من خرابيش على قدو أمه إلى معرض فن الجرافيتي (الجزء الأول) – عبد الرسول الغريافي

في معية ثلة من الأصدقاء الأعزاء ومشيا على الأقدام بين بساتين نخيل التوبي الشماليه وبين معالم الخباقه (الحباكه) وبعد المرور على آثار تلك العيون التي لازالت تحتفظ برمق من المياه في قيعانها؛ أعني عين القصاري وحمام أبو لوزه وعين الخباقة الشماليه، وأثناء السير جذب أنظارنا فجأة سور بهيج زاهي الألوان يحيط بمزرعة صغيرة هي إحدى محطاتنا إذ كنا على موعد مع صاحبها الذي كان في انتظارنا لزيارتها غير أن سورها كان يستوقفنا ويشد انتباهاتنا للحظات جعلتنا نتأخر قليلا عن الموعد فما السور إلا لوحات فنية متداخلة في بعضها ذات جمال يستوقف المارة بجانبها.


عند وصولنا للباب وبعد الترحيب بنا وأثناء الدخول كان يتقدمنا -صدفة- صديق ألمعي، لبق في المداخلات فبسرعة بداهته استطاع (مداهمة) صاحب تلك المزرعة الصغيرة الفنان ابراهيم الميلاد من سكان قرية التوبي بسؤاله قائلا: أولا أريد أن أسألك إن كنت قد أستلهمت هذا الفن متأثرا بالفنون الأفريقيه؟
الفنان ابراهيم الميلاد رجل في سن الكهولة وتمتزج عباراته عند التحدث بدعابات يُتحف بها من يسمعه ويجيب دائما بأريحية فطرية حيث أجاب مازحا على الفور: “شوف أنا إلهامي هو قدو أمي!” فضحك الجميع على الفور، ثم استرسل في كلامه بجدية قائلا: كنت في الماضي أزخرف قدو أمي بزخارف عشوائية تشبه هذه الزخارف التي هي أمامكم ثم واصلت في استمراري على هذا المنوال!

والقدو كما يعرفه الجميع من سكان الخليج هو اداة فخارية للتدخين تقوم بنفس مفعول النارجيله أو الشيشه ويستخدم فيها التتن (أي التبغ) كمادة للتدخين، وهذا القدو يتكون من عدة اجزاء أهمها القدو وهو وعاء فخاري يشبه قلة الماء والذي يحتوي على الماء أيضا، وله عنق مزخرف كعنق القله حيث يثبت فوق فوهته البكار وهو أنبوبة من قصب البامبو مجوفة من الداخل ومزكرشة (مزينة) من الخارج بالقماش والخرز والخيوط الملونة لكي تثبت هذا البكار على فوهة القدو ويتصل جزء منها بالماء الموجود بداخله ثم يعلو البكار الرأس الذي يوضع فيه (الوقل) وهي فحمة تسد فوهة الرأس وكمصفاة أيضا، ثم يحشى الرأس بالتتن المُندى (أي المبلول) وفوقه الجمر وغالبا مايغطى بالبادقير، كما وتوجد فتحة دائرية صغيرة على جانب الوعاء الفخاري (القدو) والذي يثبت فيها (القلم) وهو أيضا انبوبة من قصب البامبو المجوفه ليجذب المدخن من خلالها الدخان. وفي القطيف عادة مايكون القدو اداة تدخين خاصة بالنساء اذ أن الرجل يدخن الشيشه والنارجيله ونادرا مايدخن الرجل القدو، أما في الخليج فهو للجنسين.

لقد كان سؤال صاحبنا في محله فقد لفت نظر الجميع إلى أن هذا النوع من الفن يتسم بالطابع الأفريقي من حيث تناسق الألوان أولا وكذلك من حيث اختيار ألوان معينه منسجمة مع بعضها لتشكل فن ذو طابع أفريقي، كما أن عناصر هذه اللوحات البانوراميه لعبت دورها في التكوين بشكل متناسق في تركيبات الموضوع، ما جعلتها عناصر تحمل سمات الفن الأفريقي، فإذا مانظرنا إلى تلك اللوحات الجدارية نظرة جشطالتيه (Gestaltic) شمولية متكاملة غير متفككة وغير تجزئية فإنها ستبدو لعين الناظر من أجمل الأبدعات الفنيه البانورامية وإلا فإنها ستبدو وكأنها رسوم بدائية في نظر البعض.

هذا النوع من الفن يتصل بثلاث مدارس من أنواع الفنون الجميله (Fine arts) ؛ الأول منها هو كما سبق ذكره أنه فن يميل إلى الطابع الأفريقي بشكل عام.
وأما النوع الثاني فيدخل فيه فن المنمنمات (Miniatures) وهو فن يستنزف في انجازه وقت الفنان حيث يستغرق وقتا طويلا في رسم كل منمنمه كما أنه يحتاج لطول أناة وصبر لإنجازه وهو فن دقيق لأنه فن تصغيري تكثر فيه العناصر الدقيقة والإيضاحات فتظهر صور تشكيلية تصغيرية تصور مفاهيم قصص وأفكار متواصلة.
أما النوع الثالث لهذا الفن فهو النوع الرئيسي هنا وبغض النظر عن تصنيفه فهو بشكل عام لكونه اتخذ الجدران ميدانا له فإنه يعرف بفن الجرافيتي (Graffiti) وهو فن الكتابة والرسم على الجدران. وترجع أصول هذا الفن إلى الحضارات العتيقه كحضارة القدماء المصريين -الفراعنه- وحضارة الاغريق والرومان والفينيقيين والآشوريين وغيرهم. وقد تطور هذا الفن عبر الزمن إلى أن ظهر إلينا بحلته الجديدة في القرن العشرين الماضي حين بزغ نوره من مدينة نيويورك، فهو فن فطري وطبيعي فيه يعبر الإنسان عن شعوره على جدران المباني ليظهره إلى العالم وهو نوع من الفن التمردي لأنه ظهر في الأحياء على الجدران دون تقيد بأي شروط ودون الحاجة لانتظار الرسميات. وهدف هذا الفن هو توصيل رسائل للمجتمع منها الفكرية ومنها التوعوية ومنها نشر الخبر ومنها أيضا اظهار الجانب الجمالي وكلها تصب في إطار الفن اللافت للأنظار. كما أن هذا الفن اصبح وسيلة للدعاية والإعلان. ولهذا الفن نوعان: المرسوم منه والمكتوب والمعروفان بال (grffiti tag) وكذلك ال (hand style) وعادة مانرى لمسات هذا الفن في الأماكن العامة الملحوظة على الجدران والأبواب وعند محطات القطارات وبين أزقة الأحياء وجميع الأماكن التي يرتادها الناس.

كانت تلك لحظات ممتعة بين جدران بستان ومتحف الفنان ابراهيم الميلاد من الداخل والخارج والذي لم يترك بقعة منه إلا وقد جعل منها لوحة فنية تشهد بفنه المتفرد المتميز إذ لم تشهد البلد من قبل فكرة مبتكرة (من هذا النوع) مثل فكرته الفنية هذه ولم يكتف بالرسم على جدران بستانه أو استراحته التي حولها إلى متحف فني فحسب بل راح يوسع جذوع نخيلها وأشجارها رسما وحتى الأثاث والأدوات جعل لها هوية تشهد على فنه الراقي (بصور تكاد لحسنها تتكلم).

هذا المعرض الفني لم يكن آخر وجهتنا إذ تابعنا المسير بعدها إلى وجهة أخرى. وقبل أن نذكر محطتنا الأخيره علينا أن نذكر موقع هذا المعلم الفني بالتحديد والذي كان من الواجب ذكره منذ البداية ولكني تعمدت تأخيره لأمر هام وهو ربط موقع هذا المعلم الفني بوجهتنا لمحطتنا الأخيره حيث يقع هذا المعلم في مفترق طرق بين الزاوية الجنوبية الشرقية من الخباقة وعند مدخل الخرارة الشمالي والتي هي محطتنا الأخيره في هذه النزهة، فهل سمعت عن موقع بهذا الإسم في القطيف؟ ماذا تعرف عن الخرارة؟
نترك تعريفها لتنتظرنا في الجزء التالي فتابع الجزء الثاني.

المؤرخ عبد الرسول الغريافي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *