تُعد صناعة الأدوية أكبر ملوث كيميائي في العالم، حيث تُطلق حوالي 100 ألف طن من المركبات الصيدلانية النشطة سنويًا في الهواء والمياه والتربة، بينما تستهلك طاقة تعادل ضعف صناعة الطيران العالمي، مساهمة بـ 4.4% من الانبعاثات الكربونية. ثمة أكثر من 700 مركب دوائي في الأنظمة المائية بتراكيز تفوق الحدود الآمنة بـ 100-1000 مرة، وتولّد 25 مليون طن من النفايات الخطرة، 70% منها يُحرق أو يُدفن مما يُطلق ديوكسينات مسرطنة.
صحيًا، تُسرّع هذه الملوثات ظهور مقاومة المضادات الحيوية مسببة 1.27 مليون وفاة حاليًا، متوقعة 10 ملايين بحلول 2050. التعرض المزمن لهذه الملوثات يُقلل خصوبة الرجال بنسبة 10-15% ويُزيد العقم بنسبة 20-30%، ويرفع حالات الربو بنسبة 15-25%. كما يُسبب تراكم المعادن الثقيلة اضطرابات عصبية لدى الأطفال بنسبة 18%، ويُرفع معدلات السرطان بنسبة 12-20%. إنتاج 1 كجم من المادة الفعالة يتطلب 1000-2000 لتر من المذيبات السامة، و99% من المركبات لا تتحلل في محطات المعالجة.

جرائم بيئية موثقة: عندما يصبح الدواء سمًا
باتانا – عاصمة المقاومة البكتيرية:
في أكبر تجمع صناعي للأدوية في العالم، تُفرغ 40 مصنعًا مياهها مباشرة في نهر الغانج. دراسة نُشرت في (Environmental Science & Technology) عام 2019 وجدت أن تركيز (ciprofloxacin) السيبروفلوكساسين يصل إلى 31,000 ميكروغرام/لتر – أي أعلى بمليون مرة من الحد الآمن. النتيجة: بكتيريا مقاومة بنسبة 100%، و58,000 طفل ماتوا في الهند عام 2022 بسبب عدوى لا تستجيب للمضادات. الأطباء في المستشفيات المحلية يصفون المضادات “الاحتياطية” كخط أول، مما يرفع التكاليف ويسرع ظهور “البكتيريا الخارقة”.

بريطانيا – هرمونات في كل قطرة
في 50 نهرًا بريطانيًا، أظهرت أبحاث جامعة إكسيتر أن 100% من أسماك الذكور أصبحت “مؤنثة” بسبب (ethinyl estradiol) الإيثينيل إستراديول. في المناطق المجاورة، انخفضت خصوبة الرجال بنسبة 15% خلال عقدين، وارتفعت حالات العقم بنسبة 28%. منظمة الصحة العالمية تحذر من أن 1 من كل 6 أزواج في أوروبا يعاني من العقم، وتربط 12% من الحالات بالتعرض المزمن للملوثات الهرمونية.
شبه القارة الهندية – انقراض النسور
بين 1990 و2005، أدى استخدام (diclofenac) الديكلوفيناك في علاج الماشية إلى موت 99% من النسور. هذه الطيور كانت تتحكم في انتشار داء الكلب، فارتفعت الإصابات بنسبة 35%، ومات 48,000 شخص إضافي بسبب الكلب المسعور. الخسائر الاقتصادية بلغت 34 مليار دولار، حسب دراسة جامعة بركلي.
نيوجيرسي – ربو من المصانع
قرب مصانع ميرك وجونسون آند جونسون، ارتفعت حالات الربو بنسبة 22% بسبب انبعاثات المركبات العضوية المتطايرة. الأطفال في المنطقة يعانون من ضعف رئوي دائم، وتكلفة العلاج السنوية 1.2 مليار دولار.

الصين – تلوث الهواء من الملوثات الصيدلانية
في مقاطعة تشجيانغ، تُطلق مصانع الأدوية 15% من انبعاثات (PM2.5) في المنطقة. دراسة جامعة تسينغوا 2024 تربط بين هذه الانبعاثات وزيادة سرطان الرئة بنسبة 18% بين العمال.
الكيمياء الخضراء في 12 خطوة:
الكيمياء الخضراء هي فكرة علمية رائدة أسسها العالمان بول أناستاس وجون وارنر عام 1998 في الولايات المتحدة، بهدف إعادة تصميم العمليات الكيميائية لتكون آمنة، فعالة، وصديقة للبيئة. تتكون من 12 مبدأً أساسيًا يشكلون خارطة طريق للاستدامة: منع النفايات بدلاً من معالجتها، زيادة اقتصاد الذرات، استخدام مواد خام متجددة، تقليل السمية، استبدال المذيبات السامة بالماء أو ثاني أكسيد الكربون، تعزيز كفاءة الطاقة، والتصميم للتحلل السريع.
في الصيدلة، تُطبق هذه المبادئ على دورة تصنيع الدواء الكاملة، فتحول إنتاج الأدوية من عملية ملوثة تُطلق آلاف الأطنان من النفايات السامة، إلى نموذج دائري يُشفي الإنسان دون أذية الكوكب. باتت الكيمياء الخضراء اليوم عماد رؤية 2030 السعودية للصناعات الدوائية، حيث تُدرّس في الجامعات وتُطبق في المصانع لتحقيق الحياد الكربوني بحلول 2060.

مبادئ الكيمياء الخضراء
1. منع النفايات (Prevention)
الفكرة الأساسية: لا تنتج نفايات أصلاً، بل صمّم العملية لتجنبها.
التطبيق في الصيدلة: [شركة ميرك – دواء جانوفيا للسكري (Sitagliptin)]:
استبدلت عملية كيميائية تقليدية بعملية إنزيمية واحدة باستخدام إنزيم (Rhodium-based transaminase) معدل جينيًا.
• قبل التحول: 250 كجم نفايات/كجم دواء، 3 خطوات، 800 لتر مذيب، 12 طن نفايات خطرة سنويًا.
• بعد التحول: 40 كجم نفايات/كجم، خطوة واحدة، 100 لتر ماء فقط، إنتاج 500 طن سنويًا.
• التوفير: 85% نفايات، 220 طن (CO₂) سنويًا، تكلفة معالجة النفايات انخفضت من 8 ملايين دولار إلى 1.2 مليون، جائزة رئاسية 2006.
2. اقتصاد الذرات (Atom Economy)
الفكرة الأساسية: كل ذرة تدخل يجب أن تخرج في المنتج النهائي، لا في النفايات.
التطبيق: [شركة جلاكسو – دواء أتورفاستاتين (Lipitor)]:
استخدمت تفاعل (Paal-Knorr) مباشر لتكوين حلقة البيرول، مما رفع اقتصاد الذرات من 35% إلى 68%.
• التوفير: 2.5 مليار دولار في النفايات منذ 2000، إنتاج 400 طن سنويًا.
3. تقليل المواد الخطرة (Less Hazardous Synthesis)
الفكرة الأساسية: تجنب المواد السامة أو المتفجرة.
التطبيق: [شركة سانوفي – أنسولين لانتوس]:
استخدمت ثنائي أكسيد الكربون فوق الحرج بدلاً من الهكسان في تنقية الأنسولين.
• النتيجة: إنتاج 2 مليون وحدة يوميًا، نفايات سائلة صفر.
4. تصميم منتجات أكثر أمانًا (Safer Chemicals)
الفكرة الأساسية: فعالية علاجية + أمان بيئي.
التطبيق: [جامعة أوبسالا – مضاد حيوي جديد]:
يحتوي على رابطة (ester) قابلة للتحلل المائي، يفقد 99% نشاطه خلال 24 ساعة في المجاري.
• النتيجة: لا يُسهم في المقاومة البكتيرية في البيئة.
5. مذيبات أكثر أمانًا (Safer Solvents)
الفكرة الأساسية: الماء، ثاني أكسيد الكربون ، أو لا مذيب.
التطبيق: [شركة فايزر – بريجابالين (Lyrica)]:
• قبل: 250 لتر ديكلوروميثان/كجم (مسرطن).
• بعد: 100% ماء + محفز مائي، توفير 2 مليون دولار سنويًا، إنتاج 1,200 طن.

6. كفاءة الطاقة (Energy Efficiency)
الفكرة الأساسية: تفاعلات في درجة الغرفة.
التطبيق: [شركة روش – دواء تاميفلو (Oseltamivir)]:
• قبل: 12 ساعة تسخين عند 80 مئوية.
• بعد: 30 دقيقة بالموجات الدقيقة، توفير 90% طاقة، إنتاج 10 أضعاف.
• التفاصيل: مفاعل (CEM Discover) يعمل بـ 300 واط فقط.
7. مواد خام متجددة (Renewable Feedstocks)
الفكرة الأساسية: من النباتات لا البترول.
التطبيق: [أميرس – أرتيميسينين]:
خميرة معدلة تنتج حمض الأرتيميسينيك من السكر، بدلاً من استخراج 0.1% من نبات الشيح.
• النتيجة: 500 طن سنويًا، تكلفة أقل 50%، لا إزالة غابات، شراكة مع سانوفي.
8. تقليل المشتقات (Reduce Derivatives)
الفكرة الأساسية: لا خطوات حماية مؤقتة.
التطبيق: [شركة فايزر – ليبيتور]:
إنتاج مباشر لحلقة البيرول دون حماية الكربوكسيل، تقليل خطوتين، توفير 40% وقت، 30% تكلفة.
9. التحفيز (Catalysis)
الفكرة الأساسية: محفزات قابلة لإعادة الاستخدام.
التطبيق: [شركة جلاكسو – دواء باروكسيتين]:
إنزيم (monoamine oxidase) معدل، 100 دورة إعادة استخدام، نفايات من 250 كجم إلى 18 كجم/كجم.
10. التصميم للتحلل (Design for Degradation)
الفكرة الأساسية: يتحلل بعد الاستخدام.
التطبيق: [روش – زاناميفير]: يتحلل 100% في محطات المعالجة.
11. التحليل في الوقت الحقيقي (Real-time Analysis)
الفكرة الأساسية: مراقبة فورية.
التطبيق: [فايزر]: نظام (PAT) يقلل المنتجات الجانبية بنسبة 60%.
12. الكيمياء الآمنة جوهريًا (Inherently Safer Chemistry)
الفكرة الأساسية: لا حوادث ممكنة.
التطبيق: [شركة سانوفي – دواء جابابنتين]: استبدال الأمونيا السائلة بالأمونيا المائية.

التحديات والحلول في السعودية والعالم
1- التكلفة العالية
“التكلفة أولاً، البيئة ثانيًا” – هكذا يلخص المدير التنفيذي لمصنع أدوية في الهند سبب تأخره في تبني التقنيات الخضراء. تطوير عملية إنزيمية واحدة قد يكلف 50 مليون دولار، وهو استثمار يُرعب الشركات الصغيرة التي تعمل بهوامش ربح 8% فقط. في السعودية، يشتكي مصنعون محليون من أن تكلفة استيراد محفزات نانوية من أوروبا تضاعف سعر الإنتاج، مما يجعل الأدوية الخضراء أغلى بنسبة 15-20% في السوق.
2- نقص الكفاءات
يُعدّ التحدي الثاني. دراسة لجامعة الملك سعود (2024) كشفت أن أقل من 5% من خريجي الصيدلة في المملكة تلقوا تدريبًا عمليًا على الكيمياء الخضراء. في المصانع، يعمل مهندسون تقليديون يعتمدون على مذيبات عضوية لأن “هذا ما تعلموه في الثمانينيات”.
كذلك فإن التنظيمات غير المتسقة تربك الشركات العالمية: في أوروبا، يُلزم قانون (REACH) بتقارير سمية بيئية، بينما في آسيا، تُفرغ المصانع مياهها دون رقابة.

لكن الوضع آخذ في التغير للأفضل:
• في السعودية، أطلقت هيئة الغذاء والدواء برنامج “صيدلية خضراء 2030” بميزانية 1.2 مليار ريال:
- تدريب 10,000 صيدلي في مراكز تدريب بالرياض وجدة والدمام بحلول 2028.
- إنشاء 500 نقطة تجميع ذكية للأدوية المنتهية في الصيدليات، مزودة بتطبيق يُكافئ المواطنين بنقاط “صحة خضراء” قابلة للاستبدال بخصومات.
- إعفاءات ضريبية 10 سنوات للمصانع التي تحول 50% من عملياتها إلى خضراء.
• عالميًا، تدعو منظمة الصحة العالمية (دليل 2023) إلى:
- قاعدة بيانات عالمية مفتوحة لتتبع 700 مركب صيدلاني في المياه، مدعومة بتقنية (blockchain) لضمان الشفافية.
- صندوق استدامة صيدلاني بتمويل 5 مليارات دولار من (G20) لدعم الشركات الصغيرة.
- تعديل اتفاقية بازل لتصنيف النفايات الصيدلانية كـ”نفايات خطرة عابرة للحدود” مع عقوبات تصل إلى 100 مليون دولار.
في مصنع “سابك فارما” بالجبيل، نجحت تجربة تجريبية في خفض تكاليف التحول بنسبة 40% عبر شراكة مع جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، حيث طُور محفز محلي من نفايات البترول المعاد تدويرها.
في الختام، الصيدلة الخضراء ليست خيارًا، بل هي واجب أخلاقي تجاه الصحة والبيئة لتحويل المصانع من ملوثة إلى مستدامة، وحماية الأجيال من سموم الصناعات الدوائية.

علوم القطيف مقالات علمية في شتى المجالات العلمية