و صاحب العلم الطبيعي ينظر إليها بما هي متغيرة مخصوصة . كما قد يشتركان في النظر إلى ” مبادىء الجوهر المتحرك أعني الطبيعي” بجهتين مختلفتين حيث يفحص العلم الطبيعي عن مبادىء الجسم بما هو طبيعي ، أي بما هو موجود ساكن أو متحرك ، و يفحص عنه في الفلسفة الأولى من جهة ما هو جوهر فقط قائم بذاته”. و تأكيدا لما أوردناه في المقدمة من أن الحقيقة في الفكر الميتافيزيقي واحدة ذات طبقات بحيث أن العلم الواحد لا يستوفي كافة الأسباب ، يقول أبو نصر الفارابي ” فإنه متى كانت صناعة ما تعطي في الشيء الواحد سببا فقط ، ثم ننظر في ذلك نفسه في صناعة أخرى أمكن أن نعطي فيها سببا آخر” (4،ص 152).

و ينقل د محمد قشيقش عن إبن سينا من كتابه الشفاء نصا يتحدث فيه عن الكيفية التي تنظر فيها الفلسفة و العلم الطبيعي إلى تواجد الماء في قعور الارض ، فيقول ” فيكون سبب ذلك في العلم الطبيعي أن الماء بالطبع سيال إلى القعور و الأرض يابسة لا تتشكل بذاتها ، بل تحفظ الأشكال الإتفاقية ، و إذا إتفق لأجزائها كون و فساد بقي مكان الفاسد قعرا ووهدة ، … أما في الفلسفة الأولى فتكون العلة لهذا مثلا من جهة الغاية وهي أن تستقر الكائنات على مواضعها الطبيعية” . و يتحدث أبو نصر الفارابي عن أهمية العلوم الجزئية للفلسفة الأولى فيقول في كتابه ” البرهان ” ما نصه ” فلذلك تستعمل اشياء تبرهنت في علم النجوم مقدمات أول في الفلسفة الأولى”(4، ص153) و ابن رشد و ابن سيناء لا يختلفان في تصورهما للعلاقة بين العلوم الجزئية و الفلسفة الأولى عن أبي نصر الفارابي من جهة استعمال بعضها ما تبرهن في الأخرى. يقول الدكتور محمد قشيقش ” فقد تبين من المقارنة الدقيقة بين ما أورده كل واحد أنه ليس بينهم اختلاف في جوهر الموضوع موضع الفحص. لذلك فإن الأمثلة التي جاء بها ابن سينا و ابن رشد تصلح لإضاءة القضايا العامة كما أوردها الفارابي . ” و ما كان نتائج في الأعلى قد يصلح مبادىء برهان في العلم الطبيعي ، مثل أن يستعمل صاحب العلم الطبيعي ما تبين في الفلسفة الأولى يوضحها ابن رشد ” مثل أن حركة الجرم السماوي أزلية ، و أن الحركة الأزلية واحدة، و يكون المحرك لها قوة متبرئة من المادة، لأن هذه القوة يجب أن تكون غير متناهية، و القوى الهيولائية متناهية بالضرورة”. فهذه أمور تبينت في العلم الأعلى، فيصادر عليها صاحب العلم الطبيعي، و يضعها مبدأ برهان، أو حدا وسطا في براهينه…”.(4 ، ص 154). ننتقل إلى شَكل آخر ومستوى أعمق من العلاقة بين الفيزياء والفلسفة؛ بحيث يسمح هذا الشكل من العلاقة للفلسفة أن تُساهم مع الفيزياء في إكتشاف الواقع الطبيعي.

الطائي و الفيزياء الكلامية

ينطلق محمد باسل الطائي الفيزيائي النظري في رؤية متوسعة جدا لشكل العلاقة بين الفيزياء و الفلسفة و الدين. و يرى أن العالم بما هو موضوع للإستكشاف و المعرفة العلمية بالتحديد لكن ذلك لا يمنع من الإفادة من عقلانيات بعينها مختلفة المناهج كالعقلية الفلسفية و الدينية في معرفة العالم وفق محددات صارمة ذات مرجعية علمية. و خصوصا بعد أن قدمت النظرية الكمية صورة للعالم اسقطت فيها حتمية القوانيين العلمية و اصبح جوهر الرؤية العلمية قائم على الإحتمالات حيث لا تتخذ النتائج صفة اليقين إلا بقدر نسبوي. و يذهب الطائي إلى أبعد من ذلك في رؤية صادمة للعقلانية العلمية المنغلقة على ذاتها و التي لا ترى الحقيقة إلا من خلال الإلتزام بمنهجها التجريبي المرتكز في فهمه للعالم و قوانينه على التجربة حصرا ، ويرى أنه يمكن للعقل الفلسفي و العقل الديني أن يبدعا نظريات و أن يكتشفا قوانين طبيعية تتطابق مع الواقع الموضوعي بشكل أفضل مما يفعله العقل العلمي أو على الأقل مضاهيا له. يقول الطائي في كتابه “دقيق الكلام ، الرؤية الاسلامية المعاصرة لفلسفة الطبيعة ” أن الطرح الكلامي كما نجده في إطاره الفلسفي هو تلخيص متقدم لرؤية عميقة متكاملة للعالم ، لا تخلو من أخطاء و نواقص دون شك ، لكنها يمكن ان تؤسس لفلسفة طبيعية متقدمة ، فلسفة غير متناقضة مع ذاتها تمتلك كل أدواتها المنسجمة مع بعضها لتؤدي بنا إلى فهم أعمق للعالم ربما يساعدنا على إكتشافه” (5، ص23 ). هذا النص يقدم رؤية منفتحة و ايجابية لمختلف المناهج و العقلانيات المتعددة في السياق الذي يسند بعضها بعضا و يقدم رؤية متكاملة للعالم.

إذن يمكن بحسب هذه الرؤية المتوسعة جدا أن يكون للفلسفة و الدين دورا في استكشاف الواقع العلمي أو المساهمة جنبا مع العلوم في فهم الواقع و لكن وفق محددات علمية صارمة ذات مرجعية علمية. فما هي المحددات العلمية للرؤية الطائية؟

أولا : أن العقلانية الفلسفية و الدينية تمتلك موضوعية.

ثانيا:  ينبغي أن لا نعتبر النتائج التي تفرزها العقلانية الدينية مقدسة.

ثالثا: أن نخضع جميع  النتائج المبنية على مناهج فلسفية و دينية للتجربة و القياس.

صاغ نضال البغدادي المفكر العراقي الرؤية الطائية في قالب فلسفي أسماه “فلسفة التضامر”. ففي كتابه الفيزياء الكلامية تعرض البغدادي لجملة من الأمثلة التي وردت في كتاب الطائي “دقيق الكلام ، الرؤية الإسلامية المعاصرة لفلسفة الطبيعة” و التي يكشف الطائي من خلالها عن التطابق بين علم الكلام الإسلامي في الطبيعيات و بين الفيزياء المعاصرة ليكون ذلك دليلا دامغا على إمكانية الجمع بين العقلانية العلمية المنفتحة و العقلانية الدينية و الفلسفية. و من بعض الأمثلة التي التقطها الطائي من علم الكلام الإسلامي و التي كما يعتقد هو تتطابق مع رؤية الفيزياء المعاصرة هو شيئية العدم. فالمعتزلة قالت أن المعدوم شيء ، و ذلك اعتمادا على أن حقيقة الشيء كونه معلوما و من المعروف أن الفيزياء الحديثة تنفي وجود الفراغ و تقرر وجود جسيمات إفتراضية فيه ( 5، ص 45-46). و لسنا هنا بصدد مناقشة الطائي في أن للعدم شيئية و في المطابقة بين شيئية العدم و انتفاء الفراغ المطلق في الواقع الطبيعي. و الطائي يورد كثير من الامثلة التي يرى فيها التطابق بين كلام المتكلمين في الطبيعيات و الفيزياء الحديثة.  و رغم تحفظنا على بعض هذه المطابقات إلا أنني أتفق معه في عموم الفكرة ، والنظرة الإيجابية لهذه العلاقة إنطلاقا من إيماننا بتراتبية الحقيقة.

دعونا نَنْظُر إلى شكل آخر من العلاقة بين الفيزياء والفلسفة، ولكن في بنيتها التابعة، يُقدِّمها الفيلسوفُ الفرنسيُّ غستون باشلار، وهي رؤية تستحق التوقف بالفعل.

باشلار و العقلانية التطبيقية (الفلسفة المفتوحة)

على الرغم من أن غستون باشلار يرفض إستخدام الفلسفة العقلية و التأمل الغيبي في مسائل العلم، حيث يرى أنها  عملية ترحيل الفكر الفلسفي العقلي إلى مسائل العلم هو خروج عن الغائية و الروحية التي من اجلها وجد و هي عملية مخيبة  للآمال في الغالب و هو بذلك يقع على نقيض مع الرؤية الطائية المتوسعة و المنفتحة  ، إلا أن له فلسفة جديرة بالاهتمام تخرج عن السياق التقليدي للنزعة التجريبية و النزعة العقلانية الكلاسيكية.

ينطلق باشلار في رؤية جديدة للعقلانية العلمية أو العقلانية التطبيقية أو ما يسميها الفلسفة المفتوحة بناء على التطور التاريخي للعقلانية العلمية. ويفرق باشلار بين علم الأمس و العلم الحديث، فالقرون التي سبقت القرن العشرين كان العلم و الفلسفة التجريبية يتحدثان لغة واحدة و كان الشعار فيها كما يقول ” عوِّدوا الأذهان الشابة على الإرتباط بالمشخص و الإهتمام بالحوداث ، أنظر كي تفهم”. لكن هذا الإنسجام بين العلم و الفلسفة التجريبية لم يصمد بعد ان كشفت الفيزياء الحديثة عن لغة مستعصية على طريقتنا التقليدية في الكيفية الخاصة التي اعتدنا بها التحليل. يرى باشلار إن التقليد المتبع في التحليل يولد لدينا عادات سيكولوجية ضارة بالمعرفة ، تشكل عقبات معرفية تعمل على تباطؤ الفعل المعرفي ( 6، ص13). لقد وضعتنا الفيزياء الحديثة أمام هزة ابستمولوجية كبرى. فقد كشفت – الفيزياء الحديثة – عن عدد من الظواهر الجديدة و التي كما يرى باشلار حتمت الخروج بفلسفة ذات تصور مختلف قائم على الحوار بين العقل و التجربة .ترفض هذه الفلسفة الجديدة الإنطلاق من مبادىء قبلية و من فلسفة ناجزة ذات رؤية فوقية عمومية للعالم  كما ترفض ربط الفكر و عملياته بالمعطيات التجريبية حدها.

فلقد الغت الفيزياء الحديثة فردانية الجسيم ، فلم يعد الحديث عن الجسيم إلا ضمن مجموعة ونحن لا نستطيع التعرف عليه إلا من خلال علاقته بالمجموعة. كما أظهرت الفيزياء الحديثة تداخل بين العقل و الكائن، و بين الموجة والجسيم. هذه الظواهر الجديدة و الملتبسة أفضت إلى تناقض كبير مع الفلسفة التجريبية، إذ لم يعد المعطى الحسي في مثل هذه الظواهر هو القادر على إمددنا بالمعلومات كما تزعم النزعة التجريبية. إذ اصبح المعطى الحسي في الميكروفيزياء و سيلة للتحليل الرياضي أكثر من كونه موضوعا للمعرفة التجريبية. و بما ان الواقع غير قابل للتفرد كما أن القياس الدقيق عملية معقدة جدا، فإن العالم سيعطي أهمية كبيرة لبنية العلاقات الرياضية التي تقوم بتوجية التجارب العلمية. إذن نحن أما منعطف ابستمولوجي جديد فرضته التطورات العلمية الحديثة في المجال الذري. و يتمثل هذا المنعطف في أن العقل العلمي يتطور نحو التجريد الرياضي، فالتصور العلمي الجديد للواقع هو تصور نحكمه البنيات الرياضية و ليس الكائنات الفيزيائية. يقول باشلار ” إن الفكر الواقعي لا يستحدث من ذاته أزماته الخاصة ، لم يحدث هذا قط . إن الإستثارة تأتية من الخارج دوما و بالضبط من ميدان المجرد، الميدان الذي فيه تنشأ و منه تنطلق. إن منابع الفكر العلمي المعاصر تنتمي إلى ميدان الرياضيات ” ( 7 ، ص 463-470).

ويرى باشلار أن هناك قطيعة بين المعرفة الحسية و المعرفة العلمية، وأن العقلانية التطبيقية أو الفلسفة المفتوحة التي تعطي تصور للواقع العلمي من خلال علاقة شديدة الخصوصية بين الفيزياء و الرياضيات يمكن أن تمد جسور القطيعة بينهما.

الفيزياء والخالق

إذا لم تستطع الفيزياء أن تبرهن على وجود الخالق فهي بالتاكيد على نحو الجزم و اليقين لا تستطيع أن تنفي وجود الخالق. لكن الفيزياء كما سنوضح تعطي احتمالا عاليا جدا على وجود الخالق. إذن الفيزياء تقع بين عجز و شلل تام في مسألة نفي وجود الخالق و بين ترجيح احتمالي عال جدا بأن هناك هدفا وراء الخلق يقف وراءه خالق حكيم مقتدر و عليم. لنبدأ أولا بعجزها عن نفي الخالق و لنستعين بما ورد في كتاب فلسفتنا للسيد الشهيد محمد باقر الصدر رضوان الله عليه.  يرى السيد الشهيد أن المدرسة الإلهية تتميز عن المدرسة المادية في أن الأولى تؤمن بسبب خارجي مجرد و مستقل يقف وراء كل التطورات و الحركات في الطبيعة، و التي يكشف عنها العلم. بينما تقف المدرسة المادية على النقيض حيث تحصر اولا الوجود بالمادة فقط، و ترد جميع ما يحدث في الطبيعة من حركة و تطور إلى الطبيعة ذاتها، فهي مستغنيه بذاتها عن السبب المجرد. إذن نقف أمام مدرستان أحدهما تثبت أن هذه الطبيعة معلولة لسبب مجرد مستقل عن المادة و هي المدرسة الإلهية و أخرى تنفي على نحو القطع سببية مجردة مستقلة تقف وراء الطبيعة. إذن نحن بإزاء مدرستين التعارض بينهما يتمثل في الإثبات و النفي، وهنا يتساءل السيد الشهيد عن أي من المدرستين تقع مسؤلية الإستدلال و البرهنه على اتجاهها الخاص؟ و يجيب بأن لكل منهما مسؤولية الإستدلال. فالإلهي عليه أن يبرهن على الإثبات كما أن على المادي ان يقدم دليله على النفي ذلك لأن النفي القاطع كالإثبات القاطع يفتقر إلى دليل. ولو كانت القضية الميتافيزيقية لدى المادي موضع شك لما وجب عليه أن يقدم دليله لكنه نفاها نفيا قطعيا، لذا وجب عليه تقديم الدليل.

فالمادي لما تمسك بالنفي القاطع إدعى ضمنا أنه أحاط بالوجود كله و لم يرى فيه السبب مجردا. فلا بد أن يقدم دليله على هذه الإحاطة و أن يبرر نفيها. و هنا نتسأءل كيف يمكن للمادي المتمسك بالتجربة كدليل أن ينفي حقيقة خارج حدودها؟ فالعالم  الطبيعي إذا لم يجد السبب المجرد في مختبره لم يكن هذا إلا دليلا على نفي وجوده في ميدان التجربة . أما نفي وجوده في مجالات فوق التجربة فلا يمكن أن يستنتج من التجربة.  هنا ندرك العجز التام للفيزياء أن تقدم دليلا من داخلها ينفي على نحو الجزم الخالق (8، ص 183-185).

أما عن دور الفيزياء في تقديم إحتمال عال جدا يصب في إتجاه إثبات الخالق ، فهو مما تؤكده التطورات التي حصلت في الفيزياء. يجب أن نعي أن العقل العلمي وإن إدعى أنه لا يؤمن بأية معرفة خارجة عن التجربة و ينفي أن ثمة مبادىء أولية ضرورية فوق التجربة، إلا أنه يطبق هذه المبادىء على الواقع العلمي و إن لم يعترف بذلك. هناك علاقة ضرورة بين الفيزياء و الفلسفة العقلانية ، و لولا هذه العلاقة لما كان هناك فيزياء. يكشف ريتشارد موريس في كتابه “حافة العلم… العبور إلى الميتافيزيقا” عن هذه العلاقة، فيذكر أن علماء الفيزياء يقومون بفروض فلسفية و لا توجد أية و سيلة للبرهنه عليها. فهم يفترضون أن قوانيين الفيزياء التي نعمل بها في فضائنا القريب يجب أن تكون هي نفسها ذات القوانيين في المجرات البعيدة. كما أنهم يفترضون أيضا ان قوانيين الفيزياء التي يجري العمل بها اليوم هي ذاتها التي حددت سلوك الجسيمات الأولية في بداية نشأة الكون منذ ملايين السنين. هناك فرض فلسفي يقوم به علماء الفيزياء يتمثل في ثبات قوانيين الفيزياء في الأماكن البعيدة جدا و الأزمنه السحيقة جدا ،وهو فرض لا يمكن البرهنه علية. و هم لا يملكون جوابا عن احتمالية أن تكون قوانين الفيزياء قد تغيرت عبر الزمان! لا يمكن للنظريات العلمية أن تتحقق لو لم يفترض العلماء أن قوانيين الفيزياء التي ندركها هي نفسها التي يجري العمل بها في أماكن أخرى و أزمنة اخرى. في الحقيقة ما يقوم به علماء الفيزياء هو تطبيق عملي لقوانين العلية. هذا الإيمان بأن قوانين الفيزياء صالحة للعمل في كل زمان و مكان هو تصديق قبلي بالعلية و قوانينها.

يرى بعض الفلاسفة و الفيزيائيين أن هناك مبدأ إنسانيا للكون. هذا المبدأ الإنساني للكون يقوم على فكرة أن الكون يملك إحتمالا ضئيلا جدا على إيواء الحياة الذكية. و السبب في ذلك يعود إلى الدقة المتناهية التي تتأسس عليها الحياة, فالكون يتقوَّم بمجموعة من الثوابت الطبيعية، بحيث لو اختلفت اختلافا طفيفا يكاد يكون من المؤكد أنه سينتج عنها كونا لا حياة فيه. و ليس هناك من سبب يمنع أن تختلف الثوابت الطبيعية اختلافا هينا. فيمكن لثابت الجاذبية مثلا ان يكون أقوى بقليل عما هو عليه، أو أن تكون كتلة البرتون أقل بقليل. فإذا لم يكن هناك من مبدأ يعمل عن سابق قصد وتصميم فإن الحياة ستكون لسلسلة طويلة من المصادفات الإستثنائية مما يجعل احتمال وجود كون به حياة ضئيلا جدا جدا. و بذلك يترجح في المقابل احتمال عال جدا لوجود مبدأ يقف وراء تصميم كون به حياة ذكية.

المبدأ الإنساني يتخذ شكلا قويا و آخر ضعيفا. وسنتعرض للمبدأ الانساني القوي لأنه ذو دلالة تتعلق في اعتقادي بترجيح عال لمبدأ أول يقف وراء تصميم الكون الذي يأوي الحياة. وينص المبدأ الإنساني القوي على أن ” الكون يجب أن يكون بحيث يسمح بخلق الملاحظين فيه عند وضع معين” و المعنى من هذا المبدأ أن الكون الذي ليس فيه إمكان الحياة هو كون مستحيل. و يتساءل موريس: لماذا لا يمكن أن يأتي للوجود إلا الأكوان التي لها إمكانية خلق ملاحظين؟ يمكن أن نضع ثلاثة إحتمالات للإجابة عن تساؤل موريس:

الإحتمال الاول: أن الكون تم تصميمه بحيث يكون مواتيا للحياة و هو ما يترجح لدينا.

الإحتمال الثاني: هو أن الملاحظين هم على نحو ما مسؤولون عن الإتيان به و هو كلام متناقض. لأنه لو عزلنا المبدأ المصمم فإن الحياة لا تتكون إلا من خلال تكون العناصر الذي يتطلب أن تتخلق أولا في النجوم.

الإحتمال الثالث: أن يكون هناك عدد لا نهائي من الأكوان بحيث يمكن لكون من هذه الأكوان اللامتناهية أن يكون بها من الثوابت الطبيعية ما يسمح بإمكانية وجود الحياة في هذا الكون. لكن فرض وجود أكوان لا نهائية هو بحسب موريس أكثر الفروض لا علمية، لأنه ببساطة لا يقبل التفنيد. فيترجح بذلك في رأيي الإحتمال الأول، و هو أن هناك مبدأ أول صمم الكون لتكون به حياة ذكية ( 9، ص 221-226).

يستند ابن رشد لإثبات الصانع على دليل العناية، و هذا الدليل في ظني يقترب من المبدأ الإنساني القوي و ربما يتطابق معه. هذا الدليل ينبني على مقدمتين. الأولى: تبين أن جميع ما في الكون من موجودات و حركات، ليل، نهار، شمس، قمر …الخ هي موافقه لوجود الإنسان، و الثانية: ترتكز على أن هذه الموافقة ضرورة إقتضتها إرادة فاعل حكيم و لم تحصل مصادفة أو اتفاقا، بل صدرت عن قصد و تصميم (10، ص 125) فالمبدأ الإنساني يتحدث عن موافقة الوجود للملاحظ الذكي، وهذه الموافقة إذا لم تكن موجودة فإن من المستحيل للكون أن يوجد. إذن الموافقة بين الوجود و الملاحظ الذكي هي ضرورة، و هذا ما يستوجب في التحليل المنطقي وجود مصمم قادر وحكيم أوجد الكون، وأوجد فيه الإنسان القادر على ملاحظته و استكشافه.

المراجع

  1. فلسفة العلم ، صلاح الجابري ، مؤسسة الإنتشار العربي، الطبعة الاولى،
  2. المستصفى من الأصول ، ابو حامد الغزالي ، تحقيق حمزة بن زهير حافظ ، شركة المدينة المنورة للطباعة، 2008.
  3. عبقرية ابن رشد في الفلسفة المشائية ، د غلام حسين الإبراهيمي الديناني، تعريب عبد الرحمن العلوي ، دار الكاتب العربي ،  الطبعة الاولى ،2013.
  4. نظرية العلم عند ابي نصر الفارابي دراسة تحليلية نقدية ، د محمد قشيقش، منشورات الإختلاف ، الطبعة الأولى، 2015.
  5. الفيزياء الكلامية، نضال البغدادي ، دار نيبور للطباعة و النشر و التوزيع ، الطبعة الأولى، 2014.
  6. تكوين العقل العلمي مساهمة في التحليل النفساني للمعرفة الموضوعية، غستون باشلار ، ترجمة د خليل أحمد خيل، المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع ، الطبعة الثانية ، 1982.
  7. مدخل إلى فلسفة العلوم العقلانية المعاصرة و تطور الفكر العلمي ، د محمد عابد الجابري ، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الرابعة ، 1998.
  8. فلسفتنا، السيد محمد باقر الصدر ، دار التعارف للمطبوعات ، الطبعة الثالثة عشر ، 1982.
  9. حافة العلم : عبور الحد من الفيزيقا إلى الميتافيزيقا، ريتشارد موريس ، …
  10. ابن رشد سيرة و فكر دراسة و نصوص، د محمد عابد الجابري ، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الاولى ، 1998.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *