الحفاظ على التوازن النفسي والاجتماعي أثناء أزمة كورونا وما بعدها (4) – د. رضي حسن المبيوق*

اللقاح سيعالج الجانب الصحي للبدن ولكن الآثار النفسية (قليلها أو كثيرها) قد تكون طويلة الإستمرار والبقاء وخاصة إذا تركت وشأنها. لابد أن ينال الجانب النفسي درجة كبيرة من الإهتمام، ومفردة “الجانب النفسي” عامة وأتمنى من خلال أسئلتكم أن نسلط الضوء على جوانب نفسية معينة. أتطلع بإهتمام إلى أسئلتكم ومداخلاتكم.

السؤال الرابع:
ماهو دور المجتمع والمثقفين عموما تجاه الطاقم الطبي، الذي أسميه الجيش الأبيض المحارب المتصدي لكرونا وتبعاته؟ ما هي الآليات لحفظهم نفسيا واجتماعيا ومهنيا؟

***

السؤال له جانبان: دور المجتمع والمثقفين والآخر يتعلق بآليات حفظ الطاقم نفسيا واجتماعيا ومهنيا؟

دور المجتمع:

أولا أود أن أعبر عن تقديري لكل أفراد الطاقم الطبي. المجتمع لا يستطيع أن يؤدي حقكم. أنتم حقا الجيش الأبيض المضحي بكل ما لديه لحماية الناس وإنقاذ المصابين من الموت. أنتم تعرضون أرواحكم للخطر لكي يشفى المصابون ليعودوا الى عوائلهم و محبيهم، بينما يبقى الطاقم الطبي في ساحة معركة كرونا لإنقاذ الناس من شره. فمن واجب المجتمع أن يوجه التحية للجيش الأبيض وأن لا ينسى التضحيات الجسام التي يقومون بها على مدار الساعة كل يوم. رسائل الشكر والتقدير يجب أن لا تتوقف لأنها مشجعة لمن يعملون في هذا القطاع وخاصة في هذه الظروف التي تحتم عليهم العمل لساعات أطول وفي ظروف صعبة للغاية. ك المؤسسات المجتمعية/ الأهلية: الدينية/الرياضية/الخيرية ومؤسسات الأعمال يجب أن تركز على هذا الجانب وتقدم الدعم المعنوي والمساندة وبشتى الصور والطرق. الدعم المعنوي يضاعف من صمود ومثابرة ابطال الصحة ويرفع من تفانيهم يالقيام بواجباتهم. لربما شاهدتم مقاطع فيديو من أنحاء العالم لمجموعات تاتي بسياراتها وتمر ببيت طبيب أو أحد أفراد القطاع الصحي لترسل رسالة تقدير له/لها. وعلى الرغم من أن الطاقم الطبي لا يحبذ شيء من هذا القبيل، ولكن إرسال رسائل إلكترونية للمستشفى نفسه لها دور داعم ومساند للمؤسسة ومن يعمل بها. وضعت مقطع فيديو قصير لأطفال اولاد وبنات كي يعبروا عن شكرهم وتقديرهم للطاقم الطبي ومثل هذه المقاطع لا بد أن تكثف وتستمر لما لها من قوة تأثيرية على معنويات جنود الجيش الأبيض. والدعم يشمل أيضا أسر وعوائل هؤلاء المضحون الذين تمنعهم الظروف من الإجتماع او زيارة عوائلهم. يمساندة العوائل يمكن أن ترسل رسالة مطمئنة بأن هناك مجتمع مهتم بأسرهم.
دور المثقفين:
المثقفون وهذه الكلمة عامة ينضوي تحتها الكثير من كتاب ومحاضرين وشعراء والعاملين في مجال الفن بشتى صوره اللفظي والمرئي والمكتوب وآخرين ممن لهم تأثير على رأي ومشاعر الناس ولذا عليهم أن يكثفوا جهودهم وتسليط اهتمامهم على مايقوم به القطاع الصحي/الطبي وتقديم الدعم المحسوس والمستمر حتى ننتهي من هذه الأزمة. كتابة الشعر والمقالات التي تشيد وتبجل بمن يسهرون على راحة وعلاج المجتمع ترفع من معنويات وحماس العاملين. وتسليط الكاميرا العالمية العامة والخاصة لشبكات التواصل الإجتماعي يزيد من وعي وتقدير الناس لما يقومون به من خدمات إنسانية عظيمة.
المثقفون بإمكانهم تعبئة الناس بمشاعر المودة والمساندة تجاه كل من يعمل في قطاع الصحة المقدس. آليات حفظ الطاقم الطبي نفسيا موضوع هام جدا لأن الطاقم الطبي بشر ويواجهون حالات تثير الأسى والحزن كل يوم وبدون شك هذا له تأثير سلبي قد يكون مؤقتا ولكن نسمع بأن العاملون يقضون أوقات طويلة فوق المعتاد في العمل لوجود الحاجة الكبيرة للعناية الطبية من عدد محدود من العاملين وهذا يسبب إرهاق جسمي يضاف إلى الإرهاق النفسي. تراكمات هذا الإرهاق يؤثر على الأداء العام ويأخذ مأخذه من الصحة النفسية للطاقم. هؤلاء العاملون يضحون ويعملون ليلا ونهارا لتسطيح منحنى الفيروس ولكن يجب أن لا يتم ذلك على حساب تسطيح الطاقم. لو حدث ذلك – لا سمح الله – سيكون هناك إنهيار في المؤسسة الطبية التي هي خطنا الأول للمواجهة. لا بد أن تعي إدارة المستشفيات والعيادات الطبية هذا الأمر وتقوم بما يلزم لمنع حصول الإعياء النفسي والذي له تداعيات على الجسم أيضا. تخصيص وقت فسحة لإستنشاق الهواء الطبيعي والمشي وأكل الفواكه والخضار مع استرخاء او أخذ قسط من النوم يعيد النشاط الذهني والجسدي للعامل.
آليات حفظ الطاقم إجتماعيا:
من الضروري أن تكون افراد الطاقم الطبي تتواصل مع أفراد الأسرة والأقارب والأصدقاء والزملاء وأن لا نسمح قدر المستطاع لمشاعر العزلة أن تعتري أي من العاملين في هذا القطاع وخاصة من هم في الصفوف الأمامية حيث الإحتكاك مع المرضى يكون في أعلى درجاته. بالتواصل عن بعد اذا تعسر التواصل المباشر قد يخفف وطأة العزلة.
آليات حفظ الطاقم مهنيا:
المهارات المهنية لدى العامل هي رأس ماله ولذا ينبغي أخذ الوقت الكافي للإطلاع والإستفادة من تجارب الآخرين في المناطق الأخرى من الوطن او من أنحاء العالم. بما أن هذا الفيروس لا زال عصي وغامض ، هناك الكثير من الإجراءات الطبية التي تكتشف جديرة بالتعلم والتطبيق وتكون عملية تنمية المهارات وإكتساب المعلومات حاجة متبادلة يين المجتمع الطبي بشكل عام. والقليل الذي أعرفه بأن لكل فريق طبي رئيس يقوم بإجتماعات يومية لمراجعة اداء اليوم وللمشاركة بالجديد الذي أكتسب ولمعرية أي صعوبات او تحديات والبحث في طرق لمواجهتها. مثل هذه الإجتماعات حتى لو كانت قصيرة كفيلة بإغناء ورفع مهنية الطاقم الطبي.

السؤال الخامس:

لا شك بأن تجربة كورونا وتداعياتها فريدة، ملاحظتي الأساس بأن العزل الإجتماعي مفيد لمن هو مكتشف لذاته. وفي صراع دائم مع الوقت. ولكن هذه حالة نادرة بحسب ظني، ما ألاحظه من حولي بأن الكثير يشتكي من العزل ومن حجم الوقت، قد يتم تحمل الوضع لفترة ما، ولكن ماذا لو يطول العزل، سؤالي: هل من سبيل أمثل في علم النفس إلإكتشاف الذات؟

***

دعني أشارك ببعض الكلمات عن كل مقطع ورد في المقدمة ومن ثم أتوجه للإجابة عن السؤال.

تداعيات تجربة كرونا فريدة

بالفعل إن التداعيات لأزمة كرونا فريدة من نوعها على المستوى المحلي والعالمي. وبما أن هذه الأزمة جديدة على مجتمعنا، لا الأفراد ولا المجموعات عندها رصيد تجربة سابقة تأخذ منه الإلهام والتعليمات في التعامل الأمثل معه. وهنا يأتي دور الدول في إدارة أزمة لا سابقة لها في منطقتنا. وكلما كانت إدارة الدولة حكيمة ومحكمة كلما زاد مستوى ثقة الناس فيها وخاصة إذا لمسوا الشفافية في مشاركة الحقائق والأرقام وما يجب على الناس عمله للحد من إنتشار الوباء. ومن تداعيات هذا الوباء هو خلق نوع من المؤازرة بين الجهات المسؤولة وبين الناس.

العزل الإجتماعي مفيد لمن هو مكتشف لذاته وفي صراع دائم مع الوقت ولكنها حالة نادرة

من تداعيات انتشار كرونا هو وجوب إتخاذ إجراءات وقائية وإحترازية وعلى رأسها البقاء في المنزل المتمثل في شعار “خليك في البيت!” ولكن لمتى؟ كيف يبقى في البيت من هو معتاد على روتين يومي؟ الأيام الأولى من البقاء في البيت لها بريق وطعم خاص بحيث يعطينا الشعور الكاذب بأننا في راحة من العمل او المدرسة او الإلتزام اليومي الذي يأخذنا مبكرا من البيت ويخلي سبيلنا قبل او بعد انتهاء اليوم. وسرعان ما يتغير طعم المكوث بالبيت تحت حجر يُحد من حرية التجوال والتنقل الذي أعتدنا عليه. فالناس يختلفون في طريقة تعاملهم مع العزلة. البعض يرحب بهذه الفرصة ويعتبرها ذهبية حيث تتيح له الفرصة لعمل وإنجاز ما هو شغوف بالقيام به من أعمال مرتبطة بالمهنة او بالهوايات الشخصية. والبعض يرى بأن بعد مرور الأيام الأولى تبدأ عقارب الساعة بالعناد ولا تكاد تتحرك فيشعر بطول اليوم الذي اصبح الآن مصدر ملل وضجر لا يعرف كيف يتخلص منه.

الكثير يشتكي من العزل وحجم الوقت

ولهذا نسمع عن التشكي والتضجر من الكثير. ولنا أن نفكر في تأثير الشكوى والضجر على الجو العام للبيت فإذا انتشر الملل وطغى على كل العائلة تكون إفرازاته على بعضهم البعض صعبة ولربما صعبة جدا.

قد يتم تحمل الوضع لفترة ما، ولكن ماذا لو يطول العزل!

كلما طال العزل كلما ازداد معه احتمال وصول الملل والضجر وحتى اليأس الى الذروة. ردة الفعل الطبيعية هي كظم المشاعر او التنفيس عنها. أحد العاملين في الإرشاد الأُسَري ذكر بأن المشاكل الأسرية وخاصة العنف ارتفعت نسبته في الأسابيع الأولى من العزل. وإذا طالت مدة العزل ولم تتدارك الأسر (families) بالبحث عن مخارج وطرق للتعامل السوي مع العزل كإشغال الفرد نفسه بشيئ ممتع يملؤ الفراغ.

السؤال: هل من سبيل أمثل في علم النفس لإكتشاف الذات؟

ذلك هو السؤال -كما قال شكسبير!

سأتطرق للأجابة بذكر بعض النظريات وايضاً فقرة من أحد المناجاة للإمام زين العابدين عليه السلام.

كيف نكتشف الذات؟ وماهو السبيل الأمثل لذلك؟ سبر أغوار الذات يتطلب جهد مستمر وتأمل وملاحظة لتحولات وتقلبات النفس. في علم النفس، بعض النظريات تركز على عملية التحكم الذاتي (self-regulation) ولهذه العملية عامل داخلي وآخر خارجي. العامل الداخلي هو وعي الإنسان وقوة ملاحظته وإهتمامه بما يجول في داخله من نزعات ورغبات. والعامل الخارجي هو عامل التربية الذي يبدأ بالبيت ومن ثم المدرسة والمحيط الإجتماعي العام. العوامل الخارجية اذا كانت تركز على تنمية قوى وطرق التحكم في الذات ينشأ الإنسان بعمل توأمة بين وعيه وذكائه وقدراته الأخرى مع التربية التي يتلقاها من الخارج. هنا، المحيط يعمل كالمزارع الذي يعتني بزرعه فهو يروي ويغذي بالسماد ويزيل الأعشاب وكل ما يعترض الزرع من معوقات. وكذلك في التربية، المربون يهدفون لخلق طفل مسؤول ومستقل ويزرعون الثقة في نفسه. فهكذا طفل ينشأ ويترعرع بوعي عن أهمية التحكم في الذات: التحكم في العواطف وفي السلوك.

ونظرية أخرى قريبة لنظرية التحكم الذاتي تسمى تحقيق الإرادة الذاتية (self-determination). الفرضية التي بنيت عليها هذه النظرية هي أن الفرد كائن مجبول على تحقيق ذاته. هي نزعة موجودة في فطرة الإنسان على أن يحقق ذاته ليصبح إنسانا. ولكن هذه النزعة الفطرية تمت الى بيئة تشجع على تنميتها بشكل سليم. ولهذا يعتبر الأسلوب التربوي الذي يغدق الحنان والعطف والدفئ على الطفل ولكن في نفس الوقت يرسم الحدود لكل مرحلة من النمو الذي لا يسمح للطفل بتعديها او مخالفتها. الأبوان يدركان بأن الطفل بطبيعته ينزع الى مناقشة تغيير الحدود ولهذا يستخدمون الحوار الهادئ المناسب لعمر الطفل ليدرك سبب وضع الحدود. فالنقاش يعطي الطفل الحرية للتعبير عن أرائه منذ نعومة أظفاره. مثل هذه الأجواء كفيلة بإنتاج نموذج واعي لذاته ومستمر في بناءها وتهذيبها وإكتشاف قواها.

الفقرة من مناجاة الشاكين للإمام زين العابدين عليه السلام والتي تستحق أن تكتب بماء الذهب: “كثيرة العلل، طويلة الأمل، إن مسها الشر تجزع، وإن مسها الخير تمنع، ميالة إلى اللعب واللهو، مملوك بالغفلة والسهو، تسرع بي إلى الحوبة وتسوفني بالتوبة”.

السبيل الأمثل لمعرفة الذات هو في معرفة الخصائص الدائمة لها والدخول في عملية تهذيب وتشذيب للجوانب والنزعات السلبية. في الفقرة المقتبسة من المناجاة “إن مسها الشر تجزع” وفي شر كرونا معظم الأنفس جازعة وهي ميالة للعب واللهو ولكن لا مجال لذلك في ظروف الحجر والعزلة ولذلك يسيطر عليها الملل والضجر والتشكي (والشكوى) هو عنوان هذه المناجاة العظيمة.

وهناك الكثير الذي بإمكانه أن يقال في طرق تهذيب النفس وتطويعها (وهناك كتب عدة في هذا المجال) عن طريق الإرادة الصلبة من أجل تحقيق التكامل الذاتي.

* أستاذ بجامعة شمال أيوا الأمريكية ومدير المعهد البحثي بمدينة شيكاغو.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *