{ المقدمة }
حين تفقد الجامعة اتجاهها
لم تضِع البوصلة الأكاديمية في لحظة درامية واحدة، ولم تُكسَر تحت وقع أزمة مفاجئة، بل تآكلت ببطء، بصمتٍ شبه متواطئ، حتى أصبح الاتجاه يُقاس ولا يُفهم، ويُحصى ولا يُعاش. لم يعد السؤال: إلى أين نذهب؟، بل: كم نشرنا؟ وأين؟ وبأي تصنيف؟
في قاعات جامعية حديثة، مضاءة جيدًا، تُناقش أبحاث مكتوبة بلغة منضبطة، محمّلة بالمراجع، مستوفية للشروط الشكلية كافة، لكن شيئًا ما يبدو غائبًا. لا أحد يسأل بجدية: لماذا كُتب هذا البحث؟ ما ضرورته؟ ما أثره خارج هذه القاعة؟ كأن المعرفة باتت تدور في حلقة مغلقة، تستهلك ذاتها، وتعيد إنتاج نفسها بلا أفق.
هذا الكتاب وُلد من هذا القلق.
ليس قلقًا طارئًا، ولا حنينًا إلى “زمن ذهبي” متخيّل، بل قلق باحث وأكاديمي يراقب من الداخل تحوّلات الجامعة المعاصرة، ويشعر أن هناك مسافة متزايدة بين فكرة الأكاديمية وممارستها اليومية، بين ما يُفترض أن تكون عليه الجامعة، وما أصبحت عليه فعليًا.
البوصلة: استعارة المعنى
البوصلة الأكاديمية، كما نقصدها هنا، ليست منهجًا بحثيًا، ولا دليلًا إجرائيًا، ولا لائحة أخلاقيات منشورة على موقع جامعة ما. إنها فكرة الاتجاه:
لماذا نبحث؟
لمن ننتج المعرفة؟
وما العلاقة بين الجامعة والمجتمع والحقيقة؟
حين تكون البوصلة حاضرة، قد نختلف في المناهج، في المدارس الفكرية، في الأسئلة، لكننا نعرف أننا نسير نحو معنى. وحين تضيع، يمكن لكل شيء أن يبدو صحيحًا شكليًا، بينما هو فارغ جوهريًا.
ضياع البوصلة لا يعني غياب النشاط الأكاديمي، بل على العكس:
قد يعني تضخمًا في الإنتاج، في المؤتمرات، في المجلات، في التقارير، في المؤشرات. لكنه تضخم لا يقابله بالضرورة عمق، ولا أثر، ولا جرأة معرفية.
من المعرفة إلى المؤشر
أحد أخطر تحولات الأكاديمية المعاصرة هو انتقال المعرفة من كونها غاية إلى كونها وسيلة.
وسيلة للترقية.
وسيلة للاعتماد المؤسسي.
وسيلة لتحسين موقع في تصنيف عالمي.
لا مشكلة في القياس بحد ذاته، فالمؤشرات أدوات، لكنها تصبح كارثية حين تتحول إلى غاية أخلاقية. حين يُكافأ الباحث على سرعة النشر لا على عمق السؤال، وعلى الكم لا الكيف، وعلى الامتثال لا المخاطرة الفكرية.
في هذا السياق، لا يعود مستغربًا أن تنتشر:
• أبحاث بلا سؤال حقيقي
• تكرار معرفي ممل
• مجلات تملأ الفراغ لا تضيف معنى
• باحثون يكتبون ما يُطلب، لا ما يؤمنون به
هنا لا تفشل الأكاديمية تقنيًا، بل تفشل معنويًا.
أزمة أخلاقية مقنّعة
لا يتعامل هذا الكتاب مع أزمة الأكاديمية بوصفها أزمة تمويل فقط، ولا أزمة إدارة، ولا أزمة مناهج. هذه كلها مظاهر. الأزمة الأعمق هي أزمة أخلاق معرفية.
حين يصبح الصمت أكثر أمانًا من النقد،
وحين تُكافأ المجاملة أكثر من النزاهة،
وحين يتحول الإشراف الأكاديمي إلى إجراء،
وحين يُدجّن السؤال قبل أن يُطرح،
نكون أمام مؤسسة ما تزال تعمل، لكنها لم تعد تُفكّر كما ينبغي.
الخطير في هذا النوع من الأزمات أنه لا يُحدث صدمة، بل تطبيعًا. يتعوّد الأكاديمي على ما كان يرفضه، ويتكيّف الطالب مع ما كان يستغربه، وتصبح الرداءة المنظمة جزءًا من “النظام”.
هذا الكتاب: من الداخل لا من الخارج
لا يكتب هذا الكتاب من موقع العداء للأكاديمية، ولا من خارجها. بل يكتب من داخل التجربة الأكاديمية، من القاعات، واللجان، والمراسلات، والملفات، والانتظار الطويل للقرارات، ومن لحظات الشغف القليلة التي تذكّرنا لماذا اخترنا هذا الطريق أصلًا.
هو ليس بيانًا ثوريًا، ولا تقريرًا إصلاحيًا رسميًا، ولا أطروحة فلسفية مغلقة.
إنه محاولة للفهم قبل الحكم، وللتسمية قبل المعالجة.
سيسائل هذا الكتاب:
• كيف تحوّلت الجامعة من فضاء للسؤال إلى مؤسسة للإنتاج؟
• ما الذي خسرناه حين ربحنا التنظيم؟
• كيف أثّر السوق، والسلطة، والخوف، في تشكيل المعرفة؟
• وأين يقف الأستاذ والطالب في كل هذا؟
بين الأكاديمي والتأملي
يتعمّد هذا الكتاب أن يقف في منطقة وسطى:
• يستفيد من الفكر التربوي والنقدي
• يستأنس بتجارب جامعية واقعية
• يستخدم لغة واضحة لا تقنية مفرطة
• ويترك للأسئلة أن تبقى مفتوحة حيث يجب
فالمعرفة التي لا تترك أثرًا في القارئ، لا تقل خطورة عن المعرفة غير الدقيقة.
عن العالم العربي (ولماذا لا يمكن تجاهله)
رغم أن كثيرًا من مظاهر ضياع البوصلة الأكاديمية عالمية، فإن السياق العربي يضيف تعقيدًا خاصًا:
• جامعات تُستنسخ نماذجها دون روحها
• بحث علمي معزول عن قضايا المجتمع
• علاقة ملتبسة بين الجامعة والسلطة
• إشكالية اللغة، والترجمة، والإنتاج المعرفي
سيحاول الكتاب مقاربة هذا الواقع دون خطاب جلد الذات، ودون تبرير الفشل باسم الخصوصية.
ما الذي لا يعد به هذا الكتاب؟
لا يعد بحلول سحرية.
ولا بخارطة إصلاح جاهزة للتنفيذ.
ولا باستعادة جامعة مثالية لم توجد يومًا.
لكنه يعد بشيء أكثر تواضعًا وأهم:
إعادة طرح السؤال الأخلاقي في قلب الأكاديمية.
في الختام: لماذا الآن؟
لأن الصمت الطويل تحوّل إلى مشاركة غير مباشرة.
ولأن التكيّف المستمر يقتل المعنى.
ولأن الجامعة، مهما بدت محصّنة، ليست محايدة أخلاقيًا.
هذا الكتاب دعوة للتوقف، لا للهدم.
للتأمل، لا للانسحاب.
ولاستعادة البوصلة، حتى لو لم نعرف الطريق كاملًا بعد.

________________________________________
{ الفصل الأول }
ما الأكاديمية؟ سؤال المعنى قبل المؤسسة
قبل أن تكون الأكاديمية مباني إسمنتية حديثة، أو شعارات “التميّز والجودة”، أو مواقع إلكترونية مزدحمة باللوائح، كانت — في أصل فكرتها — وعدًا بالمعنى. غير أن هذا الوعد، في كثير من الجامعات العربية اليوم، يبدو مؤجلًا باستمرار، مؤجَّلًا باسم “المرحلة”، أو “الظروف”، أو “متطلبات الاعتماد”.
في إحدى الجامعات العربية الكبرى، تُعلّق لافتة عند مدخل الكلية تعلن بفخر أن المؤسسة “بحثية من الطراز الأول”. غير أن السؤال الذي نادرًا ما يُطرح داخل المكاتب هو: ما نوع البحث الذي يُراد؟ ولماذا؟ فالبحث هنا لا يُقاس بما يضيفه، بل بما يحققه إداريًا.
الأكاديمية بوصفها فكرة… والجامعة بوصفها إجراء
تُدرّس في البرامج التمهيدية للدراسات العليا مقررات عن “منهجية البحث العلمي”، تُشرح فيها بدقة كيفية كتابة الإشكالية، وصياغة الفرضيات، وتوثيق المراجع. غير أن الطالب، منذ الفصل الأول، يتعلّم درسًا غير مكتوب:
السؤال الجيد ليس ما يُقلق الواقع، بل ما يمرّ بسهولة عبر اللجنة.
هكذا ينشأ انفصال مبكر بين فكرة الأكاديمية كما تُدرّس، والجامعة كما تُمارس. الفكرة تتحدث عن نقد، واستقلالية، ومغامرة فكرية؛ أما الممارسة فتعلي من شأن السلامة، والتكرار، والمواضيع “المجرَّبة”.
في هذا السياق، لا يعود مستغربًا أن تتشابه عناوين الرسائل الجامعية إلى حدّ التماهي، وأن يُعاد إنتاج الموضوع نفسه بصيغ مختلفة، لا لأن الأسئلة نُضجت، بل لأن المخاطرة غير مرغوبة.
التنظيم الذي ابتلع المعنى
في جامعة عربية أخرى، تُرسل إلى أعضاء هيئة التدريس في بداية كل عام قائمة مفصلة: عدد الأبحاث المطلوب للنشر، نوع المجلات المعترف بها، معامل التأثير الأدنى المقبول. لا تُطرح هذه المتطلبات بوصفها اقتراحات، بل بوصفها شروطًا للبقاء الأكاديمي.
لا تكمن المشكلة في وجود معايير، بل في غياب النقاش حولها. لا أحد يسأل إن كانت هذه المعايير مناسبة للتخصصات الإنسانية، أو للسياق المحلي، أو لطبيعة الأسئلة المطروحة. المهم أن تُستوفى الشروط، وأن يُحدَّث الملف.
أحد الأساتذة يعلّق، في حديث جانبي:
“لم أعد أبحث فيما يهمني، بل فيما أستطيع نشره بسرعة”.
هذه الجملة، العابرة ظاهريًا، تختصر تحوّلًا عميقًا: من باحث يطرح سؤالًا، إلى موظف يُدير إنتاجًا.
السؤال الذي يُهذَّب حتى يفقد حدّته
في مناقشة رسالة ماجستير، يقترح الطالب فصلًا نقديًا يربط موضوعه بسياق اجتماعي حساس. يُنصَح، بلطف شديد، بتخفيف اللغة، وتأجيل بعض الأفكار إلى “أبحاث لاحقة”. لا يُقال له إن الفكرة خاطئة، بل إنها “غير مناسبة في هذه المرحلة”.
يتعلم الطالب سريعًا أن الذكاء الأكاديمي لا يكمن في عمق التحليل، بل في قراءة المزاج العام لـ اللجنة. هكذا لا يُقمع السؤال، بل يُعاد تشكيله ليصبح غير مزعج.
ومع الوقت، لا يعود الطالب بحاجة إلى التوجيه؛ يتولى هو بنفسه رقابة أسئلته.
الحياد الأكاديمي حين يصبح صمتًا
في سياق عربي تتشابك فيه الجامعة مع الدولة، والسوق، والتمويل، يصبح الحديث عن “الحياد الأكاديمي” ملتبسًا. فباسم الحياد، تُستبعد موضوعات كاملة من البحث، وتُهمّش مقاربات نقدية، ويُعاد تعريف “العلمي” بوصفه ما لا يُحرج أحدًا.
لا يُفرض هذا الإقصاء دائمًا بقرارات مكتوبة، بل بثقافة غير معلنة:
ما يُنصح به، وما يُتجاهل، وما لا يُقال صراحة.
وهكذا يتحول الحياد من فضيلة منهجية إلى آلية أمان.
الأستاذ والطالب: علاقة مثقلة لا متواطئة
في كثير من الجامعات العربية، يُثقل الأستاذ بعبء تدريسي وإداري كبير، ويُطلب منه في الوقت نفسه نشر أبحاث “عالمية”، والإشراف على عدد كبير من الرسائل. في هذا الضغط، تصبح العلاقة مع الطالب علاقة إدارة وقت، لا علاقة تكوين فكري.
الطالب، من جهته، يشعر أن الأستاذ غير متاح، وأن البحث عبء يجب الانتهاء منه. لا يعود الإشراف مساحة للحوار، بل سلسلة ملاحظات تقنية تهدف إلى اجتياز المرحلة.
لا يحدث هذا بسبب تقصير أخلاقي فردي، بل بسبب نظام يجعل الجودة ترفًا.
الأكاديمية وغياب الذاكرة النقدية
حين تقع أزمات اجتماعية أو فكرية كبرى، نادرًا ما تكون الجامعة العربية في طليعة النقاش العام. تصدر البيانات، وتُعقد الندوات الشكلية، لكن التحليل العميق يبقى محصورًا، أو مؤجلًا، أو مغلّفًا بلغة عامة.
تفقد الأكاديمية، هنا، دورها بوصفها ذاكرة نقدية للمجتمع، وتتحول إلى مؤسسة تشرح الواقع بعد أن يهدأ، لا وهي في قلبه.
هل هذا قدر محتوم؟
لا يقدّم هذا الفصل هذه الأمثلة بوصفها صورة واحدة ثابتة لكل الجامعات العربية، ولا ينكر وجود تجارب جادة ومقاومة داخل هذا الواقع. لكنه يشير إلى نمط آخذ في التكرار، لا يمكن تجاهله باسم الاستثناءات.
ضياع البوصلة الأكاديمية، في السياق العربي، ليس غيابًا للذكاء، ولا للفكر، بل غياب لشروط الجرأة.
خاتمة الفصل
في استعادة سؤال الأكاديمية، لا نبحث عن نموذج مثالي مستورد، ولا عن عودة رومانسية إلى الماضي، بل عن إعادة وصل بين المعرفة والمعنى، بين السؤال وسياقه، وبين الجامعة والمجتمع الذي تدّعي خدمته.
________________________________________
{ الفصل الثاني }
من المعرفة إلى المؤشر: حين يصبح القياس غاية
لم تدخل المؤشرات إلى الأكاديمية بوصفها خصمًا للمعرفة، بل بوصفها أداة لتنظيمها وقياس أثرها. غير أن ما بدأ وسيلة مساعدة، تحوّل تدريجيًا إلى لغة وحيدة للفهم والتقييم. لم نعد نسأل: ماذا أضفنا؟ بل: كم نشرنا؟ وأين؟ وبأي معامل تأثير؟
هنا لا تختفي المعرفة، لكنها تُعاد صياغتها لتناسب ما يمكن قياسه.
منطق القياس: حين تتكلم الأرقام نيابة عن المعنى
في كثير من الجامعات العربية، يُختصر الأداء الأكاديمي في جداول واضحة:
عدد الأبحاث، عدد الاستشهادات، تصنيف المجلة، ترتيب الجامعة. تبدو هذه الجداول محايدة، بل علمية، لكنها تخفي تحوّلًا جوهريًا: نقل الحكم من العقل الأكاديمي إلى الخوارزمية.
لا يُسأل البحث عمّا يقوله، بل عمّا يضيفه إلى الرصيد الرقمي للمؤسسة أو للفرد. ومع الوقت، يصبح الباحث واعيًا بأن قيمة عمله لا تتحدد في قاعة الدرس أو في النقاش العلمي، بل في خانة رقمية ضمن تقرير سنوي.
أحد الأساتذة يعلّق، بنبرة لا تخلو من مرارة:
“البحث الذي لا يدخل التقرير، كأنه لم يُكتب”.
التصنيفات العالمية: الحلم الذي أعاد تشكيل الجامعة
لا يمكن فهم هيمنة المؤشرات دون التوقف عند هوس التصنيفات العالمية. في جامعات عربية كثيرة، أصبح تحسين الموقع في التصنيف هدفًا استراتيجيًا معلنًا، تُرصد له الميزانيات، وتُعاد هندسة السياسات على أساسه.
في هذا السياق:
• تُفضّل التخصصات القابلة للنشر السريع
• تُهمَّش الأبحاث المحلية أو باللغة العربية
• يُعاد تعريف “العالمي” بوصفه ما يُنشر في مجلات محددة
لا يعني هذا أن التصنيفات بلا قيمة، بل أن تحويلها إلى بوصلة وحيدة يُفرغ الأكاديمية من تنوّعها. فليس كل سؤال مهم قابلًا للتدويل، وليس كل بحث نافع قابلًا للقياس السريع.
النشر من أجل النشر
في ظل هذا المنطق، نشأ نمط جديد من البحث: البحث المصمَّم للنشر، لا للفهم. يُختار الموضوع لأنه “آمن”، ويُصاغ السؤال لأنه “مطلوب”، ويُختصر النقاش لأنه “غير ضروري”.
في برامج الدراسات العليا، يتعلّم الطلبة بسرعة:
• أي المجلات أسهل قبولًا
• أي المناهج أقل إثارة للأسئلة
• أي العناوين أكثر جاذبية للمحررين
وهكذا تتحوّل الكتابة الأكاديمية إلى مهارة تكتيكية، لا إلى ممارسة فكرية. لا يعود الفشل المعرفي ممكنًا، لأنه مكلف مهنيًا.
الكمّ ينتصر على الكيف
في جامعة عربية أخرى، يُقيَّم عضو هيئة التدريس في نهاية العام بناءً على عدد النقاط التي جمعها من النشر. لا فرق كبير بين بحث أحدث نقاشًا علميًا، وآخر لم يقرأه أحد، ما داما متساويين في “النقاط”.
هنا يُختزل الزمن الأكاديمي:
البحث الجيد يحتاج وقتًا، والمؤشر لا ينتظر.
ومع الوقت، يتشكّل نوع من الرداءة المنتظمة: إنتاج مستمر، بلا مفاجآت، بلا مخاطرة، بلا أسئلة كبرى.
أثر المؤشر على الطالب
لا يقتصر أثر هذا التحوّل على الأساتذة. الطالب، خصوصًا في الدراسات العليا، يتشرّب هذا المنطق منذ البداية. يتعلّم أن قيمة أطروحته ليست في عمقها، بل في قابليتها للتحويل إلى مقال منشور.
في بعض الجامعات، يُشترط على طالب الدكتوراه نشر مقال أو أكثر قبل المناقشة. يبدو الشرط محفّزًا، لكنه في الممارسة يدفع الطالب إلى:
• تجزئة أطروحته قبل نضجها
• تبسيط أسئلته
• تأجيل الجرأة الفكرية إلى ما بعد التخرج
هكذا يُستنزف البحث قبل أن يكتمل.
المؤشر بوصفه سلطة صامتة
ما يجعل المؤشرات خطيرة ليس طابعها الكمي، بل قدرتها على العمل دون مساءلة. لا أحد يناقش معيار المجلة، أو عدالة قواعد الفهرسة، أو تحيّز اللغة والسياق. تُقدَّم هذه الأنظمة بوصفها “معايير عالمية”، وكأنها خارج التاريخ والسياسة.
لكن المؤشر ليس محايدًا:
• يفضّل لغة على أخرى
• وسياقًا على آخر
• ونوعًا من الأسئلة على غيره
حين تخضع الجامعة كليًا لهذا المنطق، فإنها لا تفقد استقلالها الإداري فحسب، بل تتنازل عن سيادتها المعرفية.
هل القياس ضرورة أم فخ؟
ليس الهدف من هذا الفصل الدعوة إلى إلغاء القياس، ولا إلى الفوضى الأكاديمية. فالمساءلة ضرورية، والجودة لا تُترك للنوايا الحسنة. لكن السؤال الحقيقي هو: من يقيس؟ ولماذا؟ وبأي معايير؟
حين يُفصل القياس عن المعنى، يتحوّل إلى فخ. وحين يُدمج في رؤية معرفية واضحة، يمكن أن يكون أداة نافعة.
المشكلة ليست في الرقم، بل في عبادته.
استعادة الحكم الأكاديمي
أحد مظاهر ضياع البوصلة أن الحكم الأكاديمي — بوصفه قدرة بشرية نقدية — تراجع لصالح أنظمة تقييم آلية. لم يعد يُوثق بخبرة الأستاذ، ولا بنقاش اللجنة، بقدر ما يُوثق بقائمة معترف بها.
استعادة البوصلة تبدأ من هنا: من إعادة الاعتبار للحكم العلمي المسؤول، القابل للنقاش، لا للرقم الصامت.
خاتمة الفصل
حين تصبح المؤشرات لغة الأكاديمية الوحيدة، تفقد المعرفة قدرتها على المفاجأة، وعلى النقد، وعلى الخروج عن المسار. لا تموت الجامعة، لكنها تدخل في حالة إدارة دائمة.
في الفصل التالي، سننتقل من المؤشر بوصفه أداة، إلى سؤال أعمق:
هل أزمة البحث العلمي أزمة منهج، أم أزمة ضمير؟
________________________________________
{ الفصل الثالث }
البحث العلمي بلا سؤال: أزمة منهج أم أزمة ضمير؟
يُفترض أن يكون البحث العلمي فعل قلق. قلقًا معرفيًا يدفع الباحث إلى السؤال، وإلى الشك، وإلى اختبار المسلّمات. لكن ما نشهده في كثير من السياقات الأكاديمية المعاصرة — العربية منها على وجه الخصوص — هو بحث بلا قلق، وبلا توتر، وبلا دهشة. بحث يؤدي وظيفته الشكلية، ثم ينتهي.
هنا لا يعود السؤال: هل نُتقن المنهج؟
بل: هل ما يزال لدينا ما نسأل عنه بصدق؟
حين يصبح المنهج قناعًا
في قاعات الدراسات العليا، تُدرَّس المناهج البحثية بدقة: الوصفي، التحليلي، التجريبي، المقارن. يتعلّم الطالب كيف يختار الأداة المناسبة، وكيف يبرّر اختياره نظريًا. لكن خلف هذا الإتقان الشكلي، يتوارى سؤال أبسط وأكثر إزعاجًا: لماذا هذا البحث بالذات؟
كثير من الأبحاث العربية المعاصرة صحيحة منهجيًا، لكنها فارغة دلاليًا. لا لأنها سيئة الصياغة، بل لأنها لا تنطلق من إشكالية حقيقية. المنهج هنا لا يكشف الواقع، بل يحمي الباحث من مواجهته.
أحد المشرفين يعلّق، في جلسة غير رسمية:
“المنهج ممتاز، لكن لا أشعر أن الباحث معنيّ بما يكتب”.
هذه المفارقة تلخّص الأزمة: إتقان الأدوات مع غياب الالتزام.
الإشكالية المصنَّعة
في عدد غير قليل من الرسائل الجامعية، تبدو الإشكالية وكأنها أُضيفت لاحقًا لإرضاء النموذج. تُصاغ بأسلوب تقريري، وتُستخرج من فجوة شكلية في الأدبيات، لا من حاجة معرفية أو اجتماعية.
يتعلّم الطالب أن الإشكالية ليست سؤالًا يعيش معه، بل فقرة يجب أن “تُكتب جيدًا”. ومع الوقت، يتحوّل البحث إلى تمرين لغوي ومنهجي، لا إلى مسار تفكير.
هنا لا يفشل المنهج، بل يُساء استخدامه. يصبح الإطار النظري ديكورًا، والمراجع وسيلة إقناع، لا شركاء في النقاش.
الضمير البحثي: الغائب الحاضر
ما لا يُدرَّس عادة في مقررات المنهجية هو الضمير البحثي: ذلك الشعور الداخلي بأن ما نكتبه يجب أن يكون ضروريًا، صادقًا، ومتحمّلًا لمسؤوليته المعرفية.
الضمير البحثي لا يُختزل في تجنّب السرقة العلمية، رغم أهمية ذلك. إنه يتعلّق بأسئلة أعمق:
• هل أكتب ما أؤمن به؟
• هل أختار هذا الموضوع لأنه مهم، أم لأنه آمن؟
• هل أضيف معرفة، أم أملأ فراغًا إداريًا؟
في غياب هذا الضمير، يمكن للبحث أن يكون نظيفًا شكليًا، لكنه خواء أخلاقيًا.
الخوف بوصفه موجّهًا للبحث
في سياق عربي، لا يمكن تجاهل أثر الخوف في تشكيل البحث العلمي. خوف من الرفض، من التعقيد، من الإطالة، من التأويل، من سوء الفهم. هذا الخوف لا يُفرض دائمًا بقرارات صريحة، بل يتسلل عبر النصائح، والتلميحات، والتجارب السابقة.
“هذا الموضوع حساس”.
“لماذا لا تختار زاوية أبسط؟”
“قد تواجه صعوبة في النشر”.
هذه العبارات، المتداولة بحسن نية أحيانًا، تُعيد توجيه البحث بعيدًا عن مناطقه الحقيقية.
وهكذا لا يُمنع السؤال، بل يُستبدل.
البحث بوصفه سيرة ذاتية مهنية
في ظل منطق المؤشر والترقية، يتحوّل البحث العلمي إلى سيرة ذاتية مقنّعة. يُكتب لا ليُقرأ، بل ليُحسب. لا ليُناقش، بل ليُدرج في ملف.
في هذه الحالة، يصبح الباحث شديد الحرص على صورته المهنية، وأقل استعدادًا لتحمّل كلفة السؤال الصعب. فالخطأ المعرفي يمكن تصحيحه، لكن الخطأ المهني قد لا يُغتفر.
هنا تتقدّم البراغماتية على الحقيقة.
هل المشكلة في الباحث الفرد؟
قد يبدو من السهل إلقاء اللوم على الباحثين: اتهامهم بالكسل، أو الانتهازية، أو غياب الشغف. لكن هذا التفسير يُغفل السياق. فالباحث يعمل داخل نظام يكافئ الامتثال، ويعاقب الاختلاف، ويقيس النجاح بآليات ضيقة.
لا يُلغى دور المسؤولية الفردية، لكنه يُفهم ضمن بنية أوسع. حين يُدفع الباحث إلى الاختيار بين الصدق المعرفي والاستقرار المهني، لا يكون الخيار أخلاقيًا خالصًا.
استعادة السؤال: من أين تبدأ؟
استعادة البوصلة البحثية لا تبدأ بتغيير المناهج، ولا بتكثيف الورش التدريبية، بل بإعادة الاعتبار للسؤال بوصفه فعل شجاعة. شجاعة قول: هذا الموضوع مهم، حتى لو لم يكن رائجًا. وهذا السؤال يستحق الوقت، حتى لو لم يُكافأ فورًا.
يتطلّب ذلك:
• إشرافًا يحمي السؤال بدل تهذيبه
• لجانًا تقوّم الفكرة لا سلامتها فقط
• مؤسسات تقبل بالبطء حين يكون ضروريًا
خاتمة الفصل
حين نفصل البحث العلمي عن الضمير، يتحوّل إلى تقنية بلا روح. وحين نفصل المنهج عن السؤال، يصبح قناعًا للفراغ. ليست الأزمة في أدواتنا، بل في علاقتنا بما نكتب.
________________________________________
{ الفصل الرابع }
الجامعة بين السوق والسلطة: استقلال مُعلّق
لم تكن الجامعة يومًا كيانًا منزّهًا عن محيطها، ولا جزيرة معزولة عن الاقتصاد أو السياسة. غير أن التحدي المعاصر لا يكمن في وجود علاقة بين الجامعة والسوق أو السلطة، بل في اختلال ميزان هذه العلاقة، حتى باتت الأكاديمية في كثير من الأحيان تابعة، لا شريكة نقدية.
حين تُدار الجامعة بمنطق السوق، وتُراقَب بمنطق السلطة، يصبح استقلالها شعارًا أكثر منه ممارسة.
السوق: حين تُقاس المعرفة بعائدها
في عدد متزايد من الجامعات العربية، يُعاد تعريف “النجاح الأكاديمي” بلغة اقتصادية: القابلية للتوظيف، العائد المالي، الشراكات الصناعية، التمويل الخارجي. لا يُقدَّم هذا التحوّل بوصفه خيارًا، بل بوصفه ضرورة تفرضها “متطلبات العصر”.
تُشجَّع التخصصات التي تعد بسوق عمل واضح، وتُهمَّش مجالات معرفية لا تملك لغة تبرير اقتصادية مباشرة. لا يعني هذا أن التعليم يجب أن ينفصل عن الواقع الاقتصادي، لكن الخطورة تكمن حين يصبح السوق هو المرجع الوحيد للقيمة.
في هذا السياق، تُسأل الجامعة عمّا تقدّمه للاقتصاد، لا عمّا تقوله للحقيقة.
الطالب: من متعلّم إلى “عميل”
أحد أكثر التحولات دلالة هو تغيّر صورة الطالب. لم يعد يُنظر إليه بوصفه شريكًا في المعرفة، بل بوصفه مستفيدًا من خدمة تعليمية. تتسلل لغة “الرضا”، و“التجربة”، و“المنتج التعليمي” إلى الخطاب الجامعي.
في بعض الجامعات العربية الخاصة، يُمارَس ضغط غير معلن على الأستاذ لتخفيف متطلبات المقرر، أو تجنّب الصرامة، حفاظًا على “رضا الطالب”. لا يُقال ذلك صراحة، لكنه يُفهم من السياق.
هكذا يُعاد تشكيل العلاقة التعليمية:
المعرفة لا تُطلب لذاتها، بل بما لا يُزعج المستهلك.
البحث المموَّل: الأسئلة التي لا تُطرح
حين يعتمد البحث العلمي على التمويل الخارجي، تتغير خريطته. لا تُطرح كل الأسئلة، بل تلك التي يمكن تمويلها. لا يُقال للباحث: لا تبحث في هذا الموضوع، لكن يُقال له ضمنيًا: هذا لن يجد دعمًا.
في السياق العربي، حيث التمويل البحثي محدود أصلًا، يصبح الباحث أكثر حذرًا في اختيار موضوعاته. تُفضَّل المشاريع التطبيقية السريعة، وتُؤجَّل الأسئلة النقدية الطويلة النفس.
التمويل هنا لا يفرض رقابة مباشرة، بل يعيد توجيه الخيال البحثي.
السلطة: الحضور الصامت
إلى جانب السوق، تقف السلطة بوصفها فاعلًا لا يُذكر كثيرًا، لكنه حاضر بقوة. ليس بالضرورة عبر المنع، بل عبر تشكيل المناخ العام. ما يُشجَّع، وما يُتجاهل، وما يُعتبر “غير مناسب”.
في جامعات عربية رسمية، تُحدَّد أولويات البحث بما ينسجم مع الخطاب العام للدولة. لا يُطلب من الباحث أن يمدح، بل أن يتجنّب الإحراج. وهنا يصبح الحياد أداة للتكيّف.
لا تُقمع المعرفة، لكنها تُفرَّغ من حدّتها.
الاستقلال الأكاديمي: مفهوم بلا أدوات
يُتداول مصطلح “الاستقلال الأكاديمي” بكثرة في الوثائق الرسمية، لكن نادرًا ما يُترجم إلى آليات حماية حقيقية. فالاستقلال لا يتحقق بالنصوص، بل بقدرة الأستاذ والباحث على:
• اختيار موضوعاته دون خوف
• نقد السياسات دون عقاب
• العمل دون ابتزاز إداري أو مالي
حين تغيب هذه الشروط، يصبح الاستقلال ادعاءً حسن النية.
الإدارة الأكاديمية: الوسيط المرهَق
تقف الإدارة الجامعية غالبًا في موقع وسيط بين مطالب السوق، وضغوط السلطة، وتوقعات الأكاديميين. في هذا الموقع، تميل الإدارة إلى تبنّي لغة الأمان: الامتثال، تجنّب المخاطرة، تقليل الجدل.
لا يُنظر إلى ذلك بوصفه خيانة، بل بوصفه “واقعية”. لكن هذه الواقعية، حين تتحول إلى قاعدة، تفرغ الجامعة من دورها النقدي.
ماذا تخسر الجامعة؟
حين تُدار الجامعة بهذا الشكل، تخسر:
• قدرتها على إنتاج معرفة مزعجة
• ثقة المجتمع بوصفها صوتًا مستقلًا
• شغف الأكاديميين الأكثر التزامًا
ولا يحدث هذا فجأة، بل عبر تراكم تنازلات صغيرة، مبرَّرة في لحظتها.
مقاومات صامتة
مع ذلك، لا يخلو المشهد من مقاومة. أساتذة يصرّون على تدريس نصوص صعبة، وباحثون يكتبون خارج الموضة، وطلبة يطرحون أسئلة غير مريحة. هذه الممارسات لا تصنع عناوين، لكنها تحافظ على جذوة المعنى.
خاتمة الفصل
ليست المشكلة في السوق ولا في السلطة بحد ذاتهما، بل في غياب التوازن. حين تفقد الجامعة قدرتها على التفاوض النقدي مع محيطها، تصبح تابعة. وحين تفقد استقلالها، تفقد بوصلتها.
________________________________________
{ الفصل الخامس }
العالم العربي: ضياع طارئ أم بنية متجذّرة؟
قد يبدو ضياع البوصلة الأكاديمية، في العالم العربي، نتيجة طبيعية لأزمات معاصرة: نقص التمويل، التوسع الكمي في التعليم العالي، الضغوط السياسية، أو التأخر التقني. غير أن هذه التفسيرات، على أهميتها، لا تلامس الجذر الأعمق. فالسؤال الحقيقي ليس: لماذا تعاني الجامعة العربية؟ بل: لماذا يتكرر العطب ذاته رغم تغيّر الظروف؟
هنا، لا نكون أمام أزمة طارئة، بل أمام بنية تُعيد إنتاج نفسها.
تاريخ بلا تراكم معرفي
إحدى السمات اللافتة في التجربة الأكاديمية العربية هي ضعف التراكم. تُنشأ الجامعات، وتُغلق برامج، وتُعدّل لوائح، لكن نادرًا ما يُبنى على معرفة سابقة. يبدأ كل جيل تقريبًا من الصفر، أو يظن ذلك.
لا يعود السبب فقط إلى ضعف التوثيق، بل إلى غياب تقليد أكاديمي نقدي مستمر. تُستورد النماذج، وتُطبّق بسرعة، دون أن تتحول إلى خبرة متجذّرة. وحين تفشل، يُستبدل بها نموذج آخر، دون مساءلة حقيقية.
هكذا تصبح الجامعة العربية في حالة إصلاح دائم، بلا ذاكرة إصلاح.
الاستيراد بوصفه حلًا
تُقدَّم كثير من السياسات الأكاديمية في العالم العربي بوصفها “تحديثًا” أو “مواءمة مع المعايير العالمية”. تُنقل أنظمة الاعتماد، والتصنيفات، ونماذج الحوكمة، بلغة محايدة، وكأنها حلول تقنية.
لكن هذه النماذج لا تنتقل وحدها، بل تحمل خلفها سياقات ثقافية، وتاريخية، ومعرفية. وحين تُطبّق دون مساءلة، تتحول إلى قوالب فارغة. لا تُنتج جودة، بل امتثالًا.
النتيجة جامعة تشبه غيرها شكليًا، لكنها بلا روح محلية، ولا مشروع معرفي واضح.
اللغة: معرفة مؤجَّلة
تُشكّل اللغة إحدى أعقد إشكاليات الأكاديمية العربية. فاللغة العربية حاضرة في التدريس، لكنها غائبة في البحث المعترف به دوليًا. ويُطلب من الباحث أن يكتب بلغة أخرى ليُحسب، ثم يُلام على ضعفه في التأثير المحلي.
ينشأ بذلك انفصام معرفي:
بحث يُكتب للخارج،
وتدريس يُقدَّم للداخل،
ولا جسر حقيقي بينهما.
لا تُحسم هذه الإشكالية بنقاش جاد حول دور اللغة في إنتاج المعرفة، بل بتسويات عملية تُؤجّل السؤال.
الجامعة والسلطة: علاقة طويلة الأمد
في كثير من البلدان العربية، لم تتشكّل الجامعة الحديثة بوصفها فضاءً مستقلًا، بل بوصفها جزءًا من مشروع الدولة. هذا الارتباط التاريخي جعل من الصعب على الجامعة أن تطوّر تقليدًا نقديًا ذاتيًا.
لا يعني هذا أن كل جامعة عربية خاضعة مباشرة، لكن يعني أن حدود الممكن كانت، ولا تزال، واضحة. ومع الوقت، لا تعود الرقابة خارجية فقط، بل داخلية مُتعلَّمة.
يتعلم الأكاديمي أين يقف، دون أن يُقال له.
الخوف من السؤال الكبير
تتجنّب كثير من الأبحاث العربية الأسئلة الكبرى: سؤال العدالة، السلطة، الهوية، المعرفة، الدين، التاريخ. لا لأنها غير مهمة، بل لأنها مكلفة. يُفضَّل الاشتغال على جزئيات تقنية، أو قضايا “آمنة”.
هكذا تُجزّأ المعرفة، ويغيب المشروع الفكري الجامع. لا تتكوّن مدارس فكرية، بل أفراد يعملون في عزلة.
التعليم العالي كأداة لا كفضاء
يُنظر إلى التعليم العالي في كثير من السياسات العربية بوصفه أداة: للتنمية، للتهدئة الاجتماعية، للتوظيف، للوجاهة. نادرًا ما يُنظر إليه بوصفه فضاءً مستقلًا لإنتاج المعنى.
حين تُختزل الجامعة في وظيفتها، تفقد قدرتها على مساءلة تلك الوظيفة ذاتها.
هل من استثناءات؟
لا ينكر هذا الفصل وجود تجارب جامعية عربية جادة، ولا مبادرات بحثية شجاعة، ولا أفرادًا يحافظون على النزاهة والمعنى. لكنها غالبًا تعمل رغم البنية، لا بفضلها. وتبقى هشّة، مرتبطة بأشخاص، لا بأنظمة.
وحين يغادر هؤلاء، يتبخر الأثر.
من العَرَض إلى البنية
ضياع البوصلة الأكاديمية في العالم العربي ليس مجرد خلل إداري، ولا نتيجة نقص كفاءات، بل تعبير عن علاقة مأزومة بالمعرفة ذاتها. معرفة نريد نتائجها، لا أسئلتها. فوائدها، لا قلقها.
ما لم يُعاد طرح سؤال المعرفة بوصفه سؤالًا أخلاقيًا وسياسيًا وثقافيًا، ستظل كل الإصلاحات سطحية.
خاتمة الفصل
ليست الجامعة العربية متأخرة لأنها عربية، ولا لأنها فقيرة فقط، بل لأنها لم تُمنح بعد حقها الكامل في أن تكون جامعة. فضاءً للسؤال، لا مجرد مؤسسة للتأهيل.
________________________________________
{ الفصل السادس }
استعادة البوصلة الأكاديمية: بين الواقعية والاختيار
بعد أن تتبعنا في الفصول السابقة مسار ضياع البوصلة الأكاديمية: من المؤشرات والرقميات، إلى المنهج بلا سؤال، ومن تأثير السوق والسلطة على الجامعة، إلى اغتراب الأستاذ والطالب، وانتهاءً بالبنية المكرّسة في العالم العربي، يبقى السؤال النهائي: هل يمكن استعادة البوصلة؟، وكيف؟:
أولًا: إعادة الاعتبار للمعنى
استعادة البوصلة تبدأ بإعادة الاعتبار للمعنى قبل الأداء، للسؤال قبل التقرير، للفكر قبل المؤشر.
• أن يعود البحث ليس مجرد أرقام ونقاط، بل رحلة كشف واستفهام.
• أن يعود التدريس ليس مجرد نقل محتوى، بل بناء سؤال في ذهن الطالب.
المعنى هنا هو البوصلة نفسها: ما الذي يجعل الأكاديمية جديرة بالوجود؟ وما الذي يبرر أن نضحي من أجله؟
ثانيًا: حماية الاستقلال داخل البنية
لا يكفي التحدث عن الاستقلال الأكاديمي بوصفه شعارات. يجب بناء أدوات حقيقية:
• لجان تقييم شفافة، تقدر الجودة والمعنى، لا مجرد الامتثال.
• سياسات تمويل تسمح بالبحث الجريء بعيدًا عن المصلحة الفورية.
• فضاءات للنقاش الحر داخل الجامعة، حتى لو كانت غير “مريحة”.
الاستقلال لا يُعطى، بل يُمارس ويُحمى يوميًا.
ثالثًا: إصلاح العلاقة بين الأستاذ والطالب
إعادة البوصلة تعني إعادة الحياة إلى العلاقة بين الأستاذ والطالب:
• الأستاذ ليس مدير مهام، بل مرشد معرفي.
• الطالب ليس مستهلكًا، بل شريك في البناء.
• الوقت والمساحة للفكر الحر يجب أن يكونا جزءًا من المنهج، وليس رفاهية.
هذه العلاقة هي قلب الجامعة، وأي محاولة لإصلاح الأكاديمية بدونها ستكون ناقصة.
رابعًا: مواجهة السوق والسلطة بوعي
لا يمكن استعادة البوصلة بمعزل عن محيط الجامعة. لكن يمكن مواجهة الضغوط بوعي:
• اختيار المعارك: تحديد ما يمكن التفاوض عليه وما لا يمكن.
• تطوير مشاريع بحثية تجمع بين الفائدة والمساءلة الفكرية.
• بناء شبكات دعم داخل الجامعة وخارجها تحمي استقلال القرار.
الوعي هنا يعني معرفة حدود الحرية المتاحة، واستثمارها بحكمة، لا الانكفاء والخضوع التام.
خامسًا: الثقافة الجامعية كنظام
استعادة البوصلة تتطلب ثقافة جامعية جديدة، تتجاوز القوانين واللوائح:
• ثقافة تشجع السؤال الصعب، وليس الامتثال المريح.
• ثقافة تثمّن العمق والمعنى، وليس الكم فقط.
• ثقافة تجعل الأخطاء فرصة للتعلم، لا تهديدًا وظيفيًا.
هذه الثقافة تُنشأ تدريجيًا، من خلال ممارسات صغيرة، لكنها مستمرة، ومن خلال أشخاص ملتزمين بالمعنى أكثر من الصورة.
سادسًا: الأمل العملي
لا يجب أن يكون استعادة البوصلة مثالية، بل واقعية:
• لا يمكن إلغاء المؤشرات أو السوق، لكنها يمكن أن تكون أدوات، لا أهداف.
• لا يمكن حماية الجامعة تمامًا من الضغوط، لكن يمكن توجيهها.
• الأهم هو إعادة الاعتبار للفعل الأكاديمي كاختيار، لا كاستجابة مفروضة.
{ خاتمة الكتاب }
ضياع البوصلة الأكاديمية ليس مجرد مشكلة تقنية، ولا خطأ إداري، بل أزمة علاقة الإنسان بالمعرفة.
الجامعة ليست مجموعة مؤسسات، بل فضاء لإنسان يفكر ويستفسر ويجادل. حين نعيد هذا الفهم إلى قلب الجامعة، تبدأ البوصلة في العودة إلى مسارها.
الخطوة الأولى ليست ضخ تمويل إضافي، أو تطبيق نظام تقييم جديد، بل القرار الجماعي والفردي بأن تكون المعرفة أغلى من الأرقام، وأن يكون السؤال أسمى من الامتثال.
هذا الكتاب ينتهي هنا، لكن رحلة السؤال لا تنتهي أبدًا.

علوم القطيف مقالات علمية في شتى المجالات العلمية