أسطورة أمّ الدِّبس حلاوةٌ تُغوي وظلٌّ يراقب في ليل القطيف – بقلم صادق علي القطري

إلى كلّ من يؤمن بأن الأسطورة ليست خرافةً تُروى، بل مرآةٌ تعكس خوف الإنسان القديم حين كان الليلُ أكبر من أن يُؤمَن له.

مدخل إلى عالم الأسطورة
في الذاكرة الشعبية للقطيف، تشغل الأساطير مساحةً واسعة من الوجدان الجمعي، إذ كانت الأجيال الأولى تبحث في الغريب والمخيف عن تفسيرٍ لظواهر الطبيعة، ولما يشعر به الإنسان حين يختلي بالظلام، الوحدة، والرهبة، ودقات القلب الذي يتسارع مع كل همسة هواء.

من بين تلك الأساطير، تبرز شخصيةٌ لافتة تحمل اسمًا غريبًا وعذبًا في آن واحد: “أمّ الدِّبس” الكائن الذي يقف عند الحد الفاصل بين الحلاوة والخطر، بين النداء والضياع، بين الفضول والتحذير.

من أين جاءت الأسطورة؟
نشأت أسطورة أمّ الدبس في بيئةٍ خصبة يتداخل فيها الليل ببساتين النخيل، وتجري فيها العيون القديمة وصهاريج الماء، وتنتشر حولها طرقات طينية ضيقة حيث كانت تُروى عنها الحكايات. هناك، حيث يظلّ الأطفال يلعبون حتى آخر خيط من الضوء، ابتكرت المخيلة الشعبية شخصيةً تمزج بين الأنثى والظِلّ، بين الجمال والغرابة، لتُصبح رمزًا يذكّر الصغار بأن الليل ليس صديقًا دائمًا.

سُمّيت “أم الدبس” لارتباط حضورها بآثارٍ غامضة على جذوع النخل تشبه انسياب الدبس، أو لأن صوتها يأتي عذبًا ثقيلاً كطعم الدبس نفسه، حلوًا يُغري، ولكن وراءه خطرٌ ماكر.

ملامح الكائن بين الحكاية والذاكرة
تصف الرواية الشعبية أمّ الدبس بأنها امرأة ذات نصفين، نصفٌ طيّب، ونصفٌ غامض، وكأنها تمثيلٌ رمزيّ لعالم الظلام حين يخالط الضوء. وجهها نصفه نور ونصفه ظلّ، وشعرها طويل منسدل مثل خيوط السعف المبتل، وعيناها لا تُرى منهما الملامح بوضوح، بل لمعانٌ خاطف يحثّ على الاقتراب.

تظهر غالبًا في الأماكن التي يكثر فيها الماء، عند العيون، قرب الجداول، على أطراف البساتين، وفي الدروب الهادئة حين يفرغ المكان من المارّة. لا تمشي على الأرض بصوت، ولا تقترب دفعة واحدة. إنما تُسمَع قبل أن تُرى…صوتٌ رقيق، منخفض، لكنه قادر على إغواء من يسمعه، فتدفعه قدماه لاتباعه دون إدراك.

صوتٌ يشبه الدبس حلاوةٌ تقود إلى الضياع
كان الأجداد يقولون إن صوت أم الدبس أخطر من حضورها؛ فهو ليس نداءً صريحًا، بل همسٌ حلو ثقيل، ينساب في الهواء كما ينساب الدبس على جريد النخل. ولذلك كانت النساء تُحذّر أبناءهن ان “لا تطلع في الليل… لا تسمع للصوت الحلو… ترى أمّ الدبس ما تنادي إلا اللي ما يسمع كلام أهله!”

فالأسطورة لم تكن للترهيب المجرد، بل كانت إطارًا تربويًا رشيقًا يحفظ الصغار من التجوّل في أماكن خطرة ليلًا، خصوصًا قرب البِرك، الآبار، والجداول التي قد ينزلق فيها الطفل دون أن يراه أحد.

البعد الرمزي للأسطورة

من منظورٍ أعمق، تُجسّد أم الدبس فكرة الخطر المغلّف بالجمال؛ الشيء الذي يبدو لطيفًا من الخارج لكنه يحمل في داخله هلاكًا محتملًا. إنها درسٌ شعبيّ في التنبه، في الحذر من الإغراء الذي لا نعرف مصدره، وفي الإصغاء لقلوبنا حين يختلّ الإيقاع. كما أنّها تعبير عن خوف الإنسان القطيفي القديم من الليل في بيئةٍ كثيفة الأشجار والمياه، حيث تختلط الأصوات، وتزداد الظلال، وتبدو الخطوات أكثر ارتجافًا.

أمّ الدبس في الوجدان الحديث
ومع أن الزمن تغيّر، والبيوت اتّسعت، والطرق أضيئت، إلا أنّ أم الدبس لم تغادر الذاكرة. صارت جزءًا من حكايات السمر، وابتسامةً على شفاه الكبار حين يتذكرون طفولتهم، ورمزًا للحنين إلى زمنٍ كان الخوف فيه معلمًا، وكانت الأسطورة طريقًا لفهم العالم.

وفي الختام:

تبقى أسطورة أمّ الدِّبس واحدة من أجمل تجليات الخيال الشعبي في القطيف؛ أسطورةٌ تجمع بين الحلاوة والرهبة، وبين الحكمة والخرافة، وبين جمال الصوت وخطر الاتجاه نحوه. ولأن الأسطورة ليست نصًا جامدًا بل كائنًا حيًا في الذاكرة، فإن أم الدبس ستظلّ تمشي في ليالي القطيف…لا تُرى، ولكن تُهمَس. لا تقرب، ولكن تُغوي. وتبقى الحكاية أعمق من أن تُنسى.

المهندس صادق علي القطري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *